الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّنْجِيمِ
•---------------------------------•
مقصود الترجمة: بيان حكم التنجيم، وذلك بذكر ما يجوز منه وما لا يجوز، وذكر ما جاء من الوعيد في النوع المحرم منه (1).
ومناسبة الباب لكتاب التوحيد: أنَّه لمَّا كان بعض التنجيم باطلًا، لِما فيه من دعوى مشاركة الله في علم الغيب، وتعلُّق القلب بغير الله، ونسبة التصرف إلى النجوم، وذلك ينافي التوحيد، ناسب أن يُعقد له بابٌ هنا يبين فيه الممنوع والجائز منه، ليكون المسلم على بصيرةٍ من ذلك» (2).
وأما علاقته بالأبواب السابقة: فنجد أن كل الأبواب السابقة القريبة مثل باب الكهان، وذكر العرافين ونحوهم؛ مرتبطة بادعاء الغيب لغير الله تعالى، ومن جملة ذلك التنجيم؛ لأن المنجم يدعي معرفة الغيب بمجرد نظره في النجوم، فناسب ذكر التنجيم بعد الأبواب السابقة.
والتنجيم نوعان:
النوع الأول: علم التأثير: وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الكونية، وهذا باطل ودعوى لمشاركة الله في علم الغيب الذي انفرد به، أو تصديق لمن ادعى ذلك، وهذا ينافي التوحيد لما فيه من هذه الدعوى الباطلة، ولما فيه من تعلق القلب بغير الله، ولما فيه من فساد العقل؛ لأن سلوك الطرق الباطلة وتصديقها من مفسدات العقول والأديان.
(1) يراجع: تيسير العزيز الحميد ص (378)، وحاشية كتاب التوحيد ص (223).
(2)
الملخص في شرح كتاب التوحيد ص (236).
وهو ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يعتقد في هذه النجوم أنها مؤثرة فاعلة، بمعنى أنها هي التي تخلق الحوادث من خيرٍ وشرٍّ:
فهذا شرك أكبر؛ لأن من ادعى أن مع الله خالقًا؛ فهو مشرك شركًا أكبر؛ حيث جعل المخلوق المسخر خالقا مُسَخِّرًا.
القسم الثاني: أن يعتقد أنها سبب لمعرفة علم الغيب؛ فيستدل بحركاتها وتنقلاتها وتغيراتها على أنه سيكون كذا وكذا؛ لأن النجم الفلاني صار كذا وكذا، مثل أن يقول: هذا الإنسان ستكون حياته شقاء؛ لأنه ولد في النجم الفلاني، وهذا حياته ستكون سعيدة؛ لأنه ولد في النجم الفلاني؛ فهذا اتخذ تعلم النجوم وسيلة لادعاء علم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر مخرج عن الملة.
القسم الثالث: أن يعتقدها سببًا لحدوث الخير والشر، أي أنه إذا وقع شيء نسب سببه إلى النجوم، ولا ينسب إلى النجوم شيئًا إلا بعد وقوعه؛ فهذا شرك أصغر (1).
النوع الثاني: علم التسيير: وهو الاستدلال بالشمس والقمر والكواكب على القبلة والأوقات والجهات، فهذا النوع لا بأس به، بل كثير منه نافع قد حث عليه الشارع، إذا كان وسيلة إلى معرفة أوقات العبادات، أو إلى الاهتداء به في الجهات (2).
(1) القول المفيد (2/ 5، 6) بتصرف.
(2)
ينظر: القول السديد ص (108).
وهو ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يستدل بسيرها على المصالح الدينية؛ فهذا مطلوب، وإذا كان يعين على مصالح دينية واجبة كان تعلمها واجبًا، كما لو أراد أن يستدل بالنجوم على جهة القبلة؛ فالنجم الفلاني يكون ثلث الليل قبلة، والنجم الفلاني يكون ربع الليل قبلة؛ فهذا فيه فائدة عظيمة.
القسم الثاني: أن يستدل بسيرها على المصالح الدنيوية؛ فهذا لا بأس به.
وهو نوعان:
النوع الأول: أن يستدل بها على الجهات: كمعرفة أن القطب يقع شمالًا، والجدي وهو قريب منه يدور حوله شمالا، وهكذا؛ فهذا جائز، قال تعالى:{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16].
النوع الثاني: أن يستدل بها على الفصول، وهو ما يعرف بتعلم منازل القمر؛ فهذا كرهه بعض السلف، وأباحه آخرون.
والذين كرهوه قالوا: يخشى إذا قيل: طلع النجم الفلاني؛ فهو وقت الشتاء أو الصيف، وأن بعض العامة يعتقد أنه هو الذي يأتي بالبرد أو بالحر أو بالرياح، والصحيح عدم الكراهة (1).
وبناء على التقسيم السابق؛ يتضح لطالب العلم الفرق بين ما نهى عنه الشارع وحرمه، وبين ما أباحه أو استحبه أو أوجبه، فالأول هو المنافي للتوحيد دون الثاني.
(1) القول المفيد (2/ 6، 7) بتصرف.
قَالَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: قَالَ قَتَادَةُ: خَلَقَ اللهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثٍ: زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشياطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ أَخْطَأَ وَأَضَاعَ نَصيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. انْتَهَى.
•---------------------------------•
أثر قتادة: أخرجه البخاري تعليقًا في صحيحه (1).
«خَلَقَ اللهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثٍ: زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشياطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا» : هذا كله في كتاب الله عز وجل:
أما كونها «زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشياطِينِ» : ففي قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ} [المُلك: 5].
وكونها «عَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا» : ففي قوله سبحانه: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16].
قال ابن جرير: «اختلف أهل التأويل في المعني بالعلامات
…
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عدَّد على عباده من نعمه إنعامه عليهم بما جعله لهم من العلامات التي يهتدون بها، فكل علامة استدل بها الناس على طرقهم وفجاج سبلهم، فداخل في قوله:{وَعَلَامَاتٍ} والطرق المسبولة الموطوءة علامة للناحية المقصودة، والجبال علامات يهتدى بهن إلى قصد السبيل، وكذلك النجوم بالليل، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية أن تكون العلامات من أدلة النهار» (2).
(1) أخرجه البخاري تعليقًا في صحيحه (4/ 107)، ووصله ابن أبي حاتم في تفسيره (9/ 2913) رقم (16536)، والطبري في تفسيره (14/ 193)، وأبو الشيخ في كتاب العظمة (4/ 1226)، وعزاه ابن الملقن في التوضيح لعبد بن حميد في تفسيره (19/ 27).
(2)
جامع البيان (14/ 193 - 194).
وَكَرِهَ قَتَادَةُ تَعَلُّمَ مَنَازِلِ القَمَرِ، وَلَمْ يُرَخِّصِ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِيهِ، ذَكَرَهُ حَرْبٌ عَنْهُمَا. وَرَخَّصَ فِي تَعَلُّمِ المَنَازِلِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
•---------------------------------•
«مناسبة الأثر للباب: حيث أفاد الأثر رأي قتادة أنه لا يجوز الاعتقاد في النجوم أكثر من الأمور الثلاثة المذكورة.
ومناسبة الأثر للتوحيد: حيث أنكر قتادة ما يدعيه أهل التنجيم من علم الغيب؛ لأن ذلك إشراك مع الله في علم الغيب» (1).
مسألة: اختلف السلف في تعلم منازل القمر على رأيين:
الرأي الأول: كراهة تعلم منازل القمر:
وهو قول قتادة، وسفيان بن عيينة، كما أشار إليه المصنف.
ومنعهم من ذلك من باب سد الذريعة، خشية أن يتدرج الأمر بالعامة من اعتقاد ما يجوز فيها إلى اعتقاد ما لا يجوز، كالقول بأنها تؤثر في الكون، وأنها هي التي تأتي بالمطر والبرد أو الرياح، ونحو ذلك من الأقوال الشركية الكفرية.
الرأي الثاني: جواز تعلم منازل القمر:
وهو قول النخعي، ومجاهد، وأحمد، وإسحاق.
والصحيح الجواز وعدم الكراهة؛ لما فيه من فوائد، ولعدم وجود أمر يجعله ممنوعًا (2).
(1) الجديد في شرح كتاب التوحيد ص (264).
(2)
ينظر: فتح الباري لابن رجب (3/ 69)، والقول المفيد (2/ 7)، وإعانة المستفيد (2/ 19)، والتوضيح الرشيد ص (270).
وَعَنْ أَبِي مُوسى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ? : «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ: مُدْمِنُ الخَمْرِ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
•---------------------------------•
قال شيخنا ابن عثيمين: «والصحيح أنه لا بأس بتعلم منازل القمر؛ لأنه لا شرك فيها؛ إلا إن تعلمها ليضيف إليها نزول المطر وحصول البرد، وأنها هي الجالبة لذلك؛ فهذا نوع من الشرك، أما مجرد معرفة الوقت بها: هل هو الربيع، أو الخريف، أو الشتاء؛ فهذا لا بأس به» (1).
فإن قيل ما علاقة هذا الخلاف بالباب: قيل: إن المصنف رحمه الله أراد أن يوضح أنه إذا كان العلماء قد اختلفوا في هذا النوع المباح في أصله من علم التنجيم ألا وهو علم التسيير، والذين منعوه منعوه سدًّا لذريعة الشرك بالله، فما بالك بتعلم علم التأثير المحرم الذي ينبني على الشرك والكفر الصراح، إن هذا لأشد وأخطر بكثير من علم التسيير؟ ! (2).
«وَعَنْ أَبِي مُوسى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم» الحديث رواه أحمد وابن حبان وغيرهما من طريق الفضيل بن ميسرة، عن أبي حريز، عن أبي بردة، عن أبي موسى. وأبو حريز هو عبد الله بن حسين، وقد اختلف فيه اختلافًا كثيرًا، وأعدل الأقوال فيه ما ذكره الدارقطني أنه ضعيف ضعفًا يسيرًا (3)؛ ولذا صحح الحديث الحاكم، وأقره الذهبي.
(1) القول المفيد (2/ 11).
(2)
ينظر: تيسير العزيز الحميد ص (384)، والملخص في شرح كتاب التوحيد ص (238).
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (32/ 339) رقم (19569)، وابن حبان في صحيحه (12/ 166) رقم (5346)، من طريق علي بن المديني،
«لَا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ» : أي لا يدخلون ابتداءً مع السابقين الأولين، أو من غير سبق عذاب؛ حتى يُطَهروا بالنار (1).
وقد اختلف أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من أحاديث الوعيد على أقوال: القول الأول: هذا الوعيد فيمن استحل هذا الفعل.
القول الثاني: إن هذا من باب أحاديث الوعيد التي تُمر كما جاءت ولا يتعرض لمعناها.
وهذا القول قال عنه صاحب التيسير: باطل (2)، وقال شيخنا ابن عثيمين: ضعيف (3).
القول الثالث: لا يدخلون ابتداءً، ولكنهم يدخلون الجنة دخولًا يسبقه عذاب بقدر ذنوبهم، ثم مرجعهم إلى الجنة؛ وذلك لأن نصوص الشرع يُصدق بعضها بعضًا، ويلائم بعضها بعضًا.
وأبو يعلى في مسنده (13/ 224) رقم (7248)، وابن حبان في صحيحه أيضًا (13/ 507) من طريق محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة البصري،
والخرائطي في مساوئ الأخلاق ص (129) من طريق أبي غسان المسمعي.
والحاكم في المستدرك (4/ 163) رقم (7234)، من طريق مسدد،
أربعتهم (علي بن المديني، ومحمد بن إسماعيل، وأبو غسان، ومسدد) عن المعتمر بن سليمان، عن الفضيل بن ميسرة، عن أبي حريز، عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه.
قال الحاكم: (صحيح الإسناد)، وأقرَّه الذهبي، وقال حسين أسد في تحقيق مسند أبي يعلى (13/ 224):(إسناده حسن).
(1)
ينظر: فيض القدير (3/ 326)، والتيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 478).
(2)
ينظر: تيسير العزيز الحميد ص (350).
(3)
التعليق على صحيح مسلم (2: 217).
قال شيخنا ابن عثيمين- معلقًا على هذا القول-: «وهذا أقرب إلى القواعد وأَبْيَن؛ حتى لا تبقى دلالة النصوص غير معلومة» (1).
وخلاصة المسألة: يمكن إن يقال: أن الراجح هو القول الثالث، والعامة تذكر لهم هذه النصوص ولا تشرح، من باب الزجر والردع؛ حتى لا يتجرأوا على محارم الله، وأما طلبة العلم فَيُبَيَّن لهم أَنَّ هذه النصوص لها معنىً واضح، وهو أن من فعل هذه الأمور، وكان مُوَحِّدًا فهو تحت المشيئة إن شاء عذبه ما شاء أن يعذبه ثم يدخل الجنة، فلا يدخل الجنة ابتداءً، وإن شاء غفر له، فهذا مقتضى آية النساء {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]؛ لأن هذه النصوص المتوافرة المتواترة من الكتاب والسنة دَلَّت على عدم خلود الموحدين في النار، وهذا اعتقاد أهل السنة في هذا الباب خلافًا للمعتزلة والخوارج ومنهم الإباضية في هذا العصر، وهم في سلطنة عُمَان وغيرها، وقد كتب مفتيهم الخليلي كتاب (الحق الدامغ) قَرَّر فيه تكفير مرتكب الكبيرة وخلوده في النار! .
«وَقَاطِعُ الرَّحِمِ» : المقصود بهم القرابة، كما قال تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]، وقطع الرحم أعم من العقوق (2).
(1) القول المفيد (2/ 16).
(2)
ينظر: مرقاة المفاتيح (6/ 2390)، وفيض القدير (3/ 326).
«وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ» : «أي قابل لما يدعيه الساحر من الآثار سواء عمل به أو لم يعمل، وسواء تعلمه أو لم يتعلمه، ففيه أنه يجب تكذيب الساحر ورد ما يزعمه، وما عرف من الآثار أنه حقيقة فإنه يجب أن يعلم أنه بإذن الله لا بسحر الساحر» (1).
ووجه مطابقة الحديث للترجمة: أنه نص على أن المصدق بالسحر لا يدخل الجنة، ومن السحر التنجيم والاعتقاد في النجوم (2).
(1) التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 221).
(2)
يراجع: تيسير العزيز الحميد ص (387).