الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب قصر الصلاة في السفر
اعلم: أن من ابتدأ سفرًا مباحًا؛ وفاقًا لمالك؛ والشافعي، والأصح: أو هو أكثر قصده ناويًا، مسافة يومين برًا أو بحرًا، لا ثلاثة أيام بلياليها، بسير الإبل، خلافًا لأبي حنيفة.
ومسافة اليومين: أربعة بُرُد، قال أبو المعالي: تحديدًا، وظاهر كلامهم: تقريبًا، وهو أولى؛ كما في "الفروع"(1)، وغيره، وجزم به في "الإقناع"(2)، وغيره، وهي: ستة عشر فرسخًا، وفاقًا لمالك، والشافعي، والفرسخ: ثلاثة أميال هاشمية، وبأميال بني أمية ميلان ونصف، والميل: اثنا عشر ألف قدم، ستة آلاف ذراع، والذراع: أربع وعشرون إصبعًا معترضة معتدلة، كل إصبع ست حبات شعير، بطون بعضها إلى بعض، عرض كل شعيرة ست شعرات برذون؛ فله قصر الرباعية خاصة إلى ركعتين، إجماعًا (3).
وذكر الحافظ في هذا الباب حديثًا واحدًا، وهو:
(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 47).
(2)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 274).
(3)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: صَحِبْتُ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بكرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ كَذِلِكِ (1).
* * *
(عن) أبي عبد الرحمن (عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، قال: صحبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين) سبب إيراد ابن عمر لهذا الحديث: ما في "صحيح مسلم"، عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة، فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رَحْلَه، وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحوَ حيثُ صلى، فرأى ناسًا قيامًا، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلنا:
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (1051)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: من لم يتطوع في السفر دبر الصلوات وقبلها، واللفظ له، و (1032)، باب: الصلاة بمنى، و (1572)، كتاب: الحج، باب: الصلاة بمنى، ومسلم (689/ 8)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها، و (694)، باب: قصر الصلاة بمنى، وأبو داود (1223)، كتاب: الصلاة، باب: التطوع في السفر، والنسائي (1458)، كتاب: تقصير الصلاة في السفر، باب: التطوع في السفر، والترمذي (544)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التقصير في السفر، وابن ماجه (1069)، كتاب: الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين في السفر.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 15)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 20)، و"المفهم" للقرطبى (2/ 330، 334)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 198)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 102)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 667)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 133)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 578)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 144)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 244).
يسبحون، قال: لو كنت مسبحًا، أتممت صلاتي، يا بن أخي! إني صحبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه (1). (وأبا بكر) الصديق، (وعمر) الفاروق، (وعثمان) بن عفان (كذلك)؛ أي: لم يزد واحد منهم الظهر في السفر على ركعتين.
وأخرجه البخاري من قوله: صحبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
…
إلى آخره.
فقول ابن دقيق العيد -بعد إيراد كلام الحافظ على النسق الذي ذكره-: هذا لفظ رواية البخاري في الحديث، وفي لفظ رواية مسلم أكثر وأزيد، فليعلم ذلك، انتهى (2). لا طائل تحته؛ فالحديث متفق عليه، وإنما زاد مسلم سبب الحديث الذي ذكرناه، وفي آخره: وقد قال اللَّه عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
قال الحافظ عبد الحق: والصحيح أن عثمان رضي الله عنه أتم في آخر عهده، انتهى (3).
قال ابن تيمية: قد علم بالتواتر: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يصلي في السفر ركعتين، وكذلك أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما بعده، وهذا يدل على أن الركعتين أفضل؛ كما عليه جماهير العلماء، فإن قيل: ما فائدة ذكره لأبي بكر وعمر وعثمان مع أن الحجة قائمة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم؟
فالجواب: فائدة ذلك العلمُ بكون ذلك معمولًا به عند الأئمة، لم يتطرق إليه النسخ، ولا معارض راجح، وأما إتمام عثمان في آخر أمره، فقد عرف إنكار أئمة الصحابة عليه ذلك، ومع هذا، فكانوا يصلون خلفه،
(1) تقدم تخريجه قريبًا برقم (689/ 8) عنده.
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 102).
(3)
انظر: "الجمع بين الصحيحين" لعبد الحق الإشبيلي (1/ 462).
بل كان ابن مسعود رضي الله عنه يصلي أربعًا، وإن انفرد، ويقول: الخلاف شر، وكان ابن عمر إذا انفرد، صلى ركعتين (1).
تنبيهات:
الأول: الأفضل للمسافر القصر، نص عليه الإمام أحمد في رواية الأثرم، وقد سأله: هل للمسافر أن يصلي أربعًا؟ فقال: لا يعجبني، ولكن السفر ركعتان، وقد نقل عنه المروذي؛ أنه قال: إن شاء صلى أربعًا، وإن شاء صلى ركعتين (2).
قال شيخ الإسلام: ولا يختلف قول الإمام أحمد: أن الأفضل هو القصر، بل نقل عنه إذا صلى أربعًا: أنه توقف في الإجزاء.
ومذهب مالك: كراهة التربيع، وأنه يعيد في الوقت.
ومذهب الشافعي: جواز الأمرين، واختلف عنه في الأفضل؛ أصح القولين: القصر، كإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، واختيار كثير من أصحابه، ومذهب أبي حنيفة، وكذا حماد بن سليمان: ليس له الإتمام، وهو قول الثوري، وأوجب حماد على من أتم الإعادة (3).
وقال أصحاب الرأي: إن كان جلس بعد التشهد قدر ركعتين، فصلاته صحيحة، وإلا فلا، كذا في "الشرح الكبير"(4).
والذي في كلام شيخ الإسلام: إذا جلس مقدار التشهد، تمت صلاته،
(1) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 98 - 100).
(2)
وانظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية ابنه عبد اللَّه"(ص: 117).
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 93).
(4)
انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (2/ 100).
والمفعول بعد ذلك كصلاة منفصلة قد تطوع بها، وإن لم يقعد مقدار التشهد، بطلت صلاته، انتهى (1).
وقال عمر بن عبد العزيز: الصلاة في السفر ركعتان حتم، لا يصح غيرهما (2).
والحديث إنما يقتضي أفضلية القصر؛ لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ورجحانه على الإتمام، والفعل بمجرده لا يدل على الوجوب، مع دلالة قوله تعالى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، فرفع الجناح، ولم يوجب القصر (3).
وفي حديث يعلى بن أمية؛ لما سأل عمر عن الآية، وقال له: قد أمن الناس!، فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"صدقة تصدق اللَّه بها عليكم، فاقبلوا صدقة اللَّه"(4)، فدل على أنه رخصة، وليس بعزيمة.
وقالت عائشة رضي الله عنها: خرجت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقلت: يا رسول اللَّه! بأبي وأمي، أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت؟! قال:"أحسنت" رواه أبو داود، والدارقطني، وقال: إسناده حسن (5).
(1) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 96).
(2)
انظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 271).
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 102).
(4)
رواه مسلم (686)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها.
(5)
لم يروه أبو داود في "سننه". وقد رواه الدارقطني في "سننه"(2/ 188)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 142).
وأنكر الحافظ ابن عبد الهادي ذلك، وقال: قوله: "عمرة في رمضان" باطل؛ فإن نبي اللَّه لم يعتمر في رمضان قط (1).
وفي حديث عائشة رضي الله عنها: قصر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في السفر وأتم، وصام وأفطر، رواه عبد اللَّه بن الإمام أحمد، والدارقطني، وقال: إسناده صحيح، واللَّه أعلم (2).
الثاني: قد علم مما تقدم: أن القصر رخصة، وهي لغةً: السهولة، واصطلاحًا: أتت على خلاف أصل شرعي لمعارض راجح.
وقال أبو حنيفة: هو عزيمة، وهي لغة: القصد المؤكد، واصطلاحًا: ما جاء على وفق أصل شرعي خال من معارض راجح.
وعن أصحاب مالك: كالمذهبين (3). فمن قال: إنه عزيمة، يوجب القصر، ولو في سفر غير مباح.
قال ابن حزم، وغيره: من صلى أربعًا في السفر، فصلاته باطلة، كما لو صلى الفجر أربعًا (4).
وقد روى سعيد في "سننه"، عن الضحاك بن مزاحم، قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: من صلى في السفر أربعًا، كمن صلى في
(1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 48).
(2)
رواه الدارقطني في "سننه"(2/ 189). قال عبد اللَّه بن الإمام أحمد في "العلل"(1/ 404): سألت أبي عن المغيرة بن زياد، فقال: ضعيف الحديث، قال أبي: وروى عن عطاء، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر قصر وأتم، والناس يروونه عن عطاء مرسلًا. وانظر:"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 48).
(3)
انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 110).
(4)
انظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 270).
الحضر ركعتين (1)، وخص ابن مسعود رضي الله عنه جواز القصر بسفر الحج والعمرة والجهاد، واللَّه أعلم (2).
الثالث: اعتبار كون المسافة ستة عشر فرسخًا، فما زاد، وهو قول ابن عباس، وابن عمر، وهو مذهب مالك، والليث، والشافعي، وإسحاق، وروي عن ابن عمر: أنه يقصر في مسيرة عشرة فراسخ، حكاه ابن المنذر.
وروي نحوه عن ابن عباس، فإنه قال: يقصر في يوم، ولا يقصر فيما دونه (3)، وإليه ذهب الأوزاعي، قال ابن المنذر: عامة العلماء يقولون: مسيرة يوم تام، وبه نأخذ، انتهى.
وعن ابن مسعود: أنه إنما يقصر في مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة.
وقد وري عن جماعة من السلف ما يدل على جواز القصر في أقل من يوم، قال الأوزاعي: كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ (4). وهذا القول مختار شيخ الإسلام ابن تيمية، وله إليه ميل كلي، وذكر على صحته أدلة متعددة (5)، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 251)
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 96).
(3)
روى عبد الرزاق في "المصنف"(4299)، عن ابن عباس، قال: إذا سافرت يومًا إلى العشاء، فأتم الصلاة، فإن زدت، فاقصر.
(4)
انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 47 - 48).
(5)
انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 123)، وما بعدها.