الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الجمع بين الصلاتين في السفر
اعلم: أن الجمع بين الظهرين والعشاءين يجوز في وقت أحدهما لثلاثة أمور: للسفر الطويل المباح، والمرض الذي يلحقه بتركه مشقة، والمطر، ونحوه (1).
وتركه أفضل، وعنه: فعلُه، اختاره أبو محمد [بن] الجوزي، وغيره؛ كَجَمْعَي عرفةَ ومزدلفة، وعنه: التوقف (2).
والحافظ رحمه الله ذكر في هذا الباب حديثًا واحدًا، يخص جواز الجمع في السفر، وهو:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ والعَصْرِ إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، ويَجْمَعُ بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ (3).
(1) انظر: "دليل الطالب" للشيخ مرعي الحنبلي (ص: 49).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 57).
(3)
* تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (1056)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، معلقًا، واللفظ له، ومسلم (705)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر، وأبو داود (1210 - 1211)، كتاب: الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين، =
(عن) حبر هذه الأمة (عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجمع) في السفر الطويل المباح، خلافًا لأبي حنيفة حيث منع الجمع رأسًا، سوى جمعي عرفة ومزدلفة، فجعله فيهما نسكًا (1).
(بين صلاة الظهر و) صلاة (العصر) في وقت إحداهما (إذا كان) صلى الله عليه وسلم (على ظهر سير) كذا في هذا الحديث، ولولا ورود غيره من الأحاديث بالجمع في غير هذه الحالة، لاختص جواز الجمع بها؛ لأن الأصل عدم جواز الجمع، ووجوب إيقاع الصلاة في وقتها المحدود لها، وجواز الجمع في هذا الحديث، قد علق بصفة مناسبة للاعتبار، فلم يجز إلغاؤه، لكن حيث صح الجمع في حالة النزول، فالعمل به أولى؛ لقيام دليل آخر على الجواز في غير هذه الصورة، أعني: السير-، وقيام ذلك الدليل يدل على إلغاء اعتبار هذا الوصف، إذ لا يعارض منطوقه بالمفهوم من هذا الحديث؛
= والنسائي (601 - 602)، كتاب: المواقيت، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر، والترمذي (187)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الجمع بين الصلاتين في الحضر، وابن ماجه (1069)، كتاب: الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين في السفر.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 264)، و"الاستذكار" لابن عبد البر في (2/ 210)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 303)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 35)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 346)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 215)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 98)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 662)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 131)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 580)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 152)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 264).
(1)
انظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 149).
لأن دلالة ذلك على الجواز في تلك الصورة بخصوصها أرجح (1).
(و) كان (يجمع) صلى الله عليه وسلم (بين المغرب والعشاء)؛ أي: كذلك من اعتبار الوصف الذي ذكره، وهو كونه على ظهر سير، كما تقدم.
ولا خلاف أن الجمع ممتنع بين صلاة الصبح وغيرها، وبين العصر والمغرب، كما لا خلاف بين الأئمة في جواز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة (2).
وفي "الصحيحين"، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يرتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم ينزل، فيجمع بينهما، وإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل، صلى الظهر، ثم ركب (3).
وفي "المسند"، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: ألا أحدثكم عن صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في السفر؟ قلنا: بلى، قال: كان إذا زاغت الشمس في منزله، جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب. وفيه: وإذا حانت المغرب له في منزله، جمع بينها وبين العشاء، الحديث (4).
وفي "مسلم"، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: جمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 99).
(2)
المرجع السابق، (2/ 100).
(3)
رواه البخاري (1060)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، ومسلم (704)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، واللفظ له.
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 367)، والطبراني في "المعجم الكبير"(11522).
قال أبو الطفيل عامر بن واثلة: فقلت: ما حمله على ذلك؟! قال: أراد ألا يحرج أمته (1).
وأخرج الترمذي؛ من حديث معاذ -أيضًا-: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك، إذا ارتحل قبل زيغ الشمس، أخر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر، فيصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس، عجل العصر إلى الظهر، ويصلي الظهو والعصر جميعًا، وكذا العشاء والمغرب. وكذا رواه الإمام أحمد، وأبو داود، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة: الأحكام التي تختلف بحسب السفر وغيره: الجمع جائز في الوقت المشترك؛ فتارة يجمع في أول الوقت، كما جمع صلى الله عليه وسلم بعرفة، وتارة يجمع في وقت الثانية، كما جمع بمزدلفة، وفي بعض أسفاره، وتارة يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين، وقد يقعان معًا في آخر وقت الأولى، وقد يقعان معًا في أول وقت الثانية؛ وهذا كله جائز، والتقديم والتأخير والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة (3).
تنبيهات:
الأول: قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث بهذا اللفظ ليس في كتاب مسلم، وإنما هو في كتاب البخاري، وأما رواية ابن عباس في الجمع بين
(1) رواه مسلم (706)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر.
(2)
رواه الترمذي (553)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الجمع بين الصلاتين، وأبو داود (1220)، كتاب: الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 241).
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 56).
الصلاتين في الجملة، من غير اعتبار لفظ بعينه؛ فمتفق عليه، كذا قال (1).
قلت: بل هو متفق عليه، نعم، في بعض ألفاظه اختلاف، قال في "الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحق، عن ابن عباس: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاة، في سفرة سافرها في غزوة تبوك؛ فجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟! قال: أراد ألا يحرج أمته (2).
قال الحافظ عبد الحق: لم يذكر البخاري تبوك، ولا قول سعيد، ولا وصل سنده به، ولفظه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر، إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء، انتهى (3).
الثاني: لم تختلف الفقهاء في جواز الجمع بين الصلاتين في الجملة، لكن أبا حنيفة يخصصه بالجمع بعرفة ومزدلفة، ويكون العلة فيه عنده النسك لا السفر، ويؤولون الأحاديث الواردة بالجمع على أن المراد: تأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وتقديم الثانية في أول وقتها (4).
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 98).
(2)
تقدم تخريجه في حديث الباب.
(3)
انظر: "الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحق (1/ 47). قلت: ومما ينبغي التنبيه عليه -وفات الشارحَ ذكرُه-: أن البخاري قد علَّق الحديث في "صحيحه"، ولم يصل سنده، فقال: وقال إبراهيم بن طهمان
…
، فذكره، والبخاري لم يدرك إبراهيم بن طهمان؛ إذ توفي سنة (168 هـ)، ففي إطلاق المصنف رحمه الله أن البخاري رواه، مشاحة قوية. وقد وصله البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 164). وانظر:"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 131)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 580).
(4)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 98).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مراعاة هذا من أصعب الأشياء وأشقها؛ فإنه يريد أن يبتدىء فيها إذا بقي من الوقت مقدار أربع ركعات، أو ثلاث في المغرب، ويريد مع ذلك ألا يطيلها، وإن كان نيته الإطالة، يشرع في الوقت الذي يحتمل ذلك، ويجتهد في أن يسلم قبل خروج الوقت.
ومعلوم أن مراعاة هذا من أصعب الأشياء، علمًا وعملًا، مع إشغاله لقلب المصلي عن مقصود الصلاة، والجمع شرع رخصة ورفعًا للحرج عن الأمة، فكيف لا يشرع إلا مع هذا الحرج الشديد، مع النقص لمقصود الصلاة، وأطال في تقريره ذلك، واللَّه أعلم (1).
الثالث: يجوز الجمع بين الظهرين والعشاءين في سفر القصر؛ عند الإمام أحمد، والشافعي، وقيل: يجوز حتى في السفر القصير، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وفاقًا لمالك (2).
الرابع: يجوز الجمع للمريض -على الأصح- للمشقة؛ وفاقًا لمالك، واحتج الإمام أحمد بأنه أشد من السفر، وشرط بعضهم: إن جاز له ترك القيام (3).
قال في "تنقيح التحقيق"(4): يجوز الجمع لأجل المرض؛ خلافًا لأصحاب الشافعي، واحتج لنا: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجاز لحمنة بنت جحش -لما استحيضت- أن تجمع بين الصلاتين (5).
(1) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 54).
(2)
انظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 334 - 335).
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 57).
(4)
انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 63).
(5)
رواه أبو داود (287)، كتاب: الطهارة، باب: من قال: إذا أقبلت الحيضة، تدع =
الخامس: يجوز الجمع بين المغرب والعشاء خاصة، لمطر وثلج -في المنصوص- مع المشقة؛ وفاقًا لمالك، والشافعي، وجوزه الشافعي بين الظهرين لذلك -أيضًا-، ويجوز للوحل -في الأصح-، خلافًا لأبي حنيفة، والشافعي، واللَّه أعلم (1).
* * *
= الصلاة، والترمذي (128)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، وابن ماجه (627)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في البكر إذا ابتدئت مستحاضة، أو كان لها أيام حيض فنسيتها.
(1)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 57).