الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابٌ لا يُذبَحُ للهِ بمكانٍ يُذبَح فيه لغير الله
•---------------------------------•
مقصود الترجمة: بيان تحريم الذبح لله في مكانٍ يُذْبَحُ فيه لغير الله، وهذا الحكم عام فـ «لا يجوز للمؤمنين التشبه بأهل المعاصي ولا مشاركتهم في أماكن المعصية وفي أماكن تعبدهم ولو بغير الذبح، حتى لا ينسب إليهم ويشاركهم» (1).
ومناسبة هذا الباب للذي قبله: أنه تابعٌ له ومُكَمِّلٌ له؛ فالباب السابق يتكلم عن الذبح لغير الله وهو شركٌ، وهذا الباب هو سدٌّ للذريعة التي تؤدي إلى الذبح لغير الله.
وقد أحسن المؤلف رحمه الله حيث أتبع هذا الباب الباب الذي قبله، فالذي قبله من المقاصد وهذا من الوسائل، ذاك من باب الشرك الأكبر، وهذا من وسائل الشرك القريبة؛ فإن المكان الذي يذبح فيه المشركون لآلهتهم تقربًا إليها وشركا بالله قد صار مشعرًا من مشاعر الشرك، فإذا ذبح فيه المسلم ذبيحة ولو قصدها لله، فقد تشبه بالمشركين وشاركهم في مشعرهم، والموافقة الظاهرة تدعو إلى الموافقة الباطنة والميل إليهم (2).
«لَا يُذبَحُ» بالبناء للمجهول، و (لا) هنا يجوز فيها وجهان:
الأول: أن تكون نافية (لا يُذْبَحُ) بضم الحاء، ويكون النفي بمعنى النهي.
والثاني: أن تكون لا ناهية (لا يُذْبَحْ) بإسكان الحاء، فتكون الجملة واضحةً في النهي.
(1) التعليق المفيد ص (83).
(2)
ينظر: القول السديد ص (61).
وَقَوْلُ الله تَعَالَى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].
•---------------------------------•
في قوله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} نهي من الله عز وجل لنبيه أن يقوم في مسجد الضرار الذي أسس على معصية الله تعالى، فبناه المنافقون؛ لأغراض فاسدة جاء ذكرها في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107]. وأمره أن يقوم بمسجد قباء الذي أُسِّسَ على التقوى من أول يوم.
ووجه مناسبة الآية للباب: من جهة القياس، فمَنْعُ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يقوم في مسجد الضرار مع أنه يتعبد فيه لله، دليل على أنَّ المكان الذي يعصى الله فيه لا يصح أن يقام فيه، فكذلك الأماكن التي يذبح فيها لغير الله، لا يجوز أن يذبح فيها لله.
(1) حاشية كتاب التوحيد ص (103).
عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه قَالَ: نَذَرَ رَجُلٌ أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ » قَالُوا: لَا، قَالَ:«فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ » قَالُوا: لَا، فَقَالَ رَسُولُ الله? :«أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصيةِ الله، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شرطِهِمَا.
•---------------------------------•
حديث ثابت بن الضحاك رواه أبو داود وغيره (1)، وإسناده صحيح.
(1) أخرجه داود في سننه (3/ 238) رقم (3313)، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 142) رقم (20139)، والسنن الصغير (4/ 120) رقم (3223)،
والطبراني في المعجم الكبير (2/ 75) رقم (1341) عن عبد الله بن أحمد،
كلاهما (أبو داود، وعبد الله بن أحمد) عن داود بن رشيد، حدثنا شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني ثابت بن الضحاك، قال: «نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
» الحديث.
والحديث صحيح، وله شواهد منها:
- حديث ميمونة بنت كردم بن سفيان عن أبيها، أخرجه أبو داود (3/ 238) رقم (3314)، وابن ماجه (1/ 688) رقم (2131)، وأحمد في مسنده (44/ 622) رقم (27066) عن ميمونة:«أَنَّ أَبَاهَا لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ رَدِيفَةٌ لَهُ، فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ بِبُوَانَةَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: هَلْ بِهَا وَثَنٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ» . وإسناد حسن.
- حديث ابن عباس رضي الله عنه، أخرجه ابن ماجه (1/ 688) رقم (2130)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 22) رقم (12356)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 143) رقم (20141)، من طريق عبد الله بن رجاء عن المسعودي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:«أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ بِبُوَانَةَ، فَقَالَ: فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ» . وإسناده حسن.
والحديث صححه جماعة منهم: النووي في المجموع (8/ 467)، وشيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 490)، وابن الملقن في البدر المنير (9/ 518)، وابن حجر في التلخيص (4/ 439).
«نَذَرَ رَجُلٌ أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ» بوانة: هضبة وراء ينبع قريبة من ساحل البحر (1).
«هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ » «هذا السؤال يدل على أنه لو وجد هذا الوصف، وهو أنه كان ثَمَّ وثن من أوثان الجاهلية يعبد، لم يجز النحر في ذلك الموضع، وهو المراد من إيراد هذا الحديث في الباب، وهو وجه الاستدلال» (2).
«فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ » أي: هل كان هذا الموضع الذي تريد أن تنحر فيه، من الأماكن التي اعتاد أهل الجاهلية المجيء إليها، ليتقربوا فيها إلى معبوداتهم بإراقة الدماء، وغيرها من العبادات الشركية.
فالذبح لله في أماكن يذبح فيها لغيره، وسيلة إلى الذبح إلى غير الله في تلك الأماكن، وهو شرك.
والنبي صلى الله عليه وسلم سأل عن أمرين: عن الشرك، ووسائله. فالشرك: هل كان فيها وثن؟ ووسائله: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟
ولما كانت الإجابة بالنفي قال له: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ» أي: إذا انتفت الأوصاف السابقة في المكان الذي نذرت أن تذبح فيه، فأوف بنذرك؛ لأنه انتفى المانع.
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 164)، ومعجم البلدان (1/ 505)، والمعالم الأثيرة في السنة والسيرة ص (54)
(2)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد ص (155).
«فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصيةِ الله» أي: لو ثبت أنَّ هناك وثنًا يعبد، أو عيدًا من أعياد الجاهلية، فإنه لا يجوز الوفاء بالنذر حينئذٍ. وفي هذا «دليل على أن هذا نذر معصية لو قد وجد في المكان بعض الموانع. وما كان من نذر المعصية، فلا يجوز الوفاء به بإجماع العلماء» (1).
«وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» «الذي لا يملكه ابن آدم يحتمل معنيين:
الأول: ما لا يملك فعله شرعا، كما لو قال: لله علي أن أعتق عبد فلان، فلا يصح لأنه لا يملك إعتاقه.
الثاني: ما لا يملك فعله قدرًا، كما لو قال: لله علي نذر أن أطير بيدي، فهذا لا يصح لأنه لا يملكه. والفقهاء رحمهم الله يمثلون بمثل هذا للمستحيل» (2).
(1) فتح المجيد ص (155).
(2)
القول المفيد (1/ 240).