الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب
قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}
.
•---------------------------------•
مقصود الترجمة: بيان الأدلة الدالة على بطلان عبادة غير الله تعالى، وإيراد دليل عجز المخلوقين عن الخلق، وقدرة الله الخالق سبحانه على ذلك.
وعلاقة هذا الباب بالأبواب السابقة: أَنَّ المصنف في الأبواب السالفة تكلم عن أنواع الشرك الأكبر من الاستعاذة والاستغاثة بغير الله عز وجل وغير ذلك؛ فناسب هنا أن يتكلم عن الأدلة والبراهين التي تدل على ذلك، وتَرُدُّ على أهل الإشراك. وثمرة هذا الدليل أَنَّ الرب الخالق المدبر هو المستحق للعبادة دون سواه مِمَّن لا قدرة له ولا ملك. والمؤلف حينما يذكر هذه الأمور يقرر بذلك أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية (1).
قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} الاستفهام هنا للتقريع والتوبيخ (2)، والمعنى: كيف يشرك هؤلاء المشركون في عبادة الله ما لا يقدرون على خلق شيءٍ من الأشياء، بل هم مخلوقون (3).
(1) ينظر: القول المفيد (1/ 283)، والتوضيح الرشيد ص (111).
(2)
قاله الشوكاني في فتح القدير (2/ 313).
(3)
ينظر: تفسير الطبري (10/ 633)، وتفسير القرطبي (7/ 341)، وتفسير ابن كثير (3/ 478).
وقولِهِ: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} .
•---------------------------------•
وقوله: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} أي: «أيشرك هؤلاء المشركون في عبادة الله ما لا يستطيع أن ينصرهم إن أراد الله بهم سوءًا، أو أحل بهم عقوبة، ولا هو قادر إن أراد به سوءًا نصر نفسه ولا دفع ضر عنها؟ » (1).
ووجه الاستدلال من الآية على الباب: أن الله تعالى احتج على المشركين -الذين يعبدون غيره من المخلوقات كالملائكة والأنبياء والصالحين والأصنام وغيرها- بحجتين عظيمتين:
الحجة الأولى: أن هؤلاء مخلوقون ولا يستطيعون خلق شيء.
والحجة الثانية: أنهم لا قدرة لهم على نفعكم ولا نفع أنفسهم. وهذا برهان ظاهر على بطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله؛ لأن المخلوق العاجز عن الخلق والنفع لا يستحق العبادة (2).
وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} المعنى: أيها الناس إن الذين تعبدونهم من دون ربكم لا يملكون قطميرًا، والقطمير هو لفافة النواة، وهي القشرة الرقيقة التي تكون عليها، فضلًا عما هو فوقه (3).
{إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} أي: إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم، لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع، أو أموات لا حيلة لهم (4).
(1) تفسير الطبري (13/ 319).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (10/ 633)، وفتح المجيد ص (182)، وقرة عيون الموحدين ص (87).
(3)
ينظر: تفسير الطبري (19/ 349)، وتفسير البغوي (6/ 417).
(4)
تفسير القرطبي (14/ 336).
{وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} أي لو جعلنا لهم عقولًا وحياةً وسمعًا فسمعوا دعاءكم قيل: ما استجابوا لكم؛ لأنها عاجزة، وليس كل سامعِ قولٍ يتيسرله الجواب عنه، وقيل: لكانوا أطوع لله منكم، ولما استجابوا لكم على الكفر (1).
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي يوم القيامة لا يرضون ولا يُقِرُّون به، بل يتبرأون منكم (2)، «ثم يجوز أن يرجع هذا إلى المعبودين مما يعقل، كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين؛ أي يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقًّا، وأنهم أمروكم بعبادتهم، كما أخبر سبحانه وتعالى عن عيسى بقوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116]، ويجوز أن يندرج فيه الأصنام أيضًا، أي يحييها الله حتى تخبر أنها ليست أهلًا للعبادة» (3).
ووجه الدلالة من الآية على الباب: هو أن الله تعالى بَيَّنَ لهؤلاء المشركين أن الذين تدعونهم لا يملكون شيئًا، والمستحق للعبادة هو الخالق المالك المدبر لا غيره، وأكبر دليل على ذلك أنكم لو دعوتموهم لما استجابوا لكم، ولو سمعوا دعاءكم لكانوا عاجزين عن أن يفعلوا لكم شيئًا، وعلاوةً على ذلك أنهم يوم القيامة سوف يتبرأون منكم، ولا يرضون بعبادتكم لهم.
(1) ينظر: تفسير الطبري (19/ 351)، وتفسير القرطبي (14/ 336).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (19/ 351)، وتفسير القرطبي (14/ 336).
(3)
تفسير القرطبي (14/ 336).
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: شُجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وَكُسرتْ رَبَاعِيَتُهُ، فَقَالَ:«كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟ » فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128].
•---------------------------------•
حديث أنس في صحيح مسلم (1).
«شُجَّ النَّبِيُّ? » : «الشج في الرأس خاصة في الأصل، وهو أن يضربه بشيء فيجرحه فيه ويشقه، ثم استعمل في غيره من الأعضاء» (2).
«وَكُسرتْ رَبَاعِيَتُهُ» : الرَّبَاعِيَة: -بفتح الراء- هي السن التي تلي الثنية من كل جانب، وللإنسان أربع رباعيات (3).
«كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟ » المعنى: كيف تتحقق السعادة والرضا والفوز لأمثال هؤلاء وهم يفعلون هذا مع نبيهم (4)، وهذا «استبعاد لتوفيق من فعل ذلك به» (5)، فاستدرك الله على نبيه بقوله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي: ليس إليك، يا محمد، من أمر خلقي إلا أن تُنَفذ فيهم أمري، وتنتهي فيهم إلى طاعتي، وإنما أمرهم إلي والقضاء فيهم بيدي دون غيري
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (3/ 1417) رقم (1791) عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه،
وقد أخرجه البخاري في صحيحه (5/ 99) تعليقًا، فقال: «قال حميد وثابت، عن أنس
…
» فذكره بنحوه.
(2)
النهاية في غريب الحديث (2/ 445).
(3)
ينظر: شرح مسلم للنووي (12/ 148)، وطرح التثريب (7/ 212).
(4)
ينظر: حاشية كتاب التوحيد ص (120).
(5)
تفسير القرطبي (4/ 199).
وَفِيهِ عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ مِنَ الفَجْرِ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وَفُلانًا» بَعْدَمَا يَقُولُ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، فَأَنْزَلَ اللهُ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
•---------------------------------•
أقضى فيهم وأحكم بالذي أشاء، من التوبة على من كفر بي وعصاني وخالف أمري، أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنقم المبيرة، وإما في آجل الآخرة بما أعددت لأهل الكفر بي (1).
ومناسبة الحديث السابق للباب: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستحق شيئًا من العبادة؛ لأنه لا يملك نفعًا ولا ضرًّا، بل هو مبلغ عن الله تعالى، وإذا كان هذا بالنسبة له فغيره من الأولياء والصالحين من باب أولى، وفي هذا أبلغ رد على المشركين الذين يتعلقون به عليه الصلاة والسلام، فكيف بمن يتعلق بمن هو دونه؟ (2).
«وَفِيهِ» : أي الصحيح، والمراد به هنا صحيح البخاري (3).
«اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وَفُلانًا» : هم صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام كما جاء في الرواية الأخرى التي تليها.
وقد ثبت في صحيح مسلم أنه لعن أحياء من العرب، كما في رواية يونس عن الزهري عند مسلم:«اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ، وَرِعْلًا، وَذَكْوَانَ» (4).
(1) ينظر: تفسير الطبري (7/ 194).
(2)
ينظر: إعانة المستفيد (1/ 210، 211)، والتوضيح الرشيد ص (112).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (5/ 99) رقم (4069) عن يحيى بن عبد الله السلمي، عن عبد الله، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه.
(4)
صحيح مسلم (1/ 466) رقم (675) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وَفِي رِوَايَةٍ: يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْروٍ، وَالحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
•---------------------------------•
«وَفِي رِوَايَةٍ» : أي في الصحيح (1)، وفيها توضيح من أبهم في الرواية السابقة، كما أشرنا إليه في موضعه.
في الحديث دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك الضر لأحد، حيث نهي عن الدعاء عليهم وعن لعنهم، فصار من باب أولى أن غيره لا يملك الضر، فبطل بذلك التعلق به - ومن هو دونه من سادة الأولياء من باب أولى - في الضر والنفع (2).
وهنا لطيفة: وهي أنَّ الإمام بالبخاري رحمه الله أدخل هذه الترجمة في كتاب الاعتصام بالسنة؛ ليحقق أن الاعتصام في الحقيقة إنما هو بالله، لا بذات الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم معتصم بأمر الله، ليس له من الأمر شيء إلا التبليغ. والتبليغ أيضًا من فضل الله وعونه؛ ألا إلى الله تصير الأمور (3).
(1) هذه الرواية تلي الرواية السابقة مباشرةً في صحيح البخاري (5/ 99) رقم (4070) عن حنظلة ابن أبي سفيان، سمعت سالم بن عبد الله يقول: فذكر الحديث؛ ولذلك فهي مرسلة. وقد وصلها أحمد في مسنده (9/ 486) رقم (5674) من طريق عبد الله بن عقيل،
والترمذي في سننه (5/ 227) رقم (3004) من طريق أحمد بن بشير،
كلاهما (عبد الله بن عقيل، وأحمد بن بشير) عن عمر بن حمزة، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
قال الترمذي (5/ 227، 228): «هذا حديث حسن غريب، يُسْتَغْرَب من حديث عمر بن حمزة، عن سالم، عن أبيه، وكذا أخرجه الزهري، عن سالم، عن أبيه، لم يعرفه محمد بن إسماعيل من حديث عمر بن حمزة، وعرفه من حديث الزهري» ، والحديث حسن.
(2)
التوضيح الرشيد ص (112).
(3)
المتواري على أبواب البخاري ص (405، 406).