الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ فَضْلِ التَّوْحِيدِ وَمَا يُكفِّرُ مِنَ الذُّنُوبِ
•---------------------------------•
مقصود الترجمة بيان أن التوحيد بأنواعه الثلاثة له فضلٌ عظيمٌ يفوق فضل جميع الأعمال الصالحة الأخرى، ومن هذا الفضل تكفير الذنوب جميعًا، والحصول على الأمن بكل معانيه للأفراد والمجتمعات، ودخول الجنة، والنجاة من النار، ونحو ذلك. فأراد المؤلف أَنْ يُرَغِّبَ في التوحيد ويَحُثَّ عليه؛ لأن الشيء إذا عُلِمَ فضله ومقامه، تعلقت به القلوب، وحرصت عليه النفوس.
قال شيخنا ابن باز رحمه الله: «أراد المؤلف بيان شيء من فضل التوحيد، وأنه أعظم الأعمال في تكفير الذنوب؛ لأنه أساس الأعمال وأصلها، والأعمال لا تصح إلا بعد وجوده» (1).
ومناسبة الباب لكتاب التوحيد وللباب الذي قبله: أنَّ المؤلف لما ذكر في الترجمة السابقة وجوب التوحيد، وأنه الفرض الأعظم على جميع العبيد، ذكر هنا فضله؛ وهو آثاره الحميدة ونتائجه الجميلة، وليس شيء من الأشياء له من الآثار الحسنة، والفضائل المتنوعة، مثل التوحيد؛ فإن خير الدنيا والآخرة من ثمرات هذا التوحيد وفضائله (2).
«وَمَا يُكفِّرُ مِنَ الذُّنُوبِ» هذا من باب عطف الخاص على العام، فإن مغفرة الذنوب وتكفيرها من بعض فضائله وآثاره كما ذكر شواهد ذلك في الترجمة (3).
(1) التعليق المفيد ص (33).
(2)
ينظر: القول السديد ص (23).
(3)
ينظر: المرجع السابق ص (23).
وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية [الأنعام: 82].
•---------------------------------•
و(ما) في قوله: «وَمَا يُكفِّرُ» قيل: هي (ما) الموصولة يعني باب التوحيد والذي يكفر من الذنوب، وقيل هي مصدرية، أي: وبيان تكفيره للذنوب، وهذا أرجح؛ لأن الأول يوهم أن ثمَّ ذنوبًا لا يكفرها التوحيد وليس بمراد (1).
والتوحيد له فضائل كثيرة وعظيمة، منها أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما (2).
«وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}» أي: لم يخلطوا إيمانهم بشرك؛ لأن الظلم هنا المراد به الشرك، ولذلك لما نزلت هذه الآية شَقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، أَيُّنَا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]» (3).
و(الظلم) في آية الباب جاء نكرة في سياق النفي فيعمُّ كلَّ أنواع الظلم، ولكن العموم هنا دخله التخصيص، فيكون المراد به عموم أنواع الشرك، وليس عموم أنواع الظلم.
(1) ينظر: تيسير العزيز الحميد ص (49).
(2)
ينظر: القول السديد ص (23).
(3)
أخرجه البخاري (9/ 18) رقم (6937)، ومسلم (1/ 114) رقم (124)، من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه.
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسى عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ» أخرجاه.
•---------------------------------•
ووجه مناسبة الآية للباب: أنَّ من لم يلبس إيمانه بشرك فله الأمن التام، والاهتداء الكامل، وهذا من أعظم فضائل التوحيد، ويظهر هذا المعنى بذكر الآية بتمامها {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
والأمن في الآية شامل لجميع أنواع الأمن؛ فمنه: الأمن النفسي، والاجتماعي، والأمن في الأوطان؛ ولهذا تجد البلد الذي أهله موحدون أكثر الناس استقرارًا، والبلد الذي ينتشر فيه الشرك يضعف في أهلها الأمن والاستقرار، وانشراح النفوس وسعادتها.
يقول ابن القيم رحمه الله: «على قدر الشرك يكون الرعب، فالمشرك بالله أشد شيء خوفًا ورعبًا، والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالشرك لهم الأمن والهدى والفلاح، والمشرك له الخوف والضلال والشقاء» (1).
حديث عبادة بن الصامت متفق عليه (2)، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم:«مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله» .
قال النووي رحمه الله: «هذا حديث عظيم الموقع، وهو أجمع أو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد» (3).
(1) زاد المعاد (3/ 203).
(2)
أخرجه البخاري (4/ 165) رقم (3435)، ومسلم (1/ 57) رقم (28).
(3)
شرح مسلم (1/ 227).
ومناسبة هذا الحديث للباب: أن من حقق التوحيد وشهد بهذه الشهادات، أدخله الله الجنة، وهذا فضل عظيم من فضائل التوحيد.
«مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» أي: من نطق بها عارفًا لمعناها، عاملًا بمقتضاها، موقنًا بها (1)؛ لأنه لا يكفي التلفظ بالشهادة، بل لا بد من النطق والعلم والعمل بمقتضى هذه الكلمة.
«وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ» تأكيد لمعنى شهادة أن لا إله إلا الله، فقوله:«وَحْدَهُ» فيه تأكيد للإثبات (إلا الله)، وقوله:«لَا شريكَ لَهُ» تأكيد للنفي (لا إله)، وجاء التأكيد هنا ليدلل على عظمة التوحيد، وخطورة الشرك.
«وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» أي: وشهد بذلك، وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل (2).
وفي قوله: «عَبْدُهُ» بيان أنه عبد لله فلا يُعبد؛ وذلك ردًّا على الذين غلوا فيه، ورفعوه إلى مرتبة الألوهية كما في قول البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
…
سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن آخذًا يوم المعاد يدي
…
فضلًا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها
…
ومن علومك علم اللوح والقلم
(1) ينظر: تيسير العزيز الحميد ص (51)، وفتح المجيد ص (35).
(2)
ينظر: تيسير العزيز الحميد ص (59)، وفتح المجيد ص (39).
قال ابن رجب وغيره: «إنه -أي: البصيري- لم يترك لله شيئًا ما دامت الدنيا والآخرة من جود الرسول صلى الله عليه وسلم» . وهذا الغلو فوق غلو النصارى الذين قالوا: إنَّ المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة.
وفي قوله: «وَرَسُولُهُ» بيان أنه مرسل من عند الله، فلا يُكذب، بل يصدق ويتَّبَع، وهو ردٌّ على الجافين الذين يكذِّبون برسالته صلى الله عليه وسلم، ولا يصدقونه ولا يُطيعونه.
«وَأَنَّ عيسى عَبْدُ الله» فيه رد على النصارى الذين يعتقدون أن عيسى هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
قال الطيبي: «في ذكر عيسى تعريض بالنصارى وإيذان بأن إيمانهم مع قولهم بالتثليث شرك محض» (1).
«وَرَسُولُهُ» فيه ردٌ على اليهود الذين كذبوه وأنكروا رسالته، ورموه بالبهت، فقالوا: إنه ولد بغي، قال القسطلاني:(ورسوله): تعريض باليهود في إنكارهم رسالته وانتمائهم إلى ما لا يحل من قذفه وقذف أمه (2).
«وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ» قال قتادة رحمه الله: «هو قول الله تعالى: (كن)، فكان» (3)، أي: أنَّ عيسى خُلق بكلمة من الله، وهي قوله:(كن)؛ لأن عيسى وُجد من غير أب، وإضافة الكلمة إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف؛ لأن الكلام - ومنه قوله:(كن) - صفة من صفات الله جلَّ وعلا.
(1) شرح المشكاة (1/ 480).
(2)
إرشاد الساري (5/ 410).
(3)
ينظر: جامع البيان (9/ 419).
قال الإمام أحمد رحمه الله: «الكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: (كُن) فكان عيسى بـ (كُن) وليس عيسى هو (كُن)، ولكن بـ (كُن) كان» (1).
ومراد الإمام أحمد أنَّ عيسى ليس هو نفس الكلمة؛ وإنما سُمِّيَ بالكلمة لأنه خُلق بها، وعيسى مخلوق تجري عليه جميع الأحوال البشرية، وهو ذات بائنة عن الله تعالى، وأما كلمة (كن) التي خلق بها فهي من قول الله عز وجل، وليست شيئًا مخلوقًا؛ لأن كلام الله وصف قائم به، لا بائن منه (2).
«وَرُوحٌ مِنْهُ» (من) هنا ليست للتبعيض كما يقول النصارى حيث جعلوا عيسى عليه السلام جزء من الله - تعالى الله عن ذلك - ولكنها لابتداء الغاية، والإضافة إضافة تشريف كناقة الله، وبيت الله.
والمعنى: صار جسده عليه السلام بالكلمة، فنفخت فيه هذه الروح التي هي من الله، أي: خلق من مخلوقاته أضيفت إليه تعالى للتشريف والتكريم. وعيسى عليه السلام ليس روحًا، بل جسد ذو روح، قال الله تعالى:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] فبالنفخ صار جسدًا، وبالروح صار جسدًا وروحًا (3).
«وَالجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ» أي: وشهد أن الجنة التي أخبر بها الله تعالى في كتابه أنه أعدها للمتقين حق، أي ثابتة لا شك فيها، وشهد أن النار التي أخبر بها تعالى في كتابه أنه أعدها للكافرين حق كذلك ثابتة (4).
(1) الرد على الجهمية ص (126).
(2)
ينظر: كتاب التوحيد وقرة عيون الموحدين في ص (16)، والقول المفيد (1/ 73).
(3)
ينظر: القول المفيد (1/ 74).
(4)
فتح المجيد ص (43).
وَلَهُمَا فِي حَدِيثِ عِتْبَانَ رضي الله عنه: «فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله» .
•---------------------------------•
«وَلَهُمَا» أي: البخاري ومسلم في صحيحيهما (1).
«فِي حَدِيثِ عِتْبَانَ» (عِتبان) - بكسر العين - هو ابن مالك الخزرجي صحابي ممن شهد بدرًا من الأنصار.
«فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله» أي من قال: لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه لا يريد بذلك إلا وجه الله، منع الله النار أن تأكل جسده. فالنطق بالشهادة يقتضي العمل بما تدل عليه، فلا يكفي مجرد النطق، وثم قيد مهم في هذا قد أشار إليه حديث الباب: أن يكون خالصًا صادقًا، كما قال:«يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله» .
وهذا هو وجه مناسبة الحديث لترجمة الباب، حيث إن التوحيد سببٌ للنجاة من النار، وهذا من الفضائل العظيمة.
فلا إله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، لكن بشرط العمل بمقتضاها، لذلك قيل للحسن:«إن ناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة» (2).
ومثله ما قيل لوهب بن منبه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: «بلى، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك» (3).
(1) صحيح البخاري (1/ 92) رقم (425)، وصحيح مسلم (1/ 455) رقم (33).
(2)
ينظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 158)، وكلمة الإخلاص وتحقيق معناها لابن رجب ص (14).
(3)
ينظر: صحيح البخاري (2/ 71).