الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ مَا جَاءَ فِي الذَّبْحِ لِغَيْرِ الله
•---------------------------------•
مقصود الترجمة بيان حكم الذبح لغير الله تعالى، وأنه من الشرك الأكبر.
ومناسبة الباب للأبواب السابقة: أَنَّ تلك الأبواب كانت عن الشرك الأصغر؛ فناسب هنا أن يبدأ بذكر أنواع الشرك الأكبر؛ لأن خطة المصنف أَنْ يتقدم في ترتيب هذا الأمر تصاعديًّا، من الأدنى إلى الأعلى، والأبواب السابقة في الشرك الأصغر والوسائل المفضية إلى الشرك، وهذا الباب وما بعده في الشرك الأكبر.
وقوله: «مَا جَاءَ فِي الذَّبْحِ لِغَيْرِ الله» أي: ما جاء من الوعيد في الذبح لغير الله، وبيان أنه من الشرك بالله.
ولم يجزم المصنف بالحكم في هذا الباب؛ لأن مسألة الذبح لغير الله فيها تفصيل «ولا شك أنه يرى تحريم الذبح لغير الله على سبيل التقرب والتعظيم، وأنه شرك أكبر، لكنه أراد أن يمرن الطالب على أخذ الحكم من الدليل، وهذا نوع من التربية العلمية، فإن المعلم أو المؤلف يدع الحكم مفتوحًا، ثم يأتي بالأدلة لأجل أن يكل الحكم إلى الطالب، فيحكم به على حسب ما سيق له من هذه الأدلة» (1).
و
«الذبح لغير الله ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يذبح لغير الله تقربًا وتعظيمًا؛ فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة.
القسم الثاني: أن يذبح لغير الله فرحًا وإكرامًا؛ فهذا لا يخرج من الملة، بل هو من الأمور العادية التي قد تكون مطلوبة أحيانًا، فالأصل أنها مباحة.
(1) ينظر: القول المفيد (1/ 214).
وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الآية، [الأنعام: 162].
•---------------------------------•
فلو قدم السلطان إلى بلد، فذبحنا له، فإن كان تقربًا وتعظيمًا؛ فإنه شرك أكبر، أما لو ذبحناها له إكرامًا وضيافة، وطبخت، وأكلت؛ فهذا من باب الإكرام، وليس بشرك» (1).
قوله: {قُلْ} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله، معلنًا لهم قيامك بالتوحيد الخالص.
{إِنَّ صَلَاتِي} الصلاة لغةً: الدعاء (2)، وشرعًا: عبادة لله ذات أقوال، وأفعال معلومة مخصوصة، مفتَتَحة بالتكبير، مختَتَمة بالتسليم، وسُمِّيت صلاة؛ لاشتمالها على الدعاء (3).
{وَنُسُكِي} أي: ذبحي، وقيل المراد الأضحية؛ لأنها تسمى نسكًا، وكذلك كل ذبيحة على وجه القربة إلى الله تعالى فهي نسك. وقيل: تعني العبادة وجميع أنواع الطاعات، من قولك: نسك فلان نسكًا إذا تعبد.
{وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: أحيا لله وأموت في سبيل الله. كما قال معاذ بن جبل: «أَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي» (4) أي: أتقوى بهذا النوم على طاعة الله أو أعطي بدني حقه امتثالًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» (5).
(1) المصدر السابق (1/ 214).
(2)
ينظر: الصحاح (6/ 2402)، ولسان العرب (14/ 464).
(3)
ينظر: المبدع في شرح المقنع (1/ 263)، والروض المربع ص (60).
(4)
أخرجه البخاري (4/ 1578) رقم (4086).
(5)
أخرجه البخاري (2/ 697) رقم (1874).
وَقَوْلِهِ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].
•---------------------------------•
ومناسبة الآية للباب: أن الذبح عبادة عظيمة؛ ولذلك جاءت مقترنة بالصلاة، فإذا ثبت أنها عبادة فصرفها لغير الله شرك أكبر، كما أن صرف الصلاة وغيرها من العبادات لغير الله شرك أكبر.
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} هذا أمر من الله تعالى لنبيه بأن يجعل صلاته وذبيحته خالصة له تعالى، خلافًا للذين يشركون في عباداتهم وينحرون لغير الله.
والنحر: من نحر ينحر نحرا إذا أصاب نحره، ونحر البعير ينحره نحرًا: طعنه في منحره، حيث يبدو الحلقوم من أعلى الصدر (1).
وللمفسرين أقوال في المراد بالصلاة، والنحر، في الآية، فقيل: المراد بالصلاة: صلاة عيد الأضحى، والمراد بالنحر: نحر الأضاحي يوم العيد.
وقيل معناه: اجعل يدك اليمنى على اليسرى عند النحر في الصلاة.
ولعل الأقرب إلى الصواب أن الصلاة هنا عامة، والنحر أيضًا عام، ويؤيد ذلك قوله تعالى في الآية السابقة:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فالذبح قرن بالصلاة ولم يخصص، وكذلك الصلاة لم تخصص.
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «وقوله: (وانحر): مطلق، فيدخل فيه كل ما ثبت في الشرع مشروعيته، وهي ثلاثة أشياء: الأضاحي، والهدايا، والعقائق» (2).
ومناسبة الآية للباب: كمناسبة الآية التي قبلها، وهي أن النحر عبادة يجب صرفها إلى الله تعالى، ومن صرفها لغيره فهو مشرك شركًا أكبر.
(1) ينظر: الصحاح (2/ 824)، ومقاييس اللغة (5/ 400)، ولسان العرب (5/ 195).
(2)
القول المفيد (1/ 220).
عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله، لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ» رَوَاهُ مُسْلِمُ.
•---------------------------------•
حديث عليٍّ رضي الله عنه عند مسلم كما ذكر المصنف (1).
«لَعَنَ اللهُ» اللعن الطرد والإبعاد من الخير، وجمع اللعنة: لِعانٌ ولَعَناتٌ.
واللعن من الله: الطرد والإبعاد للملعون عن رحمته، ومن الإنسان: السب والدعاء، وهو طلب الطرد والإبعاد من رحمة الله لهذا العبد (2).
«مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله» قال النووي رحمه الله: «وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى، كمن ذبح للصنم أو الصليب أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما أو للكعبة ونحو ذلك، فكل هذا حرام ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلمًا أو نصرانيًّا أو يهوديًّا
…
فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفرًا» (4).
«لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ» أَي: أباه وأمه وإن عَلَوَا.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (3/ 1567) رقم (1978) من طريق عامر بن واثلة، عن علي رضي الله عنه.
(2)
ينظر: الصحاح (6/ 2196)، والنهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 255).
(3)
القول المفيد (1/ 222).
(4)
شرح النووي على مسلم (13/ 141).
ولعن الولد لوالديه قد يكون من باب التسبب، وذلك بأن يلعن والد رجلٍ آخر، فيرد عليه هذا فيسب والده، وقد فسَّر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في خبر سب الرجل والديه، حيث قال:«إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ» (1). قال المناوي رحمه الله: «ولعل وجه تفسيره بذلك استبعاده أن يسب الرجل والديه بالمباشرة، فإن وقع سبهما يكون واقعًا بالتسبب» (2).
وقد يكون اللعن من الولد لوالديه مباشرًا؛ وهذا لا شك أنه أعظم وأخطر من الأول، ولا يتوقع صدوره من مسلم، «فإذا استحق من تسبب لسبهما اللعنة فكيف حال المباشر؟ ! » (3).
«لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا» أي: ضمه إليه وحماه. «والإحداث يشمل الإحداث في الدين: كالبدع. والإحداث في الأمر، أي في شؤون الأمة: كالجرائم وشبهها» (4).
«لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ» جمع منارة، وهي العلامة التي تجعل في الحدود بين أرضين.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (8/ 3) رقم (5973)، ومسلم (1/ 92) رقم (90) من طريق سعد بن إبراهيم، عن حميد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(2)
فيض القدير (5/ 275).
(3)
المصدر السابق الموضع نفسه.
(4)
القول المفيد (1/ 223).
ومناسبة الحديث للباب: قوله: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله» ؛ واللعن لا يأتي إلا على كبيرة من الكبائر، وهذا مؤشر على خطورة الذبح لغير الله، وتدل الأدلة الأخرى على أنه شرك.
ما حكم اللعن على سبيل العموم؟
ظاهر هذا الحديث جواز لعن الفاسقين على العموم، وقد لعن الله الظالمين على العموم، فقال:{فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44].
وأيضًا في سورة هود {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] وتقدم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن لعنًا عامًّا، كما في لعن الواشمة والمستوشمة، والواشرة، والمستوشرة، والواصلة والمستوصلة، والمتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال، واليهود والنصارى، ومن لعن والديه.
وما حكم لعن المعين الفاسق؟
الجواب: اختلف فيه العلماء على قولين:
القول الأول: يجوز، واختاره ابن الجوزي وغيره.
القول الثاني: لا يجوز، وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب الأكثر.
وقد جاءت جملة من الأحاديث في النهي عن اللعن، منها:
1.
حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا» (1).
(1) أخرجه مسلم (4/ 2005) رقم (2597).
وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «دَخَلَ الجَنَّةَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ، وَدَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ» ، قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ الله؟
•---------------------------------•
2.
حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (1).
3.
حديث أبي هريرة قال: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» (2).
4.
عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» (3).
«وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ» الحديث رواه أحمد في الزهد وغيره (4)، موقوفًا على سلمان، وليس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذكر المصنف، ولعله تبع ابن القيم في ذلك (5).
(1) أخرجه مسلم (4/ 2006) رقم (2598).
(2)
أخرجه مسلم (4/ 2006) رقم (2599).
(3)
أخرجه مسلم (1/ 104) رقم (110).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 473) رقم (33038) من طريق مخارق بن خليفة،
وأحمد في الزهد ص (17) رقم (84)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 203)، والخطيب البغدادي في الكفاية ص (185) من طريق سليمان بن ميسرة،
وابن الأعرابي في معجمه (2/ 862) رقم (1796)، والبيهقي في شعب الإيمان (9/ 457) رقم (6962) من طريق الحارث بن شبيل،
وأبو نعيم في الحلية (1/ 203) معلقًا من طريق قيس بن مسلم،
أربعتهم (مخارق، وسليمان، والحارث، وقيس) عن طارق بن شهاب، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه موقوفًا عليه. وتحرف (سلمان) في المطبوع من الزهد لأحمد إلى (سليمان)، وتحرف أيضًا (الحارث ابن شبيل) في المطبوع من شعب الإيمان إلى (الحارث عن شبل).
وأخرجه أبو نعيم في الحلية الموضع السابق معلقًا عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور بن المعتمر، عن المنهال بن عمرو، عن حيان بن مرثد، عن سلمان بنحوه.
(5)
حيث قال في الجواب الكافي ص (35): «وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية، حدثنا الأعمش، عن سليمان بن ميسرة، عن طارق بن شهاب يرفعه، قال: دخل رجل الجنة في ذباب
…
إلخ».
قَالَ: «مَرَّ رَجُلانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ ....................................
•---------------------------------•
وقول المصنف في نهاية الحديث: (رواه أحمد) يوهم أنه في مسنده، وليس كذلك، بل هو في الزهد كما سبق.
والأثر صحيح موقوفًا، ولم يصح مرفوعًا (1)، ولكن له حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال بالرأي، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون ذلك من الإسرائيليات (2).
«دَخَلَ الجَنَّةَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ، وَدَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ» أي: بسبب ذباب؛ لأن (في) هنا للسببية، ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«دَخَلَت امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ» (3)، أي: بسبب هرة.
«مَرَّ رَجُلانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ» الصنم ما له شكل وصورة، ويطلق عليه الوثن أيضًا؛ لأن الوثن يطلق على ما له صورة وعلى غيره (4).
(1) وفيه ثلاث علل:
الأولى: أن طارق بن شهاب اتفقوا على أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم واختلفوا في صحبته، والأكثرون على أنه صحابي، لكن إذا قلنا: إنه صحابي، فلا يضر عدم سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن مرسل الصحابي حجة، وإن كان غير صحابي، فإنه مرسل غير صحابي، وهو من أقسام الضعيف.
الثانية: أن الحديث معنعن من قبل الأعمش، وهو من المدلسين.
الثالثة: أن الإمام أحمد رواه عن طارق عن سلمان موقوفًا من قوله، وكذا أبو نعيم وابن أبي شيبة، فيحتمل أن سلمان أخذه عن بني إسرائيل.
وهذا الأثر لا يوجد في دواوين السنة مرفوعًا.
(2)
ينظر: القول المفيد (1/ 224)، وسلسلة الأحاديث الضعيفة (12/ 722).
(3)
أخرجه البخاري 3/ 1205 رقم (3140) من حديث ابن عمر رضي الله عنهم.
(4)
ينظر: معجم الفروق اللغوية ص (323)، والنهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 151)، وتاج العروس (36/ 239).
لَا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شيئًا، فَقَالُوا لأَحَدِهِمَا: قَرِّبْ، قالَ: لَيْسَ عَنْدِي شيءٌ أُقَرِّبُ، قَالُوا لَهُ: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا، فَقَرَّبَ ذُبَابًا، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَدَخَلَ النَّارَ.
•---------------------------------•
«لَا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شيئًا» أي: لا يمر أحدٌ بهذا الصنم ويتعداه إلا بعد أن يقدم له قربانًا، ومن لم يقرب له شيئًا ضربت عنقه.
«فَقَرَّبَ ذُبَابًا» أي: قتل ذبابًا - وهو الحشرة المعروفة - تقربًا للصنم.
«فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ» أي: تركوه وسبيله، ولم يتعرضوا له بشيء.
«فَدَخَلَ النَّارَ» أي: دخل النار بسبب الذباب الذي قرَّبه إلى الصنم، وهذا محل الشاهد من الحديث للباب؛ لأن قتل الذباب تقربًا للصنم بمنزلة الذبح له، وهذا المُقَرَّب بالرغم من أنه حقيرٌ كان سببًا لدخول النار؛ لأنه صُرِفَ لغير الله تعالى.
ومن هذا يستفاد أنَّ صرف أي شيء مهما كان حقيرًا لغير الله تعالى على وجه التقرب والعبادة فهو شرك موجب لفاعله النار.
قال سليمان آل الشيخ رحمه الله: «في هذا بيان عظمة الشرك ولو في قليل، وأنه يوجب النار» (1).
وأما من فعل ذلك وهو لا يقصد التقرب به، وإنما فعله خوفًا من المُكْرِه، فلا يكفر؛ قال تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
(1) تيسير العزيز الحميد ص (139، 140).
وَقَالُوا لِلآخَرِ: قَرِّبْ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأُقَرِّبَ لأَحَدٍ شيئًا دُونَ الله عز وجل، فَضربُوا عُنُقَهُ، فَدَخَلَ الجَنَّةَ». رواه أحمد.
•---------------------------------•
«مَا كُنْتُ لأُقَرِّبَ لأَحَدٍ شيئًا دُونَ الله عز وجل، فَضربُوا عُنُقَهُ فَدَخَلَ الجَنَّةَ» وعدم أخذه بالرخصة يحتمل أمرين:
الأول: أن شريعتهم ليس فيها عذر بالإكراه، ولهذا لم يأخذ بالرخصة ويتخلص من شرهم.
الثاني: يحتمل أنه ترك الرخصة وأخذ بالعزيمة لقوة إيمانه ويقينه فقتلوه. وفي شريعتنا أن من أكره على الشرك ففعل ما أكره عليه بقصد التخلص من شرهم، ولم يطمئن بذلك فلا حرج؛ لقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ، فيأخذ بالرخصة حتى لو قال الكفر بلسانه (1).
وقال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: هل الأولى للإنسان إذا أُكره على الكفر أن يصبر ولو قُتِل، أو يوافق ظاهرًا فيها ويتأول؟
هذه المسألة فيها تفصيل:
أولًا: أن يوافق ظاهرًا وباطنًا، وهذا لا يجوز لأنه ردة.
ثانيًا: أن يوافق ظاهرًا لا باطنًا، ولكن بقصد التخلص من الإكراه؛ فهذا جائز.
ثالثًا: أن لا يوافق لا ظاهرًا ولا باطنًا ويقتل، وهذا جائز، وهو من الصبر، لكن أيهما أولى أن يصبر ولو قتل أو أن يوافق ظاهرًا؟
(1) ينظر: التعليق المفيد (81، 82).
فيه تفصيل: إذا لم يكن في موافقته ضرر على الإسلام، فالأولى أن يوافق ظاهرًا لا باطنًا، أما إذا كان في موافقته ضرر على الإسلام فإنه يجب عليه الصبر؛ لأنه من باب الصبر على الجهاد في سبيل الله، وذلك كمحنة الإمام أحمد رحمه الله (1).
هذا رأي شيخنا رحمه الله، لكن نقل ابن بطال الاتفاق على أن من اختار القتل فهو أعظم أجرًا ممن اختار الرخصة (2).
(1) القول المفيد (1/ 229) بتصرف.
(2)
شرح ابن بطال (8/ 295).