المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثاني عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ٣

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب الوتر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب بالذكر عقب الصلاة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب الجمع بين الصلاتين في السفر

- ‌باب قصر الصلاة في السفر

- ‌باب الجمعة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌باب العيدين

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب صلاة الكسوف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب صلاة الاستسقاء

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب صلة الخوف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌كتاب الجنائز

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌كتاب الزكاة

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب صدقة الفطر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌كتاب الصيام

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌[كتاب] الصوم في السفر وغيره

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌باب أفضل الصيام

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

الفصل: ‌ ‌الحديث الثاني عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا

‌الحديث الثاني

عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ المَسْجِدَ يَومَ الجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ القَضَاءِ، وَرَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسولَ اللَّهِ! هَلَكَتِ الأمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادع اللَّهَ يُغِثْنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، تمَّ قَالَ:"اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا"، قَالَ أَنسٌ: فَلا واللهِ! مَا نَرَى في السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلا قَزَعَةٍ، وَما بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ دَارٍ وَلا بَيتٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِه سَحَابةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ، انْتشًرَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: فلا وَاللَّهِ! ما رأَينَا الشَّمْسَ سَبْتًا. ثُمَّ دَخَلَ رَجُل مِنْ ذَلِكَ البَابِ فِي الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكَتِ الأمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكامِ والظِّرَابِ وَبُطُونِ الأوْدِيَةِ وَمَنَابتِ الشَّجَرِ"، قَالَ: فَأَقْلَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي في الشَّمْسِ، قَالَ شريكٌ: فَسَأَلْتُ أَنسَ بْنَ مالكٍ: أَهُوَ الرَّجُلُ الأول؟ قَالَ: لا أَدْرِي (1).

الظِّراب: الجبال الصغار.

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البخاري (967)، كتاب: الاستسقاء، باب: الاستسقاء في المسجد الجامع، و (890)، كتاب: الجمعة، باب: رفع اليدين في الخطبة، =

ص: 259

(عن) أبي حمزة (أنس بن مالك) الأنصاري رضي الله عنه خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (أن رجلًا) من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (دخل المسجد) النبوي (يوم الجمعة) من (باب)[من] أبوابه، (كان) ذلك الباب (نحو دار القضاء). قال في "المطالع": وهي دار مروان بالمدينة، كانت لعمر، فبيعت في قضاء دينه بعد موته، قال: وغلط بعضهم في تفسيرها، فقال:

= و (891)، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، و (973)، كتاب: الاستسقاء، باب: إذا استسقوا إلى الإمام ليستسقي لهم لم يردهم، و (975)، باب: الدعاء إذا كثر المطر: حوالينا ولا علينا، و (983)، باب: رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، و (986)، باب: من تمطَّر في المطر، حتى يتحادر على لحيته، و (3389)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، و (5742)، كتاب: الأدب، باب: التبسم والضحك، و (5982)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء غير مستقبل القبلة. ورواه مسلم (897/ 8)، واللفظ له، و (897/ 9 - 12)، كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: الدعاء في الاستسقاء، وأبو داود (1174 - 1175)، كتاب: الصلاة، باب: رفع اليدين في الاستسقاء، والنسائي (1515)، كتاب: الاستسقاء، باب: كيف يرفع؟ و (1517 - 1518)، باب: ذكر الدعاء، و (1527)، باب: مسألة الإمام رفع المطر إذا خاف ضرره، و (1528)، باب: رفع الإمام يديه عند مسألة إمساك المطر.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 319)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 542)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 191)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 147)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 742)، و"فتح الباري" لابن رجب (6/ 296)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 151)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 551)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 38)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 80)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 40).

ص: 260

هي دار الإمارة، قال ابن قرقول: وهذا محتمل؛ لأنها صارت لأمير المدينة، واللَّه أعلم (1).

والرجل الداخل للمسجد (ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائم) على المنبر (يخطب) خطبة الجمعة، هو: مرة بن كعب، وذكر بعضهم: أنه العباس، وهو مردود منكر؛ فإن في بعض الروايات في "الصحيحين"، وغيرهما: جاء أعرابي (2)، وفي بعضها: أتى رجل أعرابي من أهل البدو (3)، والعباس لا يقال فيه ذلك، ويبعد تعدد القضية.

على أن في بعض طرق البخاري: فقام الناس، فصاحوا، فقالوا: يا رسول اللَّه!

الحديث (4)، وهو ظاهر في التعدد، ويمكن الجمع: بأن الرجل ابتدأ أولًا بالسؤال، ثم تابعه الناس.

وفي "شرح البخاري" لابن التين: قوله: فقام الناس، إن كان محفوظًا، فقد تكلم الرجل، ثم صاحوا، ويحتمل أن يعني بالناس للرجل، لأنه متكلم عنهم، وهم حضور، أو لعلهم صاحوا وتكلم عنهم، انتهى (5).

(فاستقبل) الرجل (رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) حال كونه (قائمًا، ثم قال) ليس معنى "ثم" هنا للتراخي، بك لمجرد الترتيب:(يا رسول اللَّه! هلكت الأموال) الحيوانية، وكذا النباتية؛ من الجدب الناشىء عن قلة المطر، (وانقطعت السبل) جمع سبيل؛ أي: الطرق، لعدم السالكين فيها؛ لشدة هزال

(1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 265، 2/ 190).

(2)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (897)، وعند مسلم برقم (897/ 12).

(3)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (983).

(4)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (975).

(5)

وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 501 - 502).

ص: 261

الرواحل الناشىء عن الجدب، أو لقلة المياه التي يعتاد المسافر ورودها، أو لاشتغال الناس بشدة القحط عن الضرب في الأرض (1)، وأنت بين أظهرنا لا تُرد دعوتك؛ لأنك رسول اللَّه القادر على إزالة ذلك كله، بالخصب الناشىء عن المطر (فادع اللَّه) سبحانه وتعالى؛ فإنك إن تدعُه (يغثنا) ببركة دعائك، ويذهب عنا الجذب والقحط المضر بنا؛ إجابة لدعائك.

(قال) أنس بن مالك رضي الله عنه: (فرفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يديه).

فيه: دليل على استحباب رفع اليدين في سائر الأدعية؛ فمن الناس من خص رفع اليدين بدعاء الاستسقاء، وتركوا رفع اليدين في سائر الأدعية، ومنهم، من عداه إلى كل دعاء، ومنهم، من فرق بين دعاء الرغبة، ودعاء الرهبة، فقال: في دعاء الرغبة يجعل ظاهر كفيه إلى السماء، وباطنها إلى الأرض، وفي دعاء الرهبة بالعكس، وقالوا: الراغب كالمستطعم، والراهب كالمستجير.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصحيح الرفعُ مطلقًا، فقد تواتر في الصحاح: أن الطفيل قال: يا رسول اللَّه! إن دوسًا قد عصت وأبت، فادع عليهم، فاستقبل القبلة، ورفع يديه، وقال:"اللهم اهد دوسًا، وأْتِ بهم"(2).

(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 147).

(2)

رواه البخاري (2779)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، ومسلم (2524)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل غفار وأسلم .. ، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 243)، واللفظ له، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 262

وفي "الصحيح": أنه عليهم السلام لما دعا لأبي عامر، رفع يديه (1).

وفي حديث عائشة: لما دعا لأهل البقيع، رفع يديه ثلاث مرات رواه مسلم (2)، وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه، فقال:"أمتي أمتي"، وفي آخره:"قال اللَّه تعالى: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نَسُوءك"(3).

وفي حديث بدر: لما رأى المشركين، مد يديه، وجعل يهتف بربه، فما زال يهتف بربه، مادًا يديه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه (4).

وفي حديث قيس بن سعد: فرفع يديه، وهو يقول:"اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة"(5).

وبعث جيشًا فيه علي رضي الله عنه، فرفع يديه، وقال:"اللهم لا تمتني حتى تريني عليًا"(6).

(1) رواه البخاري (4068)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أوطاس، ومسلم (2498)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي موسى، وأبي عامر الأشعريين رضي الله عنهما، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم (974)، كتاب: الجنائز، باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها.

(3)

رواه مسلم (202)، كتاب: الإيمان، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وبكائه شفقة عليهم، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(4)

رواه مسلم (1763)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(5)

رواه أبو داود (5185)، كتاب: الأدب، باب: كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان؟، والنسائي في "السنن الكبرى"(10157)، وغيرهما.

(6)

رواه الترمذي (3737)، كتاب: المناقب، باب:(21)، وقال: حسن غريب، =

ص: 263

وفي حديث القنوت: رفع يديه (1).

وأما حديث أنس رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه، إلّا في الاستسقاء. متفق عليه، وفيه: فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه (2).

قال شيخ الإسلام -رحمه اللَّه تعالى-: والجمع بين حديث أنس هذا، وسائر الأحاديث؛ ما قاله طوائف من العلماء، وهو: أن أنسًا ذكر الرفع الشديد الذي يرى فيه بياض إبطيه، وينحني فيه بدنه، وهذا الذي سماه ابن عباس الابتهال، فجعل المراتب ثلاثة:

الإشارة بإصبع واحدة: كما كان يفعل يوم الجمعة على المنبر.

والثانية: المسألة، وهو أن يجعل يديه حذو منكبيه، كما في أكثر الأحاديث.

والثالثة: الابتهال: وهو الذي ذكره أنس، ولهذا قال: كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه، وهذا الرفع إذا اشتد كان بطون يديه مما يلي وجهه والأرض، وظهورهما مما يلي السماء.

قال: وقد يكون أنس أراد بالرفع على المنبر يوم الجمعة، كما في

= والطبراني في "المعجم الكبير"(25/ 68)، وغيرهما، عن أم عطية رضي الله عنهما.

(1)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 137)، والطبراني في "المعجم الكبير"(3606)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 211)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (984)، كتاب: الاستسقاء، باب: رفع الإمام يده في الاستسقاء، ومسلم (895)، كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء.

ص: 264

مسلم، وغيره: أنه كان لا يزيد على أن يرفع إصبعه المسبِّحة (1).

قال: وفي هذه المسألة قولان؛ هما وجهان في مذهب الإمام أحمد -يعني: في رفع الخطيب يديه-: قيل: يستحب، قاله ابن عقيل. وقيل: لا بل يكره، وهو أصح، قال إسحاق ابن راهويه: هو بدعة لمخاطب، إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير بإصبعه إذا دعا.

قال في "الإقناع": ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة. قال المجد: هو بدعة؛ وفاقًا للمالكية، والشافعية، وغيرهم، ولا بأس بأن يشير بإصبعه فيه (2).

وفي "الفروع": قيل: يرفع يديه -يعني: الخطيب حالة الدعاء- في خطبة الجمعة، جزم به في "الفصول"، واحتج بالعموم، وقيل: لا يستحب، قال صاحب "المحرر": بدعة؛ وفاقًا للمالكية، والشافعية، وغيرهم (3).

ورأى عمارة بن رُؤَيْبَة بشر بن مروان رفع يديه في الخطبة، فقال: قبح اللَّه هاتين اليدين، لقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة. رواه الإمام أحمد، ومسلم، وفي لفظ الإمام أحمد: لعن اللَّه هاتين اليدين (4).

فيكون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما استسقى على المنبر، رفع يديه، مع عدم

(1) رواه مسلم (874)، كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، عن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه.

(2)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 298)، و"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 37).

(3)

انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 93).

(4)

تقدم تخريجه قريبًا عند مسلم، ورواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 261).

ص: 265

ثبوت عدم رفع يديه على المنبر في غير الاستسقاء، فيكون أنس رضي الله عنه أراد هذا المعنى، ولا سيما وقد كان عبد الملك أحدث رفع الأيدي على المنبر، وأنس أدرك هذا العصر، وقد أنكر ذلك على عبد الملك غضيف بن الحارث (1).

فيكون أنس أخبر بالسنة التي أخبر بها غيره؛ من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يرفع يديه -يعني: على المنبر- إلّا في الاستسقاء، وهذا يشعر بأن الاستسقاء مخصوص بمزيد الرفع؛ وهو الابتهال، كما تقدم، فحينئذ زال الاختلاف من بين الأحاديث، وللَّه الحمد.

تنبيه: المطلوب في رفع اليدين: أن تكون بطونها إلى الأعلى.

قال شيخ الإسلام؛ كما في "مختصر الفتاوى": من ظن أنه صلى الله عليه وسلم قصد توجيه ظهر يديه إلى السماء، فقد أخطأ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا سألتم اللَّه، فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها" رواه أبو داود من وجوه (2).

وأما حديث أنس: إنما هو لشدة الرفع انحنت يديه، فصار كفه مما يلي السماء لشدة الرفع، لا قصدًا لذلك، كما جاء: أنه رفعهما حذاء وجهه (3)، وفي الحديث عن أنس: أنه رآه يدعو بباطن كفيه، وظاهرهما (4)، فهذه ثلاثة أنواع في هذا الرفع الشديد: رفع الابتهال: يذكر فيه أن بطونهما مما

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 105).

(2)

رواه أبو داود (1485)، كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، وابن ماجه (3866)، كتاب: الدعاء، باب: رفع اليدين في الدعاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

تقدم تخريجه عند النسائي برقم (1515).

(4)

رواه أبو داود (1487)، كتاب: الصلاة، باب: الدعاء.

ص: 266

يلي وجهه، وهذا أشد ما يكون من الرفع، وتارة يذكر هذا وهذا.

قال: فتبين بذلك أنه لم يقصد في هذا الرفع الشديد لا ظهر اليد، ولا بطنها؛ لأن الرفع إذا قوي، تبقى أصابعهما نحو السماء، مع نوع من الانحناء الذي يكون فيه هذا تارة، وهذا تارة.

وأما إذا قصد توجيه بطن اليد، أو ظهرها؛ فإنما كان يوجه بطنها، وهذا في الرفع المتوسط الذي هو رفع المسألة، التي يمكن فيه القصد، ورفع ما يختار من البطن أو الظهر، بخلاف الرفع الشديد الذي يرى بياض إبطيه، فلا يمكن فيه توجيه باطنها، بل ينحني قليلًا بحسب الرفع، فبهذا تتألف الأحاديث، وتظهر السنة، انتهى (1).

(ثم قال) صلى الله عليه وسلم: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا) -بالهمز-؛ من الإغاثة، ويقال فيه: غاثه يغيثه، وهو قليل، وإنما هو من الغيث، لا الإغاثة، ومنه الحديث: فادع اللَّه يَغثنا (2) -بفتح الياء-، يقال: غاث اللَّه البلاد يَغيثها: إذا أرسل عليها المطر (3).

(قال أنس) رضي الله عنه: (فلا واللَّه! ما نرى) -معشر المسلمين من الصحابة- (في السماء من سحاب) جمع سحابة: الغيم، (ولا قزعة)؛ أي: قطعة من الغيم، وجمعها قَزَع، (وما)؛ أي: والحال أنه ليس (بيننا وبين سلع) وهو جبل عند المدينة (4)(من دار) تحجب عنا رؤية السحاب (ولا بيت) كل ذلك تأكيد لقوله: وما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة؛ لأنه

(1) لم أقف على كلامه رحمه الله في "الفتاوى المصرية الكبرى".

(2)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (968)، وعند مسلم برقم (897/ 8).

(3)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 393).

(4)

انظر: "معجم البلدان" لياقوت (3/ 236).

ص: 267

أخبر أن السحابة طلعت من وراء سلع، حيث (قال: فطلعت من ورائه)؛ أي: سلع (سحابة) صغيرة مستديرة (مثل الترس). قال في "المطالع": ظاهره أنها كانت بقدر الترس، وقال ثابت: ليس كذلك، إنما أراد أنها مستديرة، وهي أحمدُ السحاب (1)، فلو كان بينهم وبين سلع دار أو بيت، لأمكن أن تكون القزعة موجودة، لكن حال بينهم وبين رؤيتها ما بينهم وبين سلع من البناء لو كان.

(فلما توسطت) تلك السحابة (السماء، انتشرت)؛ أي: امتدت، وتفرقت، واتسعت، (ثم أمطرت) هطل المطر الذي هو الماء منها، قال في "القاموس": المطر: ماء السحاب (2).

(قال) أنس رضي الله عنه: (فلا واللَّه! ما رأينا الشمس سبتًا)؛ أي: جمعة.

وفي "البخاري" من حديث أنس: وما خرجنا من المسجد، حتى مطرنا، فما زلنا نمطر، حتى كانت الجمعة الأخرى (3)، وفي لفظ: لم نزل نُمْطَر إلى الجمعة التي تليها (4)، وفي لفظ آخر: فرفع يديه، وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده! ما [وضعهما](5) حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره، حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته (6).

(ثم دخل رجل من ذلك الباب) الذي كان دخل منه الرجل في الجمعة

(1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 121).

(2)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 613)، (مادة: مطر).

(3)

تقدم تخريجه عنده برقم (983).

(4)

تقدم تخريجه عنده برقم (3389)، إلا أن فيه:"الأخرى" بدل "تليها".

(5)

في الأصل: "وضعتهما".

(6)

تقدم تخريجه عنده برقم (891).

ص: 268

الأولى، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء بالغيث، وفي بعض طرق البخاري: فأتى الرجل (1)(في الجمعة المقبلة، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائم) على المنبر (يخطب، فاستقبله) الرجل حال كونه (قائمًا، فقال: يا رسول اللَّه! هلكت الأموال) من كثرة المطر؛ لعدم بروز الحيوانات للمرعى (وانقطعت السبل) لعدم قدرة الناس للخروج من كثرة المطر، وفي لفظ آخر عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقام الناس، فصاحوا، وقالوا: يا نبي اللَّه! قحط المطر

الحديث، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب -يعني: من الجمعة التي تليها-، صاحوا إليه: تهدمت البيوت، وانقطعت السبل (2)، (فادع اللَّه) عز وجل (يمسكها)، وفي لفظ: يحبسها (3)(عنا)، فكأنه لما سأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعتين، صاح الناس وضجوا، تصديقًا لما سأله إياه من الاستسقاء والاستصحاء، وأنهم كلهم على مثل ما قال وسأل.

(فرفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يديه) مستصحيًا، (ثم قال: اللهم حوالينا)؛ أي: أنزل الغيث حوالي المدينة، حيث مواضع النبات، (ولا) تنزله (علينا) في المدينة، ولا في غيرها من المباني والمساكن، يقال: هم حوله، وحوليه، وحواليه، وحياله (4). فدل على مشروعية الدعاء لإمساك المطر؛ كما استحب الدعاء لنزوله عند انقطاعه؛ فإن الكل مضر، وقد صرحوا

باستحباب ذلك (5)(اللهم على الآكام) -بفتح الهمزة الممدودة- على وزن

(1) تقدم تخريجه عنده برقم (983).

(2)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (975).

(3)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (975).

(4)

انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 216)، و"المطلع" لابن أبي الفتح (ص: 112).

(5)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 149).

ص: 269

آصال، و-بكسر الهمزة بغير مد- على جبال، فالأول: جمع أكم، ككتب، وأكم: جمع إكام كجبال، وأكام: جمع أكم، وأكم؛ واحده: أكمة (1). فالأكمة مفردة جمع أربع مرات (2)، وهو: ما غلظ من الأرض، ولم يبلغ أن يكون جبلًا، وكان أكثر ارتفاعًا مما حوله، كالتلول ونحوها، وقال مالك: هي الجبال الصغار، وقال غيره: هو ما ارتفع من التراب، أكبر من الكدى، ودون الجبال (3)، وقال الخليل: هي حجر واحد، وقيل: هي فوق الرابية، ودون الجبل (4).

(والظراب) جمع ظَرِب، قال الجوهري: الظرب -بكسر الراء-: واحد الظراب، وهي: الروابي الصغار (5)، وقال مالك: الظرب: الجبيل [المنبسط](6).

وفي "القاموس": الظرب؛ ككتف: ما نتأ من الحجارة وحد طرفه، أو الجبل المنبسط أو الصغير (7)(وبطون الأودية، ومنابت الشجر)؛ ليحصل به النفع، من غير أن يؤثر ضررًا (8)، وبطن الوادي: جوفه، وهو: محل سيلان الماء منه، ومنابت الشجر: حيث نبتت من الأرض.

(1) هكذا ذكره الجوهري في "الصحاح"(5/ 1862 - 1863)، (مادة: أكم).

(2)

قاله ابن أبي الفتح في "المطلع"(ص: 113).

(3)

انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 30).

(4)

انظر: "المطلع" لابن أبي الفتح (ص: 113)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 149).

(5)

انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 174)، (مادة: ظرب).

(6)

انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 328)، و"المطلع" لابن أبي الفتح (ص: 113).

(7)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 142)، (مادة: ظرب).

(8)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 149).

ص: 270

(قال) أنس رضي الله عنه: (فأقلعت) -يعني: السماء-؛ أي: لما دعا صلى الله عليه وسلم بإزاحة المطر عن المدينة المنورة، (وخرجنا) بعد حبسنا عن المشي من كثر المطر (نمشي) لقضاء حوائجنا، ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث دعا بالصحو، فاستجيبت دعوته (في الشمس) متعلق بـ:"نمشي"؛ أي: في شعاعها، وتسخينها.

وفي لفظ: فتقشعت عن المدينة، فجعلت تمطر حواليها، وما تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة، وإنها لفي مثل الإكليل (1)، أراد: أن الغيم تقشع عنها، واستدار بآفاقها، وكلُّ ما احتف بشيء من جوانبه؛ فهو إكليل؛ لأنه يجعل كالحلقة، ويوضع على أعلى الرأس (2).

وفيه من أعلام النبوة: إجابة دعائه بحصول المطر في الاستسقاء، وحصول الصحو في الاستصحاء، وتحول المطر عن المدينة إلى حواليها، حتى استدار بها من كل نواحيها إدارة الإكليل بالرأس.

وفي لفظ: قال أنس: فرأيت السحاب يتمزق، كأنه المُلاءُ حين تُطوى (3)، الملاء -بالضم والمد-: جمع ملاءة، وهي: الإزار والرَّيْطَة، وقال بعضهم: إن الجمع: ملأ -بغير مد-، والواحد ممدود، والأول أثبت، شبه تفرق الغيم واجتماع بعضه إلى بعض في أطراف السماء بالإزار إذا جمعت أطرافه وطوي، كما في "النهاية"(4).

(قال شريك) بن عبد اللَّه بن أبي نمر القرشي، يكنى: أبا عبد اللَّه

(1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (897/ 12).

(2)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 197).

(3)

تقدم تخريجه عند مسلم برقم (897/ 12).

(4)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 352).

ص: 271

المدني، قال الواقدي: الليثي، من أنفسهم، سمع: أنسًا، وابن المسيب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء، وعكرمة، وغيرهم.

روى عنه: سعد البصري، والإمام مالك، وغيرهما.

قال محمد بن سعد: توفي بعد سنة أربعين ومئة، قبل خروج محمد بن عبد اللَّه بن حسن بالمدينة، وخرج سنة خمس وأربعين ومئة.

وكان شريك ثقة، كثير الحديث، أخرج له الجماعة، إلّا الترمذي (1).

(فسألت أنسًا) رضي الله عنه: (أهو) يعني: (الرجل) الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم الاستصحاء لما كثر المطر الرجل (الأول) الذي سأله صلى الله عليه وسلم الاستسقاء فـ (قال) أنس رضي الله عنه: (لا أدري) هو هو أو غيره.

لكن في بعض طرق البخاري؛ ما يدل على أنه الأول، كما أشرنا إليه آنفًا؛ ففي حديث: أتى رجل أعرابي من البدو

الحديث، إلى قوله: فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى، فأتى الرجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (2).

وفي حديث آخر: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت المواشي، وتقطعت السبل، فدعا، فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، ثم جاء فقال: تهدمت البيوت (3).

ولا ينافي هذا ما في باقي الروايات: ثم جاء رجل، أو ثم جاء ذلك الرجل، أو غيره؛ لأن تعيين الجائي الأول زيادة ثقة، يجب قبولها.

(1) وانظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 363)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 360)، و"تهذيب الكمال" للمزي (12/ 475)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 296).

(2)

تقدم تخريجه برقم (983) عند البخاري.

(3)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (970).

ص: 272

قال الحافظ رحمه الله، ورضي عنه-:(الظراب: الجبال الصغار)، وتقدم: أنه جمع ظرب -بفتح الظاء، وكسر الراء-، وقد يجمع في القلة على أظرب (1)، واللَّه أعلم.

تنبيهات:

الأول: الاستسقاء على ثلاثة أضرب:

أحدها: الخروج إلى الصلاة، كما في حديث عبد اللَّه بن زيد المازني (2)؛ وهو أكملها وأفضلها.

الثاني: استسقاء الإمام يوم الجمعة على المنبر، كما في حديث أنس هذا؛ وهذا مذهب أبي حنيفة، وأنكر صلاة الاستسقاء مع ثبوتها في الصحاح والسنن والمسانيد.

ولا ينافي مشروعية الصلاة، أن يقع مجرد الدعاء في حالة أخرى، وإنما كان هذا الذي جرى في الجمعة مجرد دعاء بطلب السقيا؛ وهو مشروع إذا احتيج إليه، ولا ينافي مشروعية الصلاة في حالة أخرى، إذا اشتدت الحاجة إليها.

وقد خالف أبا حنيفة أصحابُه، فوافقوا الجمهور، واللَّه أعلم.

الثالث: أن يدعوا اللَّه عقيب صلاتهم، وفي خلواتهم (3).

الثاني: معتمد المذهب: أن لصلاة الاستسقاء خطبة واحدة بعد

(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 156).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 154)، و"المستوعب" للسامري (2/ 89)، و"الإنصاف" للمرداوي (2/ 460).

ص: 273

الصلاة، قال أبو بكر: اتفقوا عن أبي عبد اللَّه: أن في صلاة الاستسقاء خطبة، وصعودًا على المنبر، والصحيح: أنها بعد الصلاة، وبه قال مالك، والشافعي، ومحمد بن الحسن.

قال ابن عبد البر: وعليه جماعة الفقهاء (1)؛ لقول أبي هريرة رضي الله عنه: صلى ركعتين، ثم خطبنا (2)، ولأنها صلاة ذات تكبير، فأشبهت صلاة العيدين.

قال في "شرح المقنع": والمشروع خطبة واحدة، وبهذا قال عبد الرحمن بن مهدي.

وقال مالك والشافعي: يخطب خطبتين كخطبتي العيد؛ لقول ابن عباس: صنع النبي صلى الله عليه وسلم، كما صنع في العيد (3)، ولأنها أشبهتها في صفة الصلاة، فكذلك في صفة الخطبة.

ولنا: قول ابن عباس: لم يخطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتكبير (4)، وهذا يدل على أنه ما فصل بين ذلك بسكوت

(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 427).

(2)

رواه ابن ماجه (1268)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 326)، وغيرهما.

(3)

انظر: تخريج الأثر الآتي.

(4)

رواه النسائي (1521)، كتاب: الاستسقاء، باب: كيف صلاة الاستسقاء؟ والترمذي (558)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء، وابن ماجه (1266)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 355)، وغيرهم، بلفظ: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متبذلًا، متواضعًا، متضرعًا، حتى أتى المصلى، فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين، كما كان يصلي في العيد.

ص: 274

ولا جلوس؛ ولأن كل من نقل الخطبة، لم ينقل خطبتين، والصحيح من حديث ابن عباس؛ أنه قال: صلى ركعتين، كما كان يصلي في العيد (1)، ولو كان النقل كما ذكروه، فهو محمول على الصلاة بدليل أول الحديث.

وإذا صعد المنبر للخطبة: جلس، وإن شاء لم يجلس؛ لأنه لم ينقل، ولا ثم أذان يجلس لفراغه.

ويكثر في الخطبة الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر به، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10، 11]؛ فإن الاستغفار سبب نزول الغيث، والمعاصي سبب لقطعه، والاستغفار والتوبة يمحوان المعاصي (2).

وقد روي عن عمر رضي الله عنه: أنه خرج يستسقي، فلم يزد على الاستغفار، وقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء (3)؛ أي: أنوائها، ومجدحة السماء: أنواؤها (4).

وقال الداودي في قوله: اجدحْ لنا (5)؛ أي: احلب ولبِّن (6)، فعلى هذا

(1) تقدم تخريجه قريبًا.

(2)

انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 288 - 290).

(3)

رواه عبد الرزاق في "المصنف"(4902)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(29485)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 320)، والطبراني في "الدعاء"(964)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 352).

(4)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 243).

(5)

رواه البخاري (1854)، كتاب: الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم؟ ومسلم (1101)، كتاب: الصيام، باب: بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، عن عبد اللَّه بن أبي أوفى رضي الله عنه.

(6)

وقد غلطوا الداودي في ذلك، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(4/ 197).

ص: 275

يكون معنى "بمجاديح"؛ أي: بما تحلب به السماء من الدعاء والاستغفار.

الثالث: يستحب أن يدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما كما عند أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استسقى، قال:"اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا هنيئًا مريًا غدقًا مجللًا سَحًّا عامًا طبقًا دائمًا، اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والجهد والضنك، ما لا نشكوه إلّا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأَدِرَّ لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ادفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه عنا غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا"(1).

وروي من حديث جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مريًا مَريعًا نافعًا غير ضار عاجلًا غيرآجل"(2).

(1) كذا عزاه الشيخ ابنُ أبي عمر المقدسي في "شرح المقنع"(2/ 291)، وعنه نقل الشارح عزوه إلى أبي داود، وهو ذهول عجيب، إذ لم يروه أبو داود في "سننه" بهذا السياق، قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/ 99): ذكره -أي: هذا السياق- الشافعيُّ في "الأم"(1/ 251) تعليقًا، فقال: وروي عن سالم، عن أبيه، فذكره. ولم نقف له على إسناد، ولا وصله البيهقي في مصنفاته، بل رواه في "المعرفة"، من طريق الشافعي. قال: ويروى عن سالم، به. ثم قال: وقد روينا بعض هذه الألفاظ، وبعض معانيها في حديث أنس بن مالك، وفي حديث جابر، وفي حديث عبد اللَّه بن جراد، وفي حديث كعب بن مرة، وفي حديث غيرهم، ثم ساقها بأسانيده، انتهى.

(2)

رواه أبو داود (1169)، كتاب: الصلاة، باب: رفع اليدين في الاستسقاء، وعبد بن حميد في "مسنده"(1125)، والحاكم في "المستدرك"(1222)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 355)، وغيرهم.

ص: 276

قال الخطابي: "مريعًا" يروى على وجهين: بالموحدة، والمثناة؛ فمن رواه بالمثناة: جعله من المراعة، يقال: أمرع المكان: إذا أخصب، ومن رواه بالموحدة: فمعناه: منبت للربيع (1).

الرابع: يجوز التوسل بالصالحين، وقيل: يستحب، قال الإمام أحمد في "منسكه" الذي كتبه للمروذي: إنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه، وجزم به في "المستوعب"(2) وغيره.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: التوسل بالإيمان به، وبطاعته، ومحبته، والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، وبدعائه، وشفاعته، ونحوه مما هو من فعله، أو أفعال العباد المأمور بها في حقه: مشروع إجماعًا، وهو من الوسيلة المأمور بها في قوله تعالى:{اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (3)[المائدة: 35]، واللَّه تعالى الموفق (4).

* * *

(1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 255).

(2)

انظر: "المستوعب" للسَّامري (2/ 88).

(3)

انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 442).

(4)

انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 127).

ص: 277