الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ دَخَلَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ
•---------------------------------•
مقصود الترجمة: بيان عظم درجة من حَقَّقَ التوحيد؛ ولَمَّا كان الباب السابق في فضل التوحيد، ناسب أن يذكر هنا تحقيق التوحيد؛ لأن الشيء لا يحصل كمال فضله إلا بكمال تحقيقه. وتحقيق التوحيد قدرٌ زائدٌ على بيان ماهيته.
وعلاقة هذا الباب بالذي سبقه: أن ذاك يتعلق بمن وَحَّدَ الله ولم يشرك بالله، ولكن قد يكون عنده بعض المعاصي والبدع الإضافية، فهذا قد يغفر الله له ذنوبه، ويدخله الجنة ابتداءً، وقد يعذبه بقدر خطاياه، ثم يدخل الجنة.
وأما هذا الباب فيختص بمن وَحَّدَ الله حق التوحيد، ولم يشرك به شيئًا، وسَلِمَ من شوائب المعاصي والذنوب ونحوها، فهذا له مرتبةٌ أعلى، ويدخل الجنة بغير حساب.
وذهب بعض الشراح إلى أن هذا الباب تكميل للباب الذي قبله وتابع له. فإن تحقيق التوحيد تهذيبه وتصفيته من الشرك الأكبر والأصغر، ومن البدع القولية الاعتقادية، والبدع الفعلية العملية، ومن المعاصي، وذلك بكمال الإخلاص لله في الأقوال والأفعال والإرادات، وبالسلامة من الشرك الأكبر المناقض لأصل التوحيد، ومن الشرك الأصغر المنافي لكماله، وبالسلامة من البدع والمعاصي التي تكدر التوحيد، وتمنع كماله وتعوقه عن حصول آثاره (1).
والأقرب أن الباب السابق في فضل من أتى بأصل التوحيد، وهذا الباب في فضل من أتى بالتوحيد الكامل، فيكون السابق عامًّا، وهذا خاص.
(1) ينظر: القول السديد ص (28).
وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
•---------------------------------•
و«تحقيق التوحيد: تخليصه من الشرك، ولا يكون إلا بأمور ثلاثة:
الأول: العلم؛ فلا يمكن أن تحقق شيئًا قبل أن تعلمه، قال الله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19].
الثاني: الاعتقاد، فإذا علمت ولم تعتقد موجب ما علمت، لم تحقق التوحيد، قال الله تعالى عن الكافرين:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] يتعجبون ممن يعتقد انفراد الله بالألوهية.
الثالث: الانقياد، فإذا علمت واعتقدت ولم تنقد، لم تحقق التوحيد، قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 35 - 36] فإذا حصل هذا وحقق التوحيد; فإن الجنة مضمونة له بغير حساب» (1).
«وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}» مناسبة الآية للباب: من جهة أن الله تعالى وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات الجليلة التي هي أعلى درجات تحقيق التوحيد ترغيبًا في اتباعه في التوحيد (2).
ومعنى {كَانَ أُمَّةً} أي: قدوةً وإمامًا معلمًا للخير، وما ذاك إلا لتكميله مقامي الصبر واليقين اللذين تنال بهما الإمامة في الدين.
(1) القول المفيد (1/ 91).
(2)
ينظر: تيسير العزيز الحميد ص (74).
وقوله: {قَانِتًا لِلَّهِ} أي: طائعًا خاضعًا لله، مداومًا على ذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «القانت:
…
هو الذي يطيع الله دائمًا» (1).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «إنَّ مُعاذًا كان أُمَّة قانتًا لله، قال: فقال رجل من أشجع يُقال له فروة بن نوفل: نَسِيَ، إنما ذاك إبراهيم، قال: فقال عبد الله: من نسي؟ ! إنما كنا نشبهه بإبراهيم، قال: وسُئِل عبد الله عن الأمَّة، فقال: معلم الخير، والقانت: المطيع لله ورسوله» (2).
لماذا جاء التعبير في الآية الكريمة بقوله: {كَانَ أُمَّةً} ولم يقل كان إمامًا؟
الجواب: أن هناك فرق بين الأمة والإمام من وجهين:
أحدهما: أن الإمام كل ما يؤتم به، سواء كان بقصده وشعوره أو لا، ومنه سُمي الطريقُ إمامًا، كما في قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 78، 79]، أي: بطريق واضح
…
ولا يسمى الطريق أمة.
الثاني: أن الأمة فيه زيادة معنى وهو الذي جمع صفات الكمال من العلم والعمل، بحيث بقي فيها فردًا وحده، فهو الجامع لخصال تفرقت في غيره، فكأنه باين غيره باجتماعها فيه (3).
وقوله: {حَنِيفًا} أي: مائلًا عن الشرك، مستقيمًا على التوحيد.
(1) مجموع الفتاوى (5/ 239).
(2)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (14/ 394).
(3)
ينظر: مفتاح دار السعادة ص (174).
وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} [النحل: 120].
عَنْ حُصينِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ البَارِحَةَ؟ ، فَقُلْتُ: أَنَا، ثُمَّ قُلْتُ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ، قَالَ: فَمَا صَنَعْتَ؟ ، قُلْتُ: ارْتَقَيْتُ.
•---------------------------------•
وقوله: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تأكيد، لاستمراره على التوحيد، فقد كان عليه الصلاة والسلام معصومًا عن الشرك، مع أن قومه كانوا مشركين (1).
{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} أي: الذين هم يخلصون العبادة لله وحده، ولا يشركون به غيره. ووجه تحقيق التوحيد من الآية أن هؤلاء سلموا من كل أنواع الشرك: الأكبر، والأصغر، والجلي، والخفي، ومن كان كذلك فقد بلغ النهاية في تحقيق التوحيد.
ومناسبة الآية للترجمة: من جهة أن الله تعالى وصف المؤمنين المسارعين للخيرات السابقين إلى الجنات بعدة صفات أعظمها الثناء عليهم بأنهم بربهم لا يشركون.
قال شيخنا ابن باز رحمه الله: «هذه صفات أهل التوحيد والإيمان، أنهم كانوا موحدين لله مخلصين له، خالصين من الشرك مع عبادتهم وخوفهم لله، وهذا كمال التوحيد» (2).
حديث حصين أخرجه البخاري ومسلم (3) كما ذكر ذلك المصنف.
(1) القول المفيد (1/ 93).
(2)
التعليق المفيد ص (4).
(3)
صحيح البخاري (8/ 112) رقم (6541)، وصحيح مسلم (1/ 199) رقم (220).
قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدَّثنَاهُ الشَّعْبِيُّ، قَالَ: وَمَا حَدَّثَكُمْ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصيبِ أَنَّهُ قَالَ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ.
•---------------------------------•
و(حصين): هو حصين بن عبد الرحمن السلمي الحارثيُّ أبو الهذيل الكوفي، من تابعي التابعين مات سنة (136 هـ) وله (93) سنة.
و(سعيد بن جُبير) هو الوَالِبِيُّ الكوفي، من أعلام التابعين، وكان علمًا ورعًا فقيهًا، من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه، قتله الحجَّاج بن يوسف الثَّقفي سنة (95 هـ) قبل أن يبلغ الخمسين من عمره.
«أَيُّكُمْ رَأَى الكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ البَارِحَةَ؟ » يسأل ابن جبير الجالسين أيهم رأى النجم الذي سقط، وهو الشِّهاب الذي يُرمى به الشياطين.
و(البَارِحَة): أقرب ليلة مضت، وسُمِّيَتِ البارحةَ من بَرَحَتْ، أي: مَضَتْ (1).
«فَقُلْتُ: أَنَا، ثُمَّ قُلْتُ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلاةٍ» القائل هو حصين، نفى ما يتوهمه الحاضرون من أن سهره في تلك الليلة كان بسبب قيام الليل، وهذا من ورع السلف، وابتعادهم عن الرياء، وتزكية النفس.
«وَلَكِنِّي لُدِغْتُ» أي: لدغته حية أو عقرب، وكانت هذه اللدغة فيما يظهر شديدة؛ لأنه سهر بسببها.
«ارْتَقَيْتُ» وفي رواية مسلم: «اسْتَرْقَيْتُ» ، أي: طلبتُ الرقية.
«فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ » يسأل سعيد حصينًا عن الدليل الذي جعله يسترقي، وهذا يدل على أن السلف كانوا لا يعملون إلا بمستند شرعي.
(1) جمهرة اللغة (1/ 274)، وتهذيب اللغة (5/ 21)، ولسان العرب (2/ 412).
«حَدِيثٌ حَدَّثنَاهُ الشَّعْبِيُّ» الشعبي هو: عامر بن شراحيل الهمداني، الكوفي، من أئمة التابعين وثقاتهم، مات سنة (103 هـ).
«لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ» (العين): هي إصابة العائن غيره بعينه إذا نظر إليه، وهي نظرة مسمومة تؤثر في المعيون بإذن الله فيمرض بسببها.
و«هي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمَعِين تصيبه تارة، وتخطئه تارة، فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه، أثرت فيه، ولا بد، وإن صادفته حذرا شاكيَ السلاح لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه، وربما ردت السهام على صاحبها، وهذا بمثابة الرمي الحسي سواء، فهذا من النفوس والأرواح وذاك من الأجسام والأشباح.
وأصله من إعجاب العائن بالشيء، ثم تتبعه كيفية نفسه الخبيثة، ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرة إلى المَعِين، وقد يَعِين الرجل نفسه، وقد يعين بغير إرادته، بل بطبعه، وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني، وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء: إن من عرف بذلك، حبسه الإمام، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت، وهذا هو الصواب قطعًا» (1).
والعين حقٌّ كما في الحديث: «الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا» (2).
(1) زاد المعاد (4/ 154).
(2)
أخرجه مسلم (4/ 1719) رقم (2188) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
والاستغسال: هو أن يؤتى بالعائن ويطلب منه أن يتوضأ، ثم يؤخذ ما تناثر من الماء من أعضائه، ويصب على المصاب ويشرب منه، ويبرأ بإذن الله، والرقية أيضًا علاج للعين كما دل على ذلك حديث الباب.
وهل الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: «فَاغْسِلُوا» للوجوب؟
قال المازري رحمه الله: «هذا أمر وجوب، ويُجْبَرُ العائن على الوضوء للمعين على الصحيح» (1).
وعلاج العين يكون بما يلي:
1 -
الاستغسال، كما سبق.
2 -
الرقية، ودليلها حديث عبد الرحمن بن حصين هذا.
وهناك طريقة أخرى، لا مانع منها أيضًا، وهي أن يؤخذ شيء من شعاره، أي: ما يلي جسمه من الثياب، كالثوب والطاقية والسروال وغيرها، أو التراب إذا مشى عليه وهو رطب، ويصب على ذلك ماء يرش به المصاب أو يشربه، وهو مُجرَّب (2).
و(الحُمَة) - بضم الحاء، وتخفيف الميم - هي: كلُّ هامةٍ ذاتِ سَم من حية أو عقرب أو نحوهما.
ومعنى الحديث: لا رقية أشفى أو أولى من رقية العين والحمة (3)؛ وإنما خص العين والحمة لكونهما تصدران من أنفس خبيثة شريرة روحانية شيطانية.
(1) نقله عنه السيوطي في شرح مسلم (5/ 205).
(2)
ينظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين (9/ 88).
(3)
معالم السنن (4/ 226).
قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَن انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ، وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ،
•---------------------------------•
«قَدْ أَحْسَنَ مَن انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ» أي: من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن؛ لأنه أدى ما وجب عليه، وعمل بما بلغه من العلم (1).
«عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ» قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «العارض لها الله سبحانه وتعالى، وهذا في المنام فيما يظهر» (2).
«فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ» وفي رواية مسلم: «الرُّهَيْطُ» بالتصغير، و (الرَّهْطُ): الجماعة دون العشرة، أي: من الثلاثة إلى التسعة.
«وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ» أي: يبعث النبي ويتبعه رجلان، ويبعث النبي ولا يتبعه أحدٌ البتة؛ وليس ذلك نتيجة تقصير من الأنبياء، بل إنهم قد أدَّوا رسالاتهم على أكمل وجه، وبلغوا البلاغ المبين، وإنما يعود ذلك إلى استكبار أقوامهم وعدم قبولهم للحق.
وفيه أن الأنبياء متفاوتون في عدد أتباعهم، وأن بعضهم لا يتبعه أحد، وفيه الرد على من احتج بالأكثر، وزعم أن الحق محصور فيهم، وليس كذلك، بل الواجب اتباع الكتاب والسنة مع من كان وأين كان (3)؛ بل قد ذم الله الكثرة، فقال:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
(1) تيسير العزيز الحميد ص (79).
(2)
القول المفيد (1/ 100).
(3)
تيسير العزيز الحميد ص (80).
إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسى وَقَوْمُهُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ. وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بَغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ».
•---------------------------------•
وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116].
وأثنى سبحانه على القلة، فقال:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وقال:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249].
«إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسى وَقَوْمُهُ» قد يقال: كيف لم يعرف صلى الله عليه وسلم أمته، حيث ظن أنَّ قوم موسى عليه السلام هم أمته؟ وكيف يجمع بين هذا، وبين حديث أبي الدرداء، وفيه: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله، كَيْفَ تَعْرِفُ أُمَّتَكَ مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ إِلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ: هُمْ غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، لَيْسَ أَحَدٌ كَذَلِكَ غَيْرَهُمْ
…
» (1)؟
والجواب: أن الأشخاص الذين رآهم في الأفق لا يدرك منهم إلا الكثرة من غير تمييز لأعيانهم، وأما ما في حديث أبي الدرداء فمحمول على ما إذا قربوا منه (2).
والسواد في الأصل: ضد البياض، والمراد هنا: الشخص الذي يرى من بعيد.
وفي حديث ابن مسعود: «فَإِذَا الْأُفُقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ» (3)، وفي لفظ للإمام أحمد:«فَرَأَيْت أُمَّتِي قَدْ مَلَئُوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ، فَأَعْجَبَنِي كَثْرَتُهُمْ وَهَيْئَتُهُمْ، فَقِيلَ أَرَضِيت يَا مُحَمَّدُ؟ قُلْت: نَعَمْ أَيْ رَبِّ» (4).
(1) أخرجه أحمد (36/ 64، 65) رقم (21737).
(2)
ينظر في بحث هذه المسألة: فتح الباري لابن حجر (11/ 408).
(3)
أخرجه البخاري 5/ 2396 رقم (6175)، وأحمد (1/ 401) رقم (3806) واللفظ له.
(4)
أخرجه أحمد (1/ 403) رقم (3819).
ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَخَاضَ النَّاسُ في أُولَئِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُم الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ الله? ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُم الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلَامِ فَلَمْ يُشركُوا بالله شيئًا. وَذَكَرُوا أَشياءَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ: «هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، .....................
•---------------------------------•
«وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا» «المراد من العدد التكثير والمبالغة، فالعرب تطلق السبعة، والسبعين ألفًا وتريد بذلك الكثرة والمبالغة» (1)، وقد يقال: إن الحديث على ظاهره، وأن المراد بالعدد الحقيقة.
وقد ورد في حديث أبي هريرة في الصحيحين وصف السبعين ألفًا بأنهم تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر.
«يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بَغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ» أي: لا يعذبون ولا يحاسبون، لا في القبر، ولا في الموقف، ولا في النار؛ لأن قوله:«بَغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ» نكرتان في سياق النفي فتفيدان العموم؛ والسبب في هذا الفضل أنهم حققوا كمال التوكل على الله، وهذا المعنى الذي قصده المصنف، ومن أجله أورد الحديث في هذه الترجمة.
«فَخَاضَ النَّاسُ في أُولَئِكَ» أي: تباحث الحاضرون وأفاضوا وتناظروا واختلفوا في شأن السبعين ألفا بأي عمل نالوا هذه الدرجة، فإنهم عرفوا أنهم إنما نالوا ذلك بعمل هو أفضل الأعمال (2).
قال النووي: «وفي هذا إباحة المناظرة في العلم والمباحثة في نصوص الشرع على جهة الاستفادة وإظهار الحق» (3).
(1) فوائد من شرح كتاب التوحيد لعبد العزيز السدحان ص (15)، نقلًا عن شيخنا ابن جبرين رحمه الله.
(2)
ينظر: حاشية كتاب التوحيد ص (44).
(3)
شرح النووي على مسلم (3/ 95).
وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ». فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ:«أَنْتَ مِنْهُمْ» ، ثُمَّ قَامَ رَجْلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ:«سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ» . رواه البخاري، ومسلم.
•---------------------------------•
«فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ» بما تحاوروا فيه من أمر هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حسابٍ ولا عذاب، قال:
«هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ» أي: لا يطلبون الرقية من غيرهم.
«وَلَا يَكْتَوُونَ» أي: لا يطلبون من غيرهم أن يكويهم بالنار لأجل العلاج.
ووقع في رواية سعيد بن منصور عند مسلم: «لَا يَرْقُونَ» بدل: «وَلَا يَكْتَوُونَ» وقد أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الرواية، وقال: إنها غلط من راويها، وهذا هو الصواب، وهي رواية شاذة مخالفة لرواية الثقات.
ومما يؤكد شذوذ هذه الرواية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رقى أصحابه وأذن لهم في الرقى وقال: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» (1)، والنفع مطلوب.
«وَلَا يَتَطَيَّرُونَ» ، أي: لا يتشاءمون بالطيور ونحوها، والتطير: مأخوذ من الطير، واسم المصدر منه طِيَرَة، وسيأتي باب خاص بالتطير.
«وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» أي: يعتمدون على الله لا على غيره، وهذا هو الأصل الجامع لكل ما سبق من الأشياء التي في تركها كمال التوكل على الله، ونهاية تحقيق التوحيد له سبحانه.
(1) أخرجه مسلم (4/ 1726) رقم (2199).