الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع عشر
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَهِدَ الجَنَازةَ حَتَّى يُصَلِّي عَلَيْهَا، فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ، فَلَهُ قِيرَاطَان"، قِيلَ: وَمَا القِيرَاطَانِ؟ قَالَ: "مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ"(1). ولِمسلمٍ: "أَصْغَرُهُما مِثْلُ أُحُدٍ"(2).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (47)، كتاب: الإيمان، باب: اتباع الجنائز من الإيمان، و (1260)، كتاب: الجنائز، باب: فضل اتباع الجنائز، و (1261)، باب: من انتظر حتى تدفن، ومسلم (945/ 52)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، والنسائي (1994 - 1995)، كتاب: الجنائز، باب: ثواب من صلى على جنازة، وابن ماجه (1539)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في ثواب من صلى على جنازة وانتظر دفنها.
(2)
رواه مسلم (945/ 53)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، وأبو داود (3168)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة وتشييعها، والترمذي (1040)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في فضل الصلاة على الجنازة.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"عارضة الأحوذي"(4/ 261)، "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 403)، و"المفهم للقرطبي"(2/ 603)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 13)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 175)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 791)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: =
(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر (رضي الله عنه، قال) أَبو هريرة: (قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: من شهد الجنازة) في رواية لمسلم من حديث خباب: "من خرج مع جنازة من بيتها"(1)، وللإمام أحمد من حديث أبي سعيد:"فمشى معها من أهلها"(2)(حتى يصلِّي) -بكسر اللام-، وفي رواية الأكثر -بفتحها-، وهي محمولة عليها؛ فإن حصول القيراط متوقف على وجود الصلاة من الذي يشهد (3) (عليها)؛ أي: على الجنازة، وفي رواية الكشميهني من نسخ البخاري:"عليه"؛ أي: الميت (4)(فله)؛ أي: لمن شهدها حتى صلى عليها من الأجر (قيراط)، فلو تعددت الجنائز، واتحدت الصلاة عليها دفعة واحدة، هل تتعدد القراريط بتعددها، أو لا تتعدد؛ نظرًا لاتحاد الظاهر الصلاة؟!
الظاهر: التعدد، ونص عليه غير واحد، واستظهره الأذرعي من الشافعية، ومقتضى التقييد في رواية الإمام أحمد وغيرها بقوله:"فمشى معها من أهلها"(5): أن القيراط يختص بمن حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة، لكن ظاهر حديث البزار من طريق ابن عجلان، عن أبيه، عن
= 165)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 108، 3/ 192)، و"عمدة القاري" للعيني (1/ 270)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 106)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 92).
(1)
رواه مسلم (945/ 56)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 27).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 196 - 197).
(4)
المرجع السابق، (3/ 196).
(5)
تقدم تخريجه قريبًا.
أبي هريرة، بلفظ:"فإن انتظرها حتى تدفن، فله قيراط"(1) حصوله لمن صلى فقط، لكن يكون قيراطه دون قيراط من شيع مثلًا وصلى، ويؤيد ذلك رواية مسلم عن أبي هريرة حيث قال:"أصغرهما مثل أحد"، ففيه دلالة على أن القراريط تتفاوت، وفي مسلم -أيضًا-:"من صلى على جنازة ولم يتبعها، فله قيراط"(2)، فظاهره: حصول القيراط وإن لم يقع اتباع، لكن يمكن حمل الاتباع هنا على ما بعد الصلاة، لا سيما وحديث البزار ضعيف (3).
(ومن شهدها)؛ أي: الجنازة (حتى تدفن)؛ أي: يفرغ من دفنها بأن يُهال عليها بالتراب، وعلى ذلك تحمل رواية مسلم:"حتى توضع في اللحد"(4)، (فله)، وفي لفظ:"كان له"(5)(قيراطان) من الأجر المذكور، وهل يحصل ذلك بقيراط الصلاة، أو بدونه، فتكون ثلاثة قراريط؟ المعتمد الأول (6).
قال الإمام ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد": سئل أَبو نصر بن الصباغ عن القيراطين هل هما غير الأول، أو به؟، فقال: بل القيراطان: الأول، وآخر معه؛ بدليل قوله تعالى:{مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1].
قال ابن القيم: قلت: ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى العشاء في جماعة، فكأنما أقام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة، فكأنما أقام
(1) رواه البزار في "مسنده"(3/ 30 - "مجمع الزوائد" للهيثمي).
(2)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (945/ 53).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 194).
(4)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (945/ 52).
(5)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1261)، ومسلم برقم (954/ 56).
(6)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 109).
الليل كله" (1)، ونظيره قوله تعالى:{أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 9 - 10]، فهي أربعة باليومين الأولين، ولولا ذلك لكانت أيام التخليق ثمانية (2).
وهل يحصل قيراط الدفن وإن لم يحصل اتباع؟ فيه بحث. لكن مقتضى رواية البخاري في كتاب: الإيمان من "صحيحه" حيث قال: "وكان معها حتى يصلي عليها، ويفرغ من دفنها"(3): أن القيراطين إنما يحصلان بمجموع الصلاة والاتباع في جميع الطريق وحضور الدفن، فإن صلى مثلًا وذهب إلى القبر وحده، فحضر الدفن، لم يحصل له إلا قيراط واحد، صرح به النووي في "المجموع"، (4) وغيره.
نعم، له أجر في الجملة، ومقتضى جميع الأحاديث: أن من اقتصر على التشييع، فلم يصل، ولم يشهد الدفن، فلا قيراط له، إلا على ما يفهم من كلام الإمام ابن عقيل فيما يأتي (5).
(قيل)، وعند أبي عوانة: قال أَبو هريرة: قلت: يا رسول اللَّه (6)! (وما القيراطان؟ قال) صلى الله عليه وسلم: هما (مثل الجبلين العظيمين). (و) أخص من ذلك ما في رواية (لمسلم) من تمثيل (أصغرهما)؛ أي: القيراطين بأنه (مثل) جبل (أحد).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 656).
(3)
تقدم تخريجه برقم (47).
(4)
انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (5/ 232).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 197).
(6)
وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (2/ 134).
قال الطيبي: "قوله: مثل أحد": تفسير للمقصود من الكلام، لا للفظ القيراط، والمراد: أنه يرجع بنصيب كبير من الأجر.
وقال الزين بن المنير: أراد تعظيم الثواب، فمثَّله للعيان بأعظم الجباب خلقًا، وأكثرها إلى النفوس المؤمنة حبًا؛ لأنه الذي قال صلى الله عليه وسلم في حقه "جبل يحبنا ونحبه"(1).
والقيراط -بكسر القاف-، قال الجوهري: نصف دانق (2)، والدانق سدس درهم، فعلى هذا يكون القيراط جزءًا من اثني عشر جزءًا من الدرهم.
وقال الإمام ابن عقيل: نصف سدس درهم، أو نصف عشر دينار.
وقال ابن الأثير: هو نصف عشر الدينار في أكثر البلاد، وفي الشام جزء من أربع وعشرين جزءًا (3).
وقال القاضي أَبو بكر بن العربي: الذرة جزء من ألف وأربعة وعشرين جزءًا من حبة، والحبة ثلث القيراط، والذرة تُخرج من النار، فكيف بالقيراط (4)؟.
فائدة: قال الإمام ابن القيم في كتابه "البدائع": لم أزل حريصًا على معرفة المراد بالقيراط في هذا الحديث، وإلى أي شيء نسبته، حتى رأيت
(1) رواه البخاري (2732)، كتاب: الجهاد والسير، فضل الخدمة في الغزو، ومسلم (1365)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وانظر:"فتح الباري" لابن حجر (3/ 195).
(2)
انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1151)، (مادة: قرط).
(3)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 42).
(4)
انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي المالكي (4/ 261 - 262).
لابن عقيل فيه كلامًا، قال: القيراط نصف سدس درهم مثلًا، أو نصف عشر دينار، ولا يجوز أن يكون المراد هنا جنس الأجر؛ لأن ذلك يدخل فيه ثواب الإيمان بأعماله؛ كالصلاة والحج وغيره، وليس في صلاة الجنازة ما يبلغ هذا، [فـ]ـلم يبق إلا أن يرجع إلى المعهود، وهو الأجر العائد إلى الميت، ويتعلق بالميت، صبر على المصاب فيه وبه، وتجهيزه، وغسله، ودفنه، والتعزية به، وحمل الطعام إلى أهله، وتسليتهم، وهذا مجموع الأجر الذي يتعلق بالميت، فكان للمصلي والجالس إلى أن يقبر سدس ذلك، أو نصف سدسه إن صلى وانصرف.
قال ابن القيم: قلت: كأن مجموع الأجر الحاصل على تجهيز الميت من حين الفراق إلى وضعه في لحده، وقضاء حق أهله وأولاده وجبرهم دينار مثلًا، فللمصلّي عليه فقط من هذا الدينار قيراط، والذي يتعارفه النّاس من القيراط أنّه نصف سدس، فإن صلّى عليه وتبعه، كان له قيراطان منه، وهما سدسه، وعلى هذا فيكون نسبة القيراط إلى الأجر الكامل بحسب عظم ذلك الأجر الكامل في نفسه، فكلما كان أعظم، كان القيراط منه بحسبه، فهذا بين هاهنا.
وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اقتنى كلبًا إلَّا كَلْبَ ماشيةٍ أو زرعٍ، نقصَ من أجرِه أو من عمله كُل يوم قيراطٌ"(1)، فيحتمل أن يراد به هذا المعنى أيضًا بعينه، وهو نصفُ سدسِ أجر عمله ذلك اليوم، ويكون صغرُ هذا القيراط وكبرُهُ بحسب قلة عمله وكثرته، فإذا كانت له أربعة وعشرون ألفَ حسنةٍ مثلًا،
(1) رواه البخاري (3146)، كتاب: بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ومسلم (1575)، كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
نقص منها كلَّ يوم ألفا حسنة، وعلى هذا الحساب، واللَّه أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا مبلغ العلم في فهم هذا الحديث، انتهى (1).
قلت: الذي ينبغي: اعتبارُ قيراط المصلّي، أو قيراطي المصلّي والمشيِّع إلى أن يدفن الميت بأكمل حالات المصاب، وإلا فقد يكون عاريًا عن الثواب، أو محتملًا للذنوب؛ لعدم الصبر والتسخط، فيعرى المصلّي عن الثواب، ولا قائل به، وبه أجبت من عارض ما قدمنا، وكذلك ينبغي اعتبار مقتني الكلب في الجملة، وهذا ظاهر، واللَّه الموفق.
* * *
(1) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 655 - 666).