الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ، فَأَطَالَ القِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ القِيَامَ، وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرّكُوعِ الأوَّلِ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ فَعَلَ في الرَّكْعَةِ الأخْرَى مِثْلَ مَا فَعَلَ في الرَّكْعَةِ الأُوْلَى، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيتانِ مِنْ آياتِ اللَّهِ، لا يَخْسِفانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، فَإذَا رَأيتُمْ ذَلِكَ، فَادْعُوا اللَّهَ، وَكبِّرُوا، وَصَلّوا، وَتَصَدَّقُوا"، ثُمَّ قَالَ:"يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! [وَاللَّهِ] ما مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! واللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُم قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كثيرًا"(1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (997)، كتاب: الكسوف، باب: الصدقة في الكسوف، واللفظ له، و (4923)، كتاب: النكاح، باب: الغيرة، ومسلم (901/ 1)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف، والنسائي (1474)، كتاب: الكسوف، باب: نوع آخر من صلاة الكسوف، من طريق مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، به. ورواه مسلم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد اللَّه بن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، به.
وَفِي لَفْظٍ: فَاسْتكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ (1).
(1) رواه البخاري (999)، كتاب: الكسوف، باب: خطبة الإمام في الكسوف، ومسلم (901/ 3)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف، واللفظ له، وأبو داود (1180)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: أربع ركعات، والنسائي (1472)، كتاب: الكسوف، باب: نوع آخر من صلاة الكسوف، وابن ماجه (1263)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الكسوف، من طريق يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، به. وحديث عائشة رضي الله عنها رواه -أيضًا-: البخاري (1000)، كتاب: الكسوف، باب: هل يقول: كسفت الشمس أو خسفت؟ و (1002)، باب: التعوذ من عذاب القبر في الكسوف، و (1007)، باب: صلاة الكسوف في المسجد، و (1009)، باب: لا تنكسف الشمس لموت أحد ولا لحياته، و (1015)، باب: الركعة الأولى في الكسوف أطول، و (1154)، كتاب: العمل في الصلاة، باب: إذا انفلتت الدابة في الصلاة، و (3031)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة الشمس والقمر بحسبان. ورواه مسلم (901/ 2، 6، 7)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف، والنسائي (1466)، كتاب: الكسوف، باب: الصفوف في صلاة الكسوف، و (1470، 1471، 1475)، باب: نوع آخر من صلاة الكسوف، و (1476، 1477)، باب: نوع آخر، و (1481)، باب: نوع آخر، و (1499)، باب: القعود على المنبر بعد صلاة الكسوف، و (1500)، باب: كيف الخطبة في الكسوف، والترمذي (561)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الكسوف، و (563)، باب: ما جاء في صفة القراءة في الكسوف، من طرق وألفاظ مختلفة، عن عائشة رضي الله عنها.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (1/ 256)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 410)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 35)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 329)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 551)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 200)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 138)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 726)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 148)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 530)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 69).
(عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقة (رضي الله عنها، قالت: خسفت الشمس في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) صلاة الكسوف (بالناس) وصفة صلاة الكسوف: أن يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يستفتح، ويستعيذ، ويقرأ الفاتحة، وسورة طويلة نحو البقرة، وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها:(فأطال القيام)؛ أي: بالقراءة، وفي رواية عنها عندهما، قالت: خسفت الشمس في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى المسجد، فقام، وكبر، وصف الناس وراءه، فاقترأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة (1)، فقد صرحت في بعض الروايات، بأنه قرأ بسورة البقرة (2)، (ثم) كبر، فـ (ركع، فأطال الركوع) لم يرد فيه تحديد.
قال في "الفروع": قال جماعة: نحو مئة آية؛ وفاقًا للشافعي، وقيل: معظم القراءة، وقيل: نصفها (3).
(ثم قام)؛ أي: رفع رأسه من الركوع، فقال:"سمع اللَّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، (فأطال القيام)، فاقترأ قراءة طويلة، هي أدنى من القراءة التي كانت في القيام الأول، وهي معنى قولها:(وهو)؛ أي: القيام الثاني (دون القيام الأول)؛ أي: أقل منه؛ لكون قراءته دون قراءة القيام الأول؛ بأن تكون قراءته في القيام الثاني سورة الفاتحة، وآل عمران، أو قدرها، (ثم) كبر، فـ (ركع، فأطال الركوع) بحيث إن نسبته إلى القراءة: كنسبة الأول منها، (وهو دون الركوع الأول) الذي قدرناه بقراءة مئة آية.
قال في "شرح المقنع": إنه يسبح في هذا الركوع نحوًا من سبعين آية (4).
(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (999)، وعند مسلم برقم (901/ 3).
(2)
رواه أبو داود (1187)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في صلاة الكسوف.
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 120).
(4)
انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 275).
(ثم قام)؛ أي: رفع منه، فقال:"سمع اللَّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، ولم يطل الاعتدال هنا؛ وفاقًا، وذكره بعضهم إجماعًا، وانفرد أبو الزبير، عن جابر، مرفوعًا (1)؛ بإطالته، فكأنه أطاله [بقدر الذكر](2) الوارد فيه، أو فعله لبيان الجواز (3).
(ثم سجد فأطال السجود). قال في "شرح المقنع": نحوًا من الركوع (4)، وقال في "الفروع": ثم يسجد سجدتين، ويطيلهما في الأصح، خلافًا للشافعي (5).
قال ابن دقيق العيد: قولها: ثم سجد فأطال السجود يقتضي طول السجود في هذه الصلاة، وظاهر مذهب مالك والشافعي: ألَّا يطول السجود فيها.
قال: وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، عن [أبي عباس بن سريج] (6): أنه يطيل السجود، كما يطيل الركوع. ثم قال: وليس بشيء؛ لأن الشافعي لم يذكر ذلك، ولا نقل ذلك في خبر، ولو كان قد أطال، لنقل، كما نقل في القراءة والركوع.
قلنا: بل نقل ذلك في أخبار؛ منها: حديث عائشة رضي الله عنها هذا، وفي حديث آخر:[أنها] قالت: "ما سجد سجودًا أطول منه"،
(1) رواه مسلم (904/ 9)، كتاب: الكسوف، باب: ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.
(2)
في المطبوع: "ليأتي بالذكر" بدل "بقدر الذكر".
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 120).
(4)
انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 275).
(5)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 120).
(6)
في الأصل: "ابن عباس"، والتصويب من "شرح العمدة" لابن دقيق.
وكذلك نقل تطويله في حديث أبي موسى، وجابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهم، انتهى.
قلت: أما حديث عائشة الذي أشار إليه؛ فعند البخاري، وفيه: سجد في الأولى سجودًا طويلًا، وفي ثانيه دون السجود الأول (1).
وأما حديث أبي موسى في "الصحيحين"، وفيه: فقام يصلي بأطول قيام، وركوع، وسجود، ما رأيته يفعله في صلاة قط (2).
وأما حديث جابر رضي الله عنه في "مسلم"، وكذا مثله في "البخاري"، وفيه: وركوعه نحوًا من سجوده (3).
قلت: وفي حديث أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما في "الصحيحين"، وفيه: ثم سجد فأطال السجود، ثم رفع، ثم سجد فأطال السجود (4).
(ثم فعل) صلى الله عليه وسلم (في الركعة الأخرى)؛ أي: الثانية (مثل ما فعل في الركعة الأولى) من قراءة الفاتحة، والسورة الطويلة، والركوع الطويل، والقيام ثانيًا طويلًا، والسجود الطويل، وقد حكت أن القيام الثاني دون
(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1007).
(2)
رواه البخاري (1010)، كتاب: الكسوف، باب: الذكر في الكسوف، ومسلم (912)، كتاب: الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف: "الصلاة جامعة".
(3)
رواه مسلم (904/ 10)، كتاب: الكسوف، باب: ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار. وهو من أفراد مسلم، فلم يخرجه البخاري في "صحيحه" من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاري (712)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما يقول بعد التكبير، واللفظ له، ومسلم (905 - 906)، كتاب: الكسوف، باب: ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.
القيام الأول، وأن الركوع الثاني دون الركوع الأول، ومقتضى المسألة: أن يكون القيام الثاني دون القيام الأول، وأن الركوع الثاني دون الركوع الأول، ولكن هل يراد بالقيام الأول من الركعة الأولى، أو الأول من الثانية، وكذلك في الركوع، وفي السجود؟
قلت: قد صرح علماؤنا بأنه: يقرأ في القيام الأول بعد الاستفتاح والتعوذ وسورة الفاتحة نحو البقرة، ويركع فيسبح بقدر قراءة مئة آية، ويقرأ في الرفع من الركوع الأول في القيام الثاني بعد الفاتحة نحو آل عمران، ويركع فيسبح تسبيحًا نحوًا من قراءة سبعين آية، ويقرأ في قيام الثانية الأول بعد الفاتحة نحو سورة النساء، ويركع فيسبح نحوًا من خمسين آية، ويقرأ بعد الرفع وقراءة الفاتحة نحو سورة المائدة، ثم يركع فيسبح دون الذي قبله، وكذلك السجود.
فيكون كل قيام دون الذي قبله، وكل ركوع دون الذي قبله، وكل سجود دون الذي قبله، وهذا ظاهر بين، وهو المعروف في نسق ركعات الصلوات، واللَّه أعلم (1).
(ثم انصرف) صلى الله عليه وسلم من صلاته (وقد تجلت الشمس) من خسوفها، (فخطب) عليه الصلاة والسلام (الناس) الحاضرين معه في مسجده، (فحمد اللَّه) سبحانه وتعالى بصيغة الحمد، (وأثنى عليه)، فكرر الحمد، وتعداد أوصاف المحامد، وهذا يقتضي: أنه يشرع لصلاة الكسوف خطبة.
قال في "شرح المقنع": قال أصحابنا: لا خطبة لصلاة الكسوف، ولم
(1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 275 - 276).
يبلغنا عن الإمام أحمد رضي الله عنه في ذلك شيء، وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة.
وقال إسحاق، وابن المنذر: يخطب الإمام بعد الصلاة.
وقال الشافعي: يخطب كخطبتي [العيد](1)، وذكر حديث عائشة هذا.
قال: ولنا: أن في هذا الخبر ما دل على أن الخطبة لا تشرع، لأنه عليه السلام أمرهم بالصلاة، والدعاء، والتكبير، والصدقة، ولم يأمرهم بخطبة، ولو كانت سنة، لأمرهم بها، وإنما خطب بعد الصلاة؛ ليعلمهم حكمها، وهذا مختص به، وليس في الخبر ما يدل على أنه خطب كخطبتي الجمعة، أو العيد، انتهى (2).
قلت: في دعوى الخصوصية نظر لا يخفى، وقوله: وإنما خطب ليعلمهم حكمها، فيه نظر؛ لأنه قد أتى بما هو المطلوب من الخطبة؛ من الحمد، والثناء، والموعظة، ولا يبعد أن يكون ذكر الجنة والنار داخلًا في مقاصدها؛ إذ مقاصد الخطبة لا تنحصر فى شىء معين بعد الإتيان بأركانها (3).
قال في "الفروع": ولا تشرع خطبة؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك، وعنه -أي: الإمام أحمد-: بلى، بعدها خطبتان، تجلَّى الكسوف أو لا، اختاره ابن حامد؛ وفاقًا للشافعي.
وأطلق غير واحد في استحباب الخطبة روايتين.
(1) في المطبوع: "الجمعة".
(2)
انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 278 - 279).
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 141).
ولم يذكر القاضي وغيره نصًا: أنه لا يخطب، إنما أخذوه من نصه: لا خطبة في الاستسقاء.
وقال -أيضًا-: لم يذكر لها أحمد خطبة، وفي "النصيحة": أحب أن يخطُبَ بعدها (1).
(ثم قال) النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: أنه خطب، فقال (2):(إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللَّه) عز وجل الباهرة، وأثر من آثار قدرة اللَّه الظاهرة (لا يخسفان لموت أحد) من الناس (ولا لحياته)، وفي حديث جابر رضي الله عنه:"وأنهم كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا ينخسفان إلّا لموت عظيم، وإنهما آيتان من آيات اللَّه يريكموها"(3).
(فإذا رأيتم ذلك)، أي: الخسوف في أحدهما، (فادعوا اللَّه) سبحانه، (وكبروا)؛ أي: قولوا: اللَّه أكبر، (وصلوا) صلاة الكسوف، (وتصدقوا)؛ لأنها تطفىء غضب الجبار، وتكون سببًا قويًا في محو الإثم والأوزار.
قال في "شرح المقنع": يستحب ذكر اللَّه تعالى، والدعاء، والتكبير، والاستغفار، والصدقة، والعتق، والتقرب إلى اللَّه تعالى بما استطاع؛ للخبر المذكور، وفي خبر أبي موسى:"فافزعوا إلى ذكر اللَّه تعالى ودعائه، واستغفاره"(4)، وروي عن أسماء: أنها قالت: كنا نؤمر بالعتق في الكسوف (5).
(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 119).
(2)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1000).
(3)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (904/ 9).
(4)
تقدم تخريجه، وسيأتي أيضًا في حديث الباب الآتي.
(5)
رواه البخاري (1006)، كتاب: الكسوف، باب: من أحب العتاقة في كسوف =
قال في "الفروع": يستحب العتق في كسوفها -أي: الشمس-، نص عليه، لأمره صلى الله عليه وسلم في "الصحيحين" -يعني: في حق القادر- كما في "المستوعب"(1)، وغيره (2).
(ثم قال) صلى الله عليه وسلم (يا أمة محمد!)؛ أي: أمة إجابة دعوته؛ لأنهم المخاطبون بذلك، الممتثلون لأوامره، والمنتهون عن زواجره.
وأصل الإمة -بالكسر-: الحالة، والشرعة، والدين، و-يضم-، والنعمة، والهيئة، والشان، وغَضارة العيش، والسنة، و-يضم-، والطريقة، والرجل الجامع للخير، والجماعة أرسل إليهم رسول، والجيل من كل حي، ومن هو على الحق مخالف لسائر الأديان، وغير ذلك (3).
وفي الشرع: أمة النبي: أتباعه على دينه (4).
([واللَّه] ما من أحد أغيرُ من اللَّه) تعالى (أن يزني عبدُه، أو تزني أمته) إطلاق الغيرة على اللَّه سبحانه وتعالى جاء في عدة أحاديث، وأهل الإثبات من المحدثين، ومذهب السلف من أئمة الدين يؤمنون بكل ما جاء في الكتاب والسنة، مع اعتقادهم أن ليس كمثل اللَّه شيء، فهم يثبتون الآثار بلا تمثيل، وينزهون الباري -جل وعز- عن سمت الحوادث بلا تعطيل؛ فعندهم المشبِّهُ يعبد صنمًا، والمعطِّلُ يعبد عدمًا (5)، والمؤمن يعبد رب
= الشمس. بلفظ قالت فيه رضي الله عنها: لقد أمر النبي بالعتاقة في كسوف الشمس. وانظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 279).
(1)
انظر: "المستوعب" للسَّامُرِّي (3/ 78).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 123).
(3)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1391)، (مادة: أمم).
(4)
انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 319).
(5)
انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (5/ 261).
الأرض والسماء، فيقولون: نؤمن كما أخبر، وكما جاء في الأثر، لا كما يخطر للبشر.
وأما علماء الخلف من المؤولين، فيقولون: يراد من الغيرة: غايتها، وهو شدة المنع والحماية من الشيء؛ لأن الغائر على الشيء مانع له، وحامٍ منه؛ فالمنع والحماية من لوازم الغيرة (1).
وأصل الغيرة: الحمية والأنفة، كما في "النهاية"(2)، انتهى.
وهذا في جانب المخلوق، وأما في الخالق، فليس هي كذلك؛ كما أن قدرة المخلوق وإرادته ليست كقدرة الخالق وإرادته.
والحاصل: أن علماء السلف يسلمون، وعلماء الخلف يؤولون، ولا ريب أن السلامة في التسليم، واللَّه أعلم.
(يا أمة محمد! واللَّه!) فيه: مشروعية الحلف، ولا سيما على الأمر المهول، وإن لم يستحلف (لو تعلمون) أنتم (ما أعلم) أنا من أهوال الآخرة، والجنة، والنار، وما أعد اللَّه لأهل الجنان من النعيم، ولأهل النيران من العذاب الأليم، وتعلمون من عظمة اللَّه وجلاله، وشدة بطشه وانتقامه من أعدائه وأهل معصيته، وعظيم كرمه ورحمته وإحسانه لأوليائه وأهل طاعته، (لضحكتم قليلًا) من فظاعة أمر العذاب والانتقام، وجزالة الثواب والإنعام (ولبكيتم كثيرًا).
في هذا دليل على غلبة الخوف، وترجيح التخولف في الموعظة على الإشاعة بالرخص؛ لما في ذلك من التسبب إلى تسامح النفوس؛ لما جبلت
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 141).
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 401).
عليه من الإخلاد إلى الشهوات، وذلك مرضها الخطر، والطبيب الحاذق يقابل العلة بضدها، لا بما يزيدها (1).
(وفي لفظ) من حديث عائشة رضي الله عنها عندهما: (فاستكمل) تعني: النبي صلى الله عليه وسلم (أربع ركعات) أطلقت الركعات على عدد الركوع، وقد تقدم حديثها: فصلى أربع ركعات في ركعتين؛ أي: أربع ركوعات، (وأربع سجدات)؛ أي: في ركعتين، وهذا هو معنى الصفة التي قدمنا.
قال في "شرح المقنع": الأولى عند أبي عبد اللَّه -يعني: الإمام أحمد- الصلاةُ على الصفة التي ذكرنا، واحتج: بأنه روي عن ابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم في صلاة الكسوف: أربع ركعات، وأربع سجدات (2).
قال: وأما علي رضي الله عنه، فيقول: ست؛ أي: ست ركوعات، وأربع سجدات، فذهب إلى قول ابن عباس، وعائشة.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه صلى ست ركعات وأربع سجدات (3)، وعن عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم صلى ست ركعات، وأربع سجدات. رواه مسلم (4).
وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه صلى أربع ركعات، وسجدتين في كل ركعة. رواه مسلم (5).
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 141 - 142).
(2)
رواه مسلم (902)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف.
(3)
لم أقف عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، بهذا السياق، واللَّه أعلم.
(4)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (901/ 7).
(5)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (901/ 5)، وانظر:"شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 282).
تنبيهات:
الأول: قد قدمنا أن صلاة الكسوف سنة مؤكدة عند ذهاب ضوء أحد النيرين، أو بعضه، حضرًا وسفرًا، حتى للنساء والصبيان حضورها، ويندب الغسل لها، ونفلها جماعة في المسجد الذي تقام فيه الجمعة أفضل (1)؛ لما في حديث أسماء: ثم جئت فدخلت المسجد، فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائمًا، فقمت معه. الحديث متفق عليه (2).
وفي حديث عائشة: فخرجت في نسوة بين ظهري الحجر في المسجد، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه، فقام، وقام الناس وراءه الحديث متفق عليه -أيضًا- (3). وتقدم في حديث عائشة في "الصحيحين": فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المسجد
…
، الحديث (4).
الثاني: يجوز فعل صلاة الكسوف على كل صفة وردت، إن شاء أتى في كل ركعة بركوعين، وهو الأفضل، وإن شاء بثلاث، أو أربع، أو خمس (5).
ولا يزيد على خمس ركوعات في الركعة الواحدة؛ لأنه لم يرد به نص، والقياس لا يقتضيه، وأما الخمس، فقد روى أبو داود في "سننه" من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: "انكسفت الشمس على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى بهم؛ فقرأ سورة من الطول، وركع
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 313).
(2)
تقدم تخريجه، وهذا لفظ مسلم.
(3)
تقدم تخريجه، وهذا لفظ مسلم.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 314).
خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم قام الثانية فقرأ سورة من الطول، وركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، وجلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها (1).
وإن شاء فعلها كنافلة بركوع واحد (2).
وأما السجود: فلا يزيد على سجدتين في كل ركعة؛ لأنه لم يرد.
وإذا تعدد منه الركوع، ففي كل رفع منه يقرأ الفاتحة وسورة، إلّا الرفع الذي يهوي منه إلى السجود، فلا يطيله، ولا يقرأ فيه فاتحة الكتاب، ولا غيرها، بل الذكر المشروع من التسميع والتحميد، وما بعد الركوع الأول سنة لا تدرك به الركعة على معتمد المذهب؛ خلافًا لمالك (3).
الثالث: يسن الجهر بقراءة فيها، ولو في كسوف الشمس، خلافًا للثلاثة (4)، وفي حديث عائشة في "الصحيحين": أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته (5).
قال في "تنقيح التحقيق": يسن الجهر فيها بالقراءة، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، خلافًا لأكثرهم، ثم ذكر حديث عائشة عند أبي داود، والحاكم، وقال: على شرطهما: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرأ قراءة طويلة يجهر بها -يعني: في صلاة الكسوف (6) -.
(1) رواه أبو داود (1182)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: أربع ركعات.
(2)
انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 64).
(3)
المرجع السابق، (2/ 64 - 65).
(4)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 120).
(5)
تقدم تخريجه، وهذا لفظ مسلم.
(6)
رواه أبو داود (1188)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في صلاة الكسوف، =
الرابع: قال أبو حنيفة: صفة صلاة الكسوف كصلاة النافلة، من غير تعدد ركوع في كل ركعة، ولا سجود، والأحاديث الصحيحة صريحة بخلاف قوله، واعتذر عن الأحاديث الثابتة المثبتة للتعدد: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع رأسه ليختبر حال الشمس، هل انجلت أم لا؟ فلما لم يرها انجلت، ركع، وفي هذا التأويل ضعف؛ لأن كل من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم وصف رفعه بالطول والقراءة، وهذا يخالف التأويل المذكور (1).
الخامس: لا تصلى في وقت نهي على معتمد المذهب، بل يدعو اللَّه ويذكره (2).
وقال شيخ الإسلام: بل تصلى؛ لأن عنده وقت النهي لا يمنع ذات السبب (3)، واللَّه أعلم.
* * *
= والحاكم في "المستدرك"(1240)، وانظرت "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 109).
(1)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 135).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 119)، و"الإنصاف" للمرداوي (3/ 433).
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (22/ 297).