الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ الدُّعَاءِ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ
وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}
•---------------------------------•
مقصود الترجمة: أنه لما سبق الكلام عن التوحيد والحَثِّ عليه، وعن الشرك والتحذير منه، ناسب هنا بيان أنه لا ينبغي لمن عرف هذا الحق أن يقف به عند نفسه، بل عليه أن يدعو غيره إلى ذلك؛ لأن هذه سنة الأنبياء، وهو الواجب على كل من عرف التوحيد.
وهذا الباب يتناسب في ترتيبه مع الأبواب السابقة، فإن المؤلف ذكر وجوب التوحيد وفضله، والحث عليه وعلى تكميله، والتحقق منه ظاهرًا وباطنًا، والخوف من ضده، وبذلك يكمل العبد نفسه. ثم ذكر في هذا الباب تكميله لغيره بالدعوة إلى شهادة (أن لا إله إلا الله)، فإنه لا يتم التوحيد حتى يكمل العبد جميع مراتبه ثم يسعى في تكميل غيره، وهذا هو طريق جميع الأنبياء (1).
«وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}» قال ابن كثير رحمه الله: «يقول الله تعالى لعبده ورسوله إلى الثقلين: الإنس والجن، آمرا له أن يخبر الناس أن هذه سبيله، أي طريقه ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك، ويقين وبرهان، هو وكل من اتبعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي» (2).
وذكر المصنف هذه الآية بعد الترجمة؛ لأن فيها الدعوة إلى الله وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كما بيَّن الإمام ابن كثير.
(1) ينظر: القول السديد ص (37).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 422).
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} أفرد هنا السبيل، وهو الصراط المستقيم؛ لأنه سبيل واحد.
{عَلَى بَصِيرَةٍ} أي: على علم، والبصيرة عليها مدار الدعوة إلى الله، وقد جاءت نصوص كثيرة تبين أن الداعي ينبغي له أن يكون عليمًا فيما يأمر به، عليمًا فيما ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه، فقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
وقال تعالى لموسى وهارون لما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» (1)، وقال صلى الله عليه وسلم:«يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا (2)» ، (3).
والداعي إلى الله له شروط وصفات، منها:
الصفة الأولى: أن يكون مخلصًا {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
الصفة الثانية: أن يكون على بصيرة.
الصفة الثالثة: الصبر على الدعوة.
الصفة الرابعة: العلم بأحوال المدعوين (4).
(1) أخرجه مسلم (4/ 2004) رقم (2594) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه البخاري (1/ 25) رقم (69)، ومسلم (3/ 1359) رقم (1734) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
ينظر: فتح الله الحميد ص (179).
(4)
الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة ص (43 - 48) بتصرف.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، (وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ)،
•---------------------------------•
حديث ابن عباس رضي الله عنه أخرجه البخاري ومسلم (1).
«إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ» هذه توطئة «للوصية لتستجمع همته عليها لكون أهلِ الكتاب أهلَ علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان وليس فيه أن جميع من يقدم عليهم من أهل الكتاب بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم، وإنما خصهم بالذكر تفضيلا لهم على غيرهم» (2).
و«أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأمرين:
الأول: أن يكون بصيرا بأحوال من يدعو.
الثاني: أن يكون مستعدا لهم؛ لأنهم أهل كتاب، وعندهم علم» (3).
«فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَن لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلمًا والعدو وليًّا» (4).
(1) صحيح البخاري (2/ 119) رقم (1458)، وصحيح مسلم (1/ 51) رقم (19).
(2)
فتح الباري (3/ 358).
(3)
القول المفيد (1/ 132).
(4)
الفتاوى الكبرى 3/ 544.
فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، ................................................
•---------------------------------•
وهل يجب على كل مسلم أن يدعو إلى الله؟
ذكر شيخنا ابن باز رحمه الله: أن الأصل أنها واجب على الكفاية، وإن قام بها البعض سقطت عن الباقين، شريطة أن تكون الأمة أو الطائفة التي تدعو تكفي، فإذا لم تكن تكفي تعين على الجميع أن يسدوا هذا الواجب، فعند قلة الدعاة وكثرة المنكرات وغلبة الجهل كحالنا اليوم تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته (1).
«فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ» قال ابن حجر رحمه الله: «قوله خمس صلوات استدل به على أن الوتر ليس بفرض» (2).
«فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً» فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلاة، وأنها لا تنفع إلَّا من وحد الله وصلى الصلوات الخمس بشروطها وأركانها وواجباتها، وقد قرن الله الزكاة بالصلاة في مواضع كثيرة من كتابه (3).
«تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» فيه دليلٌ على أن لولي الأمر أن يأخذ الزكاة من أهلها ويصرفها في مصارفها، وأنه إذا فعل ذلك برئت الذمة (4).
(1) الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة ص (15، 16) بتصرف.
(2)
فتح الباري (3/ 359).
(3)
ينظر: تيسير العزيز الحميد ص (99)، وقرة عيون الموحدين ص (38).
(4)
ينظر: شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (2/ 506).
فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتِّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الله حِجَابٌ» أخرجاه.
•---------------------------------•
وقوله: «فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» فيه دليل على جواز إعطاء الزكاة لصنف واحد.
وقد بوب البخاري: (باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا) وهذا يدل على أن البخاري يرى جواز نقل الزكاة إلى بلاد المسلمين الأخرى؛ لعموم قوله: «فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» لأن الضمير يعود على المسلمين، فأي فقير منهم ردت فيه الصدقة في أي جهة كان، كان ذلك جائزًا.
«فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» «إِيَّاكَ» تفيد التحذير، والتحذير يستلزم النهي (1). و «كَرَائِمَ» جمع كريمة أي نفيسة، وفيه دليل على أنه لا يجوز للمصدق أخذ خيار المال؛ لأن الزكاة لمواساة الفقراء فلا يناسب ذلك الإجحاف بالمالك إلا برضاه (2).
«وَاتِّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ» «فيه: أن للإمام أن يعظ من ولاه النظر في أمور رعيته، ويأمره بالعدل بينهم، ويخوفه عاقبة الظلم، ويحذره وباله» (3).
«فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الله حِجَابٌ» هذا تعليل للاتقاء وتمثيل للدعاء كمن يقصد دار السلطان متظلمًا فلا يحجب (4).
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: فيه دليلٌ على أن دعوة المظلوم مستجابة، وأنه يجب على الإنسان أن يتقي الظلم ويخاف من دعوة المظلوم (5).
(1) القول المفيد (1/ 142).
(2)
ينظر: فتح الباري لابن حجر (3/ 360)، ونيل الأوطار (4/ 140).
(3)
شرح صحيح البخاري (3/ 548).
(4)
فتح الباري (3/ 360).
(5)
شرح رياض الصالحين (2/ 508).
وَلَهُمَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: «لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجَلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، يَفتحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ» ، .....
•---------------------------------•
حديث سهل بن سعد أخرجه البخاري ومسلم (1).
«لأُعْطِيَنَّ» هذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات: الأول: القسم المقدر، والثاني: اللام، والثالث: النون، والتقدير: والله لأعطين (2).
«الرَّايَةَ» أي: العَلَم، وسمي راية، لأنه يُرى، وهو ما يتخذه أمير الجيش للعلامة على مكانه (3). قال ابن القيم رحمه الله:«وكانت له راية سوداء يقال لها: العقاب، وفي سنن أبي داود عن رجل من الصحابة قال: رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء وكانت له ألوية بيضاء» (4).
«رَجَلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، يَفتْحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ» فيه اختصاص علي رضي الله عنه دون غيره من الصحابة بهذه البشارة، مع أنهم جميعًا يحبون الله ورسوله ويحبهم الله ورسوله، وهي منقبة عظيمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«هذا الحديث أصح ما روي لعلي رضي الله عنه من الفضائل» (5).
وهل هذا لاختصاص يعني أنه أفضل الصحابة كما تقول الرافضة؟
الجواب: إن الخصوصية لا تعني الأفضلية وربما يختص بعض الصحابة ببعض المناقب ولا يكون دليلًا على أنه أفضل من غيره.
(1) صحيح البخاري (4/ 47) رقم (2942)، وصحيح مسلم (4/ 1872) رقم (2406).
(2)
ينظر: القول المفيد (1/ 134).
(3)
المرجع السابق (1/ 134).
(4)
زاد المعاد (1/ 127).
(5)
منهاج السنة النبوية (5/ 44).
فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ:«أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ » ، فَقِيلَ: هُوَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأُتِي بِهِ، فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، ...................................................
•---------------------------------•
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل سؤالًا فلم يعرفه إلا ابن عمر وكان أصغر الموجودين، وكان في المجلس أبو بكر، وعمر، وكان هذا السؤال عن الشجرة التي لا يسقط ورقها (1) فوقع في نفسه الجواب، وهذا لا يعني أنَّ ابن عمر كان أفضل الحاضرين.
وقوله: «يَفتْحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ» صريح في البشارة بحصول الفتح على يديه، فكان الأمر كذلك، ففيه دليل على شهادة أن محمدًا رسول الله (2).
«فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا» يدوكون: أصله من الدَّوْك، من داك يدوك دوكًا، والدوك هو الاختلاط، والمعنى أي يخوضون ويموجون ويختلفون.
أي: كلهم باتوا يفكرون أيهم يعطاها، ليس للإمارة في حد ذاتها وإنما لحب الله ورسوله لمن يعطاها.
«كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا» عمر كان أيضًا يرجوها، وفي رواية أبي هريرة عند مسلم (3): أن عمر رضي الله عنه قال: «مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ» .
(1) أخرجه البخاري (1/ 34) رقم (61)، ومسلم (4/ 2164) رقم (2811).
(2)
تيسير العزيز الحميد ص (104).
(3)
صحيح مسلم (4/ 1871) رقم (2405).
فَقَالَ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ الله تَعَالَى فِيهِ، فَوالله لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» . يَدُوكُونَ: أَيْ يَخُوضُونَ.
•---------------------------------•
«فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ » فيه سؤال الإمام عن رعيته وتفقد أحوالهم (1).
«فَقِيلَ: هُوَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ» أي: من الرمد كما في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص، فقال:«فَأُتِىَ بِهِ أَرْمَدَ، فَبَصَقَ فِي عَيْنِهِ» (2).
«فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ» فيه آية من آيات النبوة، وفي رواية:«مَا رَمِدْتُ وَلَا صُدِّعْتُ مُنْذُ دَفَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَيَّ بِالرَّايَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ» (3).
«انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ» أي: مَهْلِك، مأخوذ من رسل الناقة؛ أي: حليبها يحلب شيئًا فشيئًا، والمعنى: امش هوينا هوينا؛ لأن المقام خطير؛ لأنه يخشى من كمين، واليهود خبثاء أهل غدر (4).
«حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ» أي: حتى تبلغ فناءهم من أرضهم.
«ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ» هذا محل الشاهد من الحديث للباب، «باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلَّا الله» .
(1) ينظر: فتح المجيد ص (91).
(2)
صحيح مسلم (4/ 1871) رقم (2404).
(3)
أخرجها أبو داود الطيالسي في مسنده (1/ 156) رقم (185).
(4)
ينظر: القول المفيد (1/ 136).
حيث قال: «ادعهم إلى الإسلام» فهذا فيه دليل على وجوب الدعوة إلى الإسلام، وأن العدو يُدعى قبل أن يُقاتل، ولا يُبدأ بالقتال قبل الدعوة (1).
والدعوة من حيث حال المدعو تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون طالبًا للحق محبًا له مؤثرًا له على غيره، فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة ولا جدال.
الثاني: أن يكون معرضًا مشتغلًا بضد الحق، ولكن لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب.
الثالث: أن يكون معاندًا معارضًا، فهذا يجادل بالتي هي أحسن، فإن رجع إلى الحق، وإلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد إن أمكن (2).
«وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ الله تَعَالَى فِيهِ» أي: فأخبرهم بما يجب عليهم من حقوقه التي لا بد من فعلها كالصلاة والزكاة.
«فَوالله لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا» فيه جواز القسم بغير استحلاف، لبيان عظم الأمر وتأكيد وقوعه، وقد حلف النبي صلى الله عليه وسلم من غير استحلاف في ثمانين موضعًا كما ذكر ابن القيم.
(1) ينظر: إعانة المستفيد (1/ 116)، وللتوسع في ذلك، ينظر مبحث:(هل الأصل في التعامل مع غير المسلمين السلم أم الحرب؟ ) من كتابي التعامل مع غير المسلمين في السنة النبوية.
(2)
ينظر: الصواعق المرسلة (4/ 1276).
«خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» قال النووي رحمه الله: «تشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا إنما هو للتقريب من الأفهام، وإلا فذرة من الآخرة الباقية، خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها» (1).
وقوله: «حُمْرِ النَّعَمِ» : هي الإبل الحمراء، وهو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، وذكرها لأنها مرغوبة عند العرب، وهي أحسن وأنفس ما يكون من الإبل عندهم.
فائدة:
(حُمْر): بسكون الميم لا ضمها: جمع أحمر، أما بالضم (حُمُر): جمع حمار، ومنه قوله تعالى:{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدَّثر: 50].
و(النَّعَم): بفتح النون لا كسرها: الإبل، وأما (النِّعَم) بالكسر: جمع نعمة.
ومناسبة هذا الحديث والذي قبله للباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذًا لمَّا بعثه إلى اليمن وعليًّا في خيبر أن يبدآ بالدعوة إلى (لا إله إلا الله).
(1) شرح مسلم (15/ 178).