الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَوْلُ الله تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6].
•---------------------------------•
ثانيًا: استعاذة بغير الله ممنوعة، وهي نوعان:
الأول: الاستعاذة بالمخلوق الحي الحاضر فيما لا يستطيعه إلا الله، فهذا شرك أكبر.
الثاني: الاستعاذة بالمخلوق الحي الغائب أو الميت فيما لا يستطيعه إلا المخلوق الحي الحاضر، وهي شرك أيضًا.
وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} ذكر المفسرون أنه كان الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض، استعاذ بالجن، فقال: أعوذ بسيد هذا الوادي أو بعزيز هذا المكان من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح (1).
قوله: {يَعُوذُونَ} أي: يستعيذون، من العوذ، وهو الالتجاء إلى الشيء طلبًا للنجاة.
وما
الفرق بين العياذ واللياذ
؟
الجواب: العياذ يكون لدفع الشر مما يخاف، واللياذ يكون لطلب جلب الخير فيما يؤمل، ومن ذلك قول المتنبي، وهو يخاطب ممدوحه، ولا يصلح ما قاله إلا لله:
يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ
…
وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّنْ أُحَاذِرُهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ
…
وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ (2)
(1) ينظر: جامع البيان (23/ 654)، وتفسير ابن كثير (8/ 239).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 114) وفتح المجيد ص (162)، والقول المفيد (1/ 250).
وَعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ مِنْ شر مَا خَلَقَ لَمْ يَضرَّهُ شيءٌ حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
•---------------------------------•
{فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أي: زادتهم الجن خوفًا وإرهابًا وذعرًا، وذلًّا وصغارًا، وازداد الجن طغيانًا وتكبرًا.
«وَعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ» حديث خولة رواه مسلم كما ذكر المصنف (2).
«مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا» يشمل منزل السفر والحضر، والمنزل المؤقت، والمنزل الدائم؛ لأن كلمة (مَنْزِلًا) جاءت نكرة في سياق الشرط؛ فتفيد العموم.
«أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله» يشمل جميع كلام الله تعالى، القرآن وغيره، وفي هذا دليل على أن كلمات الله غير مخلوقة؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
قال الخطابي رحمه الله: «كان أحمد بن حنبل يستدل بقوله: (بكلمات الله التامة)، على أن القرآن غير مخلوق؛ وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق وما من كلام مخلوق إلّا وفيه نقص والموصوف منه بالتمام هو غير المخلوق وهو كلام الله سبحانه» (3).
(1) تيسير العزيز الحميد ص (172).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (4/ 2081) رقم (2708) من طريق سعد بن أبي وقاص، عن خولة بنت حكيم السلمية رضي الله عنها، مرفوعًا.
(3)
معالم السنن (4/ 332، 333).
«التَّامَّاتِ» «قيل: معناه: الكاملة التي لا يدخلها نقص ولا عيب كما يدخل كلام البشر.
وقيل: التامة: النافعة الشافية» (1)، والأقرب أنها تشمل المعنيين معًا ولا تعارض بينهما.
وقد جاء التصريح بتمام الكلمات في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]، والإشارة إلى التمام في قوله تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109].
«مِنْ شر مَا خَلَقَ» أي: من شر كل ذي شر من الإنس، والجن، والدواب، والهوام، والرياح، والصواعق، وغيرها.
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «وليس كل ما خلق الله فيه شر، لكن تستعيذ من شره إن كان فيه شر، لأن مخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
1) شر محض: كالنار وإبليس باعتبار ذاتيهما، أما باعتبار الحكمة التي خلقهما الله من أجلها، فهي خير.
2) خير محض: كالجنة، والرسل، والملائكة.
3) فيه شر وخير: كالإنس، والجن، والحيوان» (2).
«لَمْ يَضرَّهُ شيءٌ» نكرة في سياق النفي، فتفيد عموم الأشياء التي يأتي منها الضرر والشرور.
(1) إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 206).
(2)
القول المفيد (1/ 253، 254).
«حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» قال القرطبي رحمه الله: «هذا خبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلًا وتجربة، فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغتني عقرب
…
فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات» (1).
ومناسبة الحديث للباب: أن فيه بيان الاستعاذة المشروعة والإرشاد إليها، وهي الاستعاذة بكلمات الله التي هي صفة من صفاته، وبيان أنَّ الاستعاذة المشروعة نافعة للمستعيذ، خلافًا لاستعاذة المشركين الشركية بالجن وغيرهم، والتي لا تفيد ولا تنفع بل تزيد المستعيذ خوفًا وذعرًا.
وذكر هذا الحديث بعد الآية يدل على فقه المصنف رحمه الله، حيث ذكر الاستعاذة الممنوعة في الآية، ثم ذكر البديل لذلك وهو الاستعاذة المشروعة في الحديث.
(1) المفهم (7/ 3637).