الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ قَوْلِ الله تَعَالَى:
{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ
يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} الآية.
•---------------------------------•
مقصود الترجمة: التحذير من سوء الظن بالله، والتنبيه على وجوب حسن الظن به سبحانه؛ لأن ذلك من واجبات التوحيد، ولذلك ذم الله من أساء الظن به؛ لأن مبنى حسن الظن على العلم برحمة الله وعزته وإحسانه وقدرته وعلمه، وقد ينشأ حسن الظن من مشاهدة بعض هذه الصفات، وبالجملة فمن قام بقلبه حقائق معاني أسماء الله وصفاته، قام به من حسن الظن ما يناسب كل اسم وصفة (1).
ووجه مناسبة الباب لكتاب التوحيد: هو أَنَّ سوء الظن بالله من جانبٍ متعلقٌ بتوحيد الربوبية؛ لأنه عدم ثقة بأفعال الله وأخباره وأقواله، ومن جانبٍ آخر يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات، فإن سوء الظن بالله ناتج عن عدم إيمان بأسماء الله وصفاته، قال الله تعالى عن المشركين:{وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 22، 23]. فجعل سوء ظنهم بسبب ضعف إيمانهم بعلم الله. ومن جانبٍ ثالث يتعلق بتوحيد الألوهية؛ لأن عبادة غير الله، أو إشراك غيره معه هو سوء ظن به، قال إبراهيم عليه السلام:{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 86، 87](2).
(1) تيسير العزيز الحميد ص (583)، وحاشية كتاب التوحيد ص (358).
(2)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد ص (537)، وإعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/ 240)، والملخص في شرح كتاب التوحيد ص (384)، والجديد في شرح كتاب التوحيد ص (428).
وَقَوْلِهِ: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} الآية [الفتح: 6].
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ فِي الآيَةِ الأُولَى: فُسِّرَ هَذَا الظَّنُّ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَنْصر رَسُولَهُ وَأَنَّ أَمْرَهُ سيضْمَحِلُّ، وَفُسر بِأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ بِقَدَرِ الله وَحِكْمَتِهِ، فَفُسر بِإِنْكَارِ الحِكْمَةِ وَإِنْكَارِ القَدَرِ، وَإِنْكَارِ أَنْ يُتِمَّ أَمْرَ رَسُولِهِ? ، وَأَنْ يُظْهِرَهُ اللهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
•---------------------------------•
والآية التي عنون بها المصنف الباب أوردها مختصرة، مقتصرًا على موضع الشاهد، وسأوردها هنا كاملة للفائدة: قال الله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154].
وعلاقة الآية بالباب: أن فيها أن من ظنَّ أن الله لا ينصر حزبه على أعدائه فقد ظن به ظن السوء (1).
{الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} «أي يتهمون الله تعالى في حكمه ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أن يُقتلوا ويذهبوا بالكلية» (2).
(1) الملخص في شرح كتاب التوحيد ص (386).
(2)
تفسير ابن كثير (7/ 305).
وَهَذَا هُوَ ظَنُّ السَّوءِ الَّذِي ظَنَّهُ المُنَافِقُونَ وَالمُشركُونَ فِي سُورَةِ الفَتْحِ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا ظَنَّ السَّوءِ؛ لأَنَّهُ ظَنَّ غَيْرَ مَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ وَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ وَوَعْدِهِ الصَّادِقِ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدِيلُ البَاطِلَ عَلَى الحَقِّ إِدَالَةً مُسْتَقِرَّةً يَضْمَحِلُّ مَعَهَا الحَقِّ، أَوْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مَا جَرَى بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، أَوْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَدَرُهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الحَمْدَ، بَلْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَشيئَةٍ مُجَرَّدَةٍ، فَذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ.
وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَظُنُّونَ بالله ظَنَّ السَّوْءِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَفِيمَا يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِمْ. وَلَا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ عَرَفَ اللهَ وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهُ وَمُوجِبَ حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ، فَلْيَعْتَنِ اللَّبِيبُ النَّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا، وَلْيَتُبْ إِلَى الله وَلْيَسْتَغْفِرْهُ مِنْ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ. وَلَوْ فَتَّشْتَ مَنْ فَتَّشْتَ لَرَأَيْتَ عِنْدَهُ تَعَنُّتًا عَلَى القَدَرِ وَمَلَامَةً لَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ، وَفَتِّشْ نَفْسَكَ: هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ؟ .
فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ
…
وَإِلَّا فَإنِّي لَا إِخَالُكَ نَاجِيًا
•---------------------------------•
هذا النص موجود في كتاب الزاد لابن القيم بتصرف (1)، وخلاصته ذم ثلاث طوائف:
الأولى: الذين يظنون أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق؛ فهذا هو ظن المشركين والمنافقين في سورة الفتح، قال تعالى:{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح: 12].
(1) زاد المعاد (3/ 205 - 211).
الثانية: من أنكر أن يكون ما يجرى بقضاء الله وقدره؛ لأنه يتضمن أن يكون في ملكه سبحانه ما لا يريد، مع أن كل ما يكون في ملكه فهو بإرادته.
الثالثة: من أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليه الحمد؛ لأن هذا يتضمن أن تكون تقديراته لعبا وسفها، ونحن نعلم علم اليقين أن الله لا يقدر شيئا أو يشرعه إلا لحكمة، قد تكون معلومة لنا وقد تقصر عقولنا عن إدراكها، ولهذا يختلف الناس في علل الأحكام الشرعية اختلافا كبيرًا بحسب ما عندهم من معرفة حكمة الله سبحانه وتعالى.
ورأي الجهمية والجبرية أن الله يقدر الأشياء لمجرد المشيئة لا لحكمة، قالوا: لأنه لا يسأل عما يفعل، وهذا من أعظم سوء الظن بالله؛ لأن المخلوق إذا تصرف لغير حكمة سمي سفيها؛ فما بالك بالخالق الحكيم؟ ! » (1).
(1) ينظر: القول المفيد (2/ 389).