الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ مَا جَاءَ فِي حِمَايَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِمَى التَّوْحِيدِ
وَسَدِّهِ طُرُقَ الشركِ
•---------------------------------•
مقصود الترجمة: بيان مدى حماية النبي صلى الله عليه وسلم لِحِمَى التوحيد عَمَّا يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص، وسده لذرائع الشرك المفضية إليه (1).
ومناسبة الباب للأبواب قبله:
أنه قد سبق بابٌ مشابهٌ لهذا الباب وهو (باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وسده كل طريق يوصل إلى الشرك)، فما الفرق بين البابين؟
الفرق بين البابين يتضح من وجهين:
الوجه الأول: أَنَّ الباب السابق المتقدم يتعلق بحماية التوحيد من جهة الأفعال، وهذا من جهة الأقوال (2).
الوجه الثاني: أَنَّ المؤلف عبَّر في الباب السالف بـ (جناب التوحيد)، وهنا بـ (حمى التوحيد) وفرقٌ بين الجناب والحمى؛ لأن الجناب بعض الشيء، والحمى حول الشيء، ففي الباب الآنف أراد المصنف بيان حماية النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد نفسه من أن يقع فيه شركٌ.
وهنا أراد بيان حماية النبي صلى الله عليه وسلم لحمى التوحيد: أي الأشياء التي هي حول التوحيد، وذلك بعد حمايته للتوحيد (3).
(1) فتح المجيد ص (504، 505).
(2)
ينظر: القول السديد ص (189).
(3)
ينظر: إعانة المستفيد (2/ 308).
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الشِّخِيرِ رضي الله عنه قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: أَنْتَ سيدُنَا، فَقَالَ:«السيدُ الله تبارك وتعالى» ، قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا، وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا، فَقَالَ:«قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشيطَانُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ.
•---------------------------------•
حديث عبد الله بن الشخير عند أبي داود كما قال المصنف وعند غيره (1)، وإسناده صحيح.
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص (83) رقم (211)، وأبو داود (4/ 254) رقم (4806)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3/ 153) رقم (1484)، والنسائي في السنن الكبرى (9/ 103) رقم (10005)، والبيهقي في الأسماء والصفات (1/ 68) رقم (33)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (4/ 71) من طريق أبي نضرة المنذر بن مالك،
وأحمد في مسنده (26/ 234) رقم (16307)، و (26/ 241) رقم (16316)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3/ 153) رقم (1483)، والنسائي في السنن الكبرى (9/ 102) رقم (10003)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/ 63)، وابن منده في التوحيد (2/ 132) رقم (277)، وقوام السنة في الحجة (1/ 168) رقم (48)، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (9/ 466) رقم (444) من طريق قتادة بن دعامة،
وأحمد أيضًا في مسنده (26/ 237) رقم (16311)، وابن أبي الدنيا في الصمت ص (78) رقم (73)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3/ 153) رقم (1482)، والنسائي في السنن الكبرى (9/ 102) رقم (10004)، وعمل اليوم والليلة ص (249) رقم (246)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (3/ 1684)، والبيهقي في الآداب ص (128) رقم (310)، والبيهقي في المدخل إلى السنن ص (333) رقم (537)، وابن الأثير في أسد الغابة (3/ 171)، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (9/ 467) رقم (446) من طريق غيلان بن جرير،
ثلاثتهم (أبو نضرة، وقتادة، وغيلان) عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه، مرفوعًا.
«السيدُ الله تبارك وتعالى» : أي: السيادة الكاملة لله تعالى، وأن الخلق جميعهم عبيد له، والسيد إذا أُطْلِقَ على الله تعالى فهو بمعنى المالك والمولى والرب، وقد سبق الكلام فيما يتعلق بذلك في قوله:(لا يقول: عبدي وأمتي).
قوله: (تبارك) قال العلماء: معنى تبارك، أي: كثرت بركاته وخيراته، ولهذا يقولون: إن هذا الفعل لا يوصف به إلا الله، فلا يقال: تبارك فلان؛ لأن هذا الوصف خاص بالله.
والبركة يصح إضافتها إلى الإنسان إذا كان أهلًا لذلك، قال أسيد بن حضير حين نزلت آية التيمم بسبب عقد عائشة الذي ضاع منها:«مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ» (1)، وهو دليل على جواز قول:(هذه من بركاتك)، و (لأجلك كانت البركة)، وما سوى ذلك مما هو دارج على ألسنة الناس، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم مبارك كما جاء في صحيح البخاري (2):«إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ المُسْلِمِ» .
«وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشيطَانُ» : استجراه بمعنى: جذبه وجعله يجري معه؛ أي: لا يستميلنكم الشيطان ويجذبنكم إلى أن تقولوا قولا منكرا؛ فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما ينبغي أن يفعل، ونهاهم عن الأمر الذي لا ينبغي أن يفعل؛ حماية للتوحيد من النقص أو النقض. وقال في النهاية:«لا يستجرينكم الشيطان» ؛ أي: لا يستغلبنكم فيتخذكم جَرِيًّا؛ أي: رسولا ووكيلا (3).
(1) أخرجه البخاري 1/ 127 رقم (327).
(2)
(7/ 80) رقم (5444) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(3)
القول المفيد (2/ 516).
وهل يتعارض النهي عن قولهم: (سيدنا) مع قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم)؟
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «جرى شُرَّاح هذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن قول سيدنا، فحاولوا الجمع بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» (1)، وقوله:«قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» (2)، وقوله في الرقيق:«وَلْيَقُلْ سَيِّدِي وَمَوْلَايَ» بواحد من ثلاثة أوجه:
الأول: أن النهي على سبيل الكراهة والأدب، والإباحة على سبيل الجواز.
الثاني: أن النهي حيث يخشى منه المفسدة، وهي التدرج إلى الغلو والإباحة إذا لم يكن هناك محذور.
الثالث: أن النهي في الخطاب، أي: أن تخاطب الغير بقولك: أنت سيدي أو سيدنا، بخلاف الغائب؛ لأن المخاطب ربما يكون في نفسه عجب وغلو وترفع، ثم إن فيه شيئًا آخر، وهو خضوع هذا المتسيد له وإذلال نفسه له بخلاف ما إذا جاء من الغير، مثل:«قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» ، أو على سبيل الغيبة، كقول العبد: قال سيدي ونحو ذلك، لكن هذا يرد عليه إباحته صلى الله عليه وسلم للرقيق أن يقول لمالكه: سيدي.
والذي يظهر لي أن لا تعارض أصلًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم أن يقولوا بقولهم، لكن نهاهم أن يستجريهم الشيطان بالغلو مثل (السيد)؛ لأن السيد المطلق هو الله تعالى، وعلى هذا فيجوز أن يقال: سيدنا وسيد بني فلان ونحوه.
(1) أخرجه مسلم 4/ 1782 رقم (2278).
(2)
أخرجه البخاري 3/ 1107 رقم (2878)، ومسلم 3/ 1388 رقم (1768).
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ الله يَا خَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا، وَسيدَنَا وَابْنَ سيدِنَا، فَقَالَ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشيطَانُ، أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللهُ عز وجل» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ.
•---------------------------------•
ولكن بشرط أن يكون الموجه إليه السيادة أهلًا لذلك، أما إذا لم يكن أهلًا كما لو كان فاسقًا أو زنديقًا، فلا يقال له ذلك حتى ولو فرض أنه أعلى منه مرتبة أو جاهًا، وقد جاء في الحديث:«لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدٌ؛ فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عز وجل» (1)، فإذا كان أهلًا لذلك وليس هناك محذور، فلا بأس به، وأما إن خشي المحذور أو كان غير أهل، فلا يجوز» (2).
«وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا قَالُوا
…
» الحديث عند النسائي وغيره (3)، وإسناده صحيح.
(1) أخرجه أبو داود 2/ 713 رقم (4977)، وأحمد 5/ 346 رقم (22989) وصححه النووي في رياض الصالحين ص (480).
(2)
القول المفيد 3/ 351.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده كما في (إتحاف الخيرة)(7/ 77)، وأحمد في مسنده (20/ 23) رقم (12551)، وعبد بن حميد في مسنده (المنتخب) ص (397) رقم (1337)، والبخاري في التاريخ الأوسط (1/ 11) من طريق حسن بن موسى،
وأحمد أيضًا في مسنده (21/ 167) رقم (13530)، و (21/ 216) رقم (13596)، والبيهقي في المدخل إلى السنن ص (332) رقم (536) من طريق عفان بن مسلم،
وعبد بن حميد في مسنده (المنتخب) ص (390) رقم (1309)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 252)، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (5/ 25) رقم (1626) من طريق حجاج بن منهال،
والنسائي في السنن الكبرى (9/ 103) رقم (10006)، وعمل اليوم والليلة ص (249) رقم (248) من طريق العلاء بن عبد الجبار،
«وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشيطَانُ» : أي يستهِيمَنَّكم، أو يستَمِيلَنَّكم أو يذهب بعقولكم، أو يزين لكم هواكم، وتتبعوا طرقه حتى تبلغوا الغلو (1).
و(يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ): إما أن تكون من الهُوَى: بمعنى يوقعكم في الهوى الذي يضل عن سبيل الله، أو (يستهوينكم): من الهَوِي وهو: الوقوع في الهلاك، أي: لا يوقعكم الشيطان في الضلال (2).
«أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ» : «أرشدهم أن يصفوه بصفتين هما أعلى مراتب العبودية، وقد وصفه الله بهما في مواضع من كتابه» (3).
والنسائي في السنن الكبرى أيضًا (9/ 103) رقم (10007)، وعمل اليوم والليلة ص (250) رقم (249)، وابن منده في التوحيد (2/ 133) رقم (278) من طريق بهز بن أسد،
وابن حبان في صحيحه (14/ 133) رقم (6240)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (8/ 1478) رقم (2675)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (4/ 70) والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (5/ 26) رقم (1629) من طريق هدبة بن خالد،
والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 498) من طريق آدم بن أبي إياس،
سبعتهم (حسن بن موسى، وعفان، وحجاج، والعلاء، وبهز، وهدبة، وآدم) عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، مرفوعًا.
وقد قرن البخاري والنسائي في الموضع الأول من الكبرى وعمل اليوم والليلة بثابت حميد بن أبي حميد الطويل، واقتصر البخاري على المرفوع دون القصة.
وأخرجه أحمد في مسنده (21/ 166) رقم (13529)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 502) رقم (4529) من طريق مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس، مرفوعًا.
(1)
ينظر: حاشية كتاب التوحيد ص (395)، والقول المفيد (2/ 519).
(2)
ينظر: إعانة المستفيد (2/ 311).
(3)
حاشية كتاب التوحيد ص (395).
وهذان الوصفان أحسن وأبلغ وصف يتصف به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك وصفه الله تعالى بالعبودية في أعظم المقامات، فوصفه بها في مقام إنزال القرآن عليه، قال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1].
ووصفه بها في مقام الإسراء، قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، ووصفه بها في مقام المعراج، قال تعالى:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]، ووصفه في مقام الدفاع عنه والتحدي، قال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23].
وكذلك بالنسبة للأنبياء، قوله تعالى:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الأسراء: 3]، وهذه العبودية خاصة، وهي أعلى أنواع العبودية الخاصة.
«وقد تطرف في الرسول صلى الله عليه وسلم طائفتان:
- طائفة غلت فيه حتى عبدته، وأعدته للسراء والضراء، وصارت تعبده وتدعوه من دون الله، وهم غلاة الرافضة، والمتصوفة.
- وطائفة كذبته، وزعمت أنه كذاب، ساحر، شاعر، مجنون، كاهن، ونحو ذلك، وهم المشركون، والمنافقون.
وفي قوله: (عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ) رد على الطائفتين» (1).
(1) القول المفيد (2/ 521).
«مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللهُ عز وجل» : هذا بيان الحكمة في منعه صلى الله عليه وسلم؛ أنه خشي عليهم في مدحهم له أن يرفعوه فوق منزلته التي أنزله الله وهي العبودية والرسالة، لئلا يعتقدوا فيه جانب الربوبية، كما حصل للنصارى في حق عيسى عليه الصلاة والسلام (1).
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: «والمقصود من هذا سد الذرائع التي يأتي بها الناس الآن من الغلو؛ فقد يجرهم إلى أن يعبدوه من دون الله ويدعوه ويستغيثوا به ويزعموا أنه يعلم الغيب وغير ذلك» (2).
والخلاصة: «أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يُمدح بغير ما وصفه الله به؛ صيانةً للتوحيد، وسدًّا لباب الغلو المُفضي إلى الشرك» (3).
(1) إعانة المستفيد (2/ 311).
(2)
التعليق المفيد ص (280).
(3)
ينظر: الملخص في شرح كتاب التوحيد ص (426، 427).