الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ قَوْلِ الله تَعَالَى:
{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [
الأعراف: 99].
•---------------------------------•
مقصود الترجمة: الإشارة إلى أهمية جمع العبد المؤمن بين الخوف والرجاء؛ ذلك لأن ترك الخوف من الله يؤدي إلى أمن مكره، وترك الرجاء يؤدي إلى القنوط من رحمته تعالى، وكلاهما ينافيان كمال التوحيد.
فأرشد المؤلف إلى وجوب طيران العبد إلى الله تعالى بجناحين كجناحي طائر هما (الخوف، والرجاء)، وبغيرهما لا يصل إلى المولى تبارك وتعالى (1).
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: هو أن عدم الخوف والرجاء المؤدي إلى أمن مكر الله والقنوط من رحمته ينافي كمال التوحيد وينقصه (2).
قوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} هو الشاهد من الآية، وهي في سياق ما ذكره الله عن الأمم الكافرة التي أحل الله بها عقوباته من قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب.
{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} هذا استنكار من الله سبحانه على من يغتر بالنعم وينسى العقوبة أن يأخذهم على غرة وهم آمنون منعمون، ثم ينقلهم من النعمة إلى النقمة، ومن الصحة إلى الألم والمرض، ومن الوجود إلى العدم.
{فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ} أي: لا يأمن عقوبة الله التي تنزل خفية ومن غير تأهب ومن غير توقع لها.
(1) ينظر: تيسير العزيز الحميد، وحاشية كتاب التوحيد ص (255)، والقول السديد ص (122).
(2)
ينظر: فتح المجيد ص (358)، والملخص في شرح كتاب التوحيد ص (273).
وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحِجر: 56].
•---------------------------------•
{إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} الذين حقت عليهم الخسارة التي لا ربح معها أبدا ولا نجاة منها أبدا (1).
ومناسبة الآية للباب: أنها نبهت على الجمع بين الرجاء والخوف، فإذا خاف فلا يقنط من رحمة الله، بل يرجوها مع العمل الصالح (2). وهذا هو مقام الأنبياء والصديقين كما قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] فابتغاء الوسيلة إليه هو التقرب بحبه وطاعته، ثم ذكر الرجاء والخوف وهذه أركان الإيمان.
وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
قوله: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} هذا استفهام إنكار من الله سبحانه وتعالى، وهو بمعنى النفي، أي: لا أحد يقنط من رحمة ربه إلا الضالون. والقنوط: استبعاد الفرج واليأس منه (3).
وللقنوط من رحمة الله واليأس من رَوْحه سببان محذوران:
أحدهما: أن يسرف العبد على نفسه ويتجرأ على المحارم فيصر عليها، فيقوده ذلك إلى القنوط.
(1) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/ 70، 71).
(2)
تيسير العزيز الحميد ص (437)، وفتح المجيد ص (359).
(3)
ينظر: فتح المجيد ص (359)، وإعانة المستفيد (2/ 72).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الكَبَائِرِ؟ ، فَقَالَ:«الشركُ بالله، وَاليَأْسُ مِنْ رَوحِ الله، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ الله» رواه البزار.
•---------------------------------•
الثاني: أن يقوى خوف العبد بما جنت يداه من الجرائم، ويضعف علمه بما لله من واسع الرحمة والمغفرة، ويظن بجهله أن الله لا يغفر له ولا يرحمه ولو تاب وأناب، وتضعف إرادته فييأس من الرحمة.
فلو عرف هذا العبدُ ربه ولم يُخلِد إلى الكسل، لعلم أن أدنى سعي يوصله إلى ربه، وإلى رحمته وجوده وكرمه (1).
قوله: «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما» حديث ابن عباس رواه البزار وغيره (2)، وصححه بعضهم، إلا أن في سنده مقالًا (3)، والأقرب أنه موقوف.
(1) القول السديد للسعدي ص (122، 123) -بتصرف-.
(2)
أخرجه البزار في مسنده كما في (كشف الأستار)(1/ 71) رقم (106) من طريق عبد الله بن إسحاق العطار،
وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 931) من طريق عمرو بن أبي عاصم النبيل،
كلاهما (عبد الله بن إسحاق، وعمرو بن أبي عاصم) عن أبي عاصم النبيل عن شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رجلًا قال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال:«الشِّرْكُ بِالله، وَالإِياسُ مِنْ رَوحِ الله، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ الله» .
والحديث عند الطبراني في المعجم الأوسط كما في (الدر المنثور)(2/ 502، 503).
(3)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 104): «رواه البزار والطبراني، ورجاله موثقون» . وحسنه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء ص (1352)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 502).
والحديث فيه علتان:
العلة الأولى: شبيب بن بشر. قال أبو حاتم فيه: «لين الحديث» . الجرح والتعديل (4/ 357).
العلة الثانية: الوقف، فالصواب في الحديث أنه موقوف، قال الدارقطني في العلل (5/ 342):«وهو الصواب» ، وقال ابن كثير في تفسيره (2/ 243):«في إسناده نظر، والأشبه أن يكون موقوفًا» .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإِشراكُ بالله، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ الله، وَالقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ الله، وَاليَأْسُ مِنْ رَوحِ الله» . رَوَاهُ عَبْدُ الرَزَّاقِ.
•---------------------------------•
«الشركُ بالله» : هو تنقيص لحق الربوبية والألوهية ولهذا بدأ به.
«وَاليَأْسُ مِنْ رَوحِ الله وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ الله» أي: فقد الرجاء من الله فيما يخافه ويرجوه، والأمن من استدراج الله للعبد وسلبه إيمانه (1).
ومناسبة الحديث للباب: أنه جعل اليأس من روح الله، والأمن من مكره من الكبائر، واجتماع الكبيرتين معًا أعظم من كبيرة ترك الخوف أو ترك الرجاء وحده (2).
قوله: «وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه» أثر ابن مسعود رواه عبد الرزاق وغيره، وهو صحيح (3).
(1) ينظر: تيسير العزيز الحميد ص (439)، وفتح المجيد ص (360)، والقول المفيد (2/ 106).
(2)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد ص (386) بتصرف.
(3)
أخرجه معمر في جامعه (10/ 459) رقم (19701)، ومن طريقه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 448) رقم (556)، والطبري في تفسيره (6/ 648) رقم (9195)، والطبراني في المعجم الكبير (9/ 156) رقم (8784)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 340) رقم (1019) من طريق أبي إسحاق،
وابن أبي الدنيا في التوبة ص (54) رقم (31)، والطبري في تفسيره (6/ 648) رقم (9192)، و (9194) من طريق الأعمش،
والطبري في تفسيره (6/ 648) رقم (9191)، و (9193) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (6/ 1110) رقم (1921) من طريق مطرف،
ثلاثتهم (أبو إسحاق، والأعمش، ومطرف) عن وبرة بن عبد الرحمن،
والطبري في تفسيره (6/ 648) رقم (9196)، والطبراني في المعجم الكبير (9/ 156) رقم (8783) من طريق عبد الملك بن ميسرة، =
«أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإِشراكُ بالله، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ الله
…
» إلخ.
«في هذا الأثر ما في الحديث قبله، لكن هنا فصل في القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، فجعل القنوط من رحمة الله شيئا، وجعل اليأس من روح الله شيئا آخر، وهذا باعتبار بعض الصفات لا باعتبار أصل المعنى، وإلا فإن القنوط من الرحمة واليأس من الروح بمعنى واحد، لكن يختلفان من حديث ما يتناوله هذا ويتناوله هذا، فالقنوط من رحمة الله عام؛ لأن الرحمة أعم من الروح، والرحمة تشمل جلب النعم ودفع النقم، وروح الله جل وعلا يطلق في الغالب في الخلاص من المصائب، فقوله: القنوط من رحمة الله هذا أعم؛ ولهذا قدمه فيكون ما بعده من عطف الخاص على العام، أو أن يكون هناك ترادف في أصل المعنى، واختلاف في الصفات، أو بعض ما يتعلق باللفظ.
= واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (6/ 1110) رقم (1922) من طريق عبد العزيز بن رفيع،
ثلاثتهم (وبرة، وعبد الملك، وعبد العزيز) عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن ابن مسعود بألفاظ متقاربة مع زيادات في بعضها.
وورد عند الطبري في أحد طرقه (6/ 648) رقم (9192): عن وبرة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود، دون ذكر أبي الطفيل بينهما.
وجاء في إسناد الطبراني عن عامر، عن أبي الطفيل، ولعله تحريف؛ لأن عامرًا هو أبو الطفيل.
والأثر صحيح، قال ابن كثير في تفسيره (2/ 279):«هو صحيح إليه بلا شك» يعني ابن مسعود رضي الله عنه.
فهذا الحديث مع الحديث قبله والآيتين: دلالتهما على ما أراد المؤلف من عقد هذا الباب واحدة، ودلالة الجميع: أن الخوف والرجاء واجب اجتماعهما في القلب وإفراد الله جل وعلا بهما، والمقصود خوف العبادة، ورجاء العبادة» (1).
وفي الأثر: التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف، فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس (2).
(1) التمهيد لشرح كتاب التوحيد ص (386، 387).
(2)
تيسير العزيز الحميد ص (440).