الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أبي بكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أبي صَالحٍ السَّمَّان، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ فُقَرَاءَ المهاجرين أتوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بالدَّرَجَاتِ العُلَا والنَّعِيمِ المُقِيمِ، فَقَاَل:"وَمَا ذَاكَ؟ "، قَالُوا: يُصَلُّونَ كمَا نُصَلِّي، ويَصُومُونَ كمَا نَصُومُ، ويَتصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ ولَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَفَلَا أُعلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ "، قَالُوا: بَلَى يا رسولَ اللَّهِ، قَالَ:"تُسَبِّحُونَ وتكبِّرُونَ وَتَحْمَدُوِنَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلَاثًا وَثَلاثِينَ مَرَّةً". قَالَ أبو صَالحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ فَقَالُوا: سَمعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"ذلكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشَاءُ". قَالَ سُمَيٌّ: فَحَدَّثْتُ بَعْضَ أَهْلِي هذا الحَدِيثِ، فَقَالَ: وَهِمْتَ، إِنَّمَا قَالَ لَكَ:"تُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلاثِينَ، وتَحْمَدُ اللَّهَ ثَلاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتكبِّرُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلاثِينَ"، فَرَجَعْتُ إلَى أبي صَاِلحٍ فَقُلْتُ لَهُ ذِلَكَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، والحَمْدُ للَّهِ، حَتَى تَبْلُغَ مِنْ جَمِيعِهِنَّ ثَلاثًا وثَلَاثِينَ (1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (807)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة، و (5970)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء بعد الصلاة، ومسلم (595/ 142)، واللفظ له، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب =
(عن سمي) -بضم السين المهملة، وفتح الميم، وتشديد الياء-: مدني قرشي مخزومي مولاهم، روى عن مولاه أبي بكر، وأبي صالح السمان، وسعيد بن المسيب، وغيرهم.
روى عنه: عبد اللَّه بن عمر العمري، ويحيى الأنصاري، وسهل بن أبي صالح، ومالك، وسفيان الثوري، ومحمد بن عجلان، وغيرهم.
قال أحمد بن حنبل، وأبو حاتم: إنه ثقة، وروى له الجماعة، قتلته الحرورية الخوارج بقُديد -بضم القاف، وفتح الدال (1) - سنة إحدى وثلاثين ومئة (2). وهو (مولى أبي بكر) اسمه: كنيته -على الراجح- كما قاله النووي، وابن الأثير في "جامع الأصول"، وغيرهما، وقيل: محمد، وقيل: اسمه أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن القرشي المخزومي؛ لأن جده هشامًا هو ابن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم -بفتح الميم، وسكون
= الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 545)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 212)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 92)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 93)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 655)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 240)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 128)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 327)، و"عمدة القاري"(6/ 127).
(1)
قُديد: تصغير القد، من قولهم: قددت الجلد، أو من القِد بالكسر، وهو جلد السخلة، أو يكون تصغير القد، من قول اللَّه تعالى:{طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11]، وهي الفرق، وقديد: اسم موضع قرب مكة. انظر: "معجم البلدان" لياقوت (4/ 313).
(2)
وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 203)، و"خلاصة تذهيب التهذيب" للخزرجي (ص: 156)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 209)، و"تقريب التهذيب" له أيضًا (تر: 2635).
الخاء المعجمة، وبالزاي -بن يقظة - بالمثناة تحت، فقاف، فظاء معجمة، مفتوحات- بن مرة بن كعب بن لؤي. ومخزوم بطن كبير من قريش، وعامتهم بالحجاز.
وهو أبو بكر صاحب الترجمة، مدني، تابعي جليل، أحد فقهاء المدينة السبعة على قول، والفقهاء السبعة من أئمة كبار التابعين وساداتهم، وهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار؛ هؤلاء الستة.
قال النووي، وفي السابع ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، نقله الحاكم، عن علماء الحجاز.
الثاني: أنه سالم بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب.
الثالث: أنه أبو بكر المذكور، قاله أبو الزناد، وقد جُمعوا في شعر على هذا القول، وهو:[من الطويل]
ألا كُلُّ من لا يَقتدي بأئمةٍ
…
فقسمتُه ضِيزَى عن الحقِّ خارجَهْ
[فَخُذْهم](1) عُبيدُ اللَّهِ عُروةُ قاسِمٌ
…
سعيدٌ أبو بكرٍ سليمانُ خارجَهْ (2)
روى أبو بكر: عن أبيه عبد الرحمن الصحابي، وعن أبي مسعود البدري، وأبي هريرة، وعائشة، وأم سلمة رضي الله عنهم.
(1) في الأصل: "فمنهم"، والتصويب من "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 174).
(2)
انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 174).
ور [و] ى عنه: مجاهد، وعكرمة، وعمرو بن دينار، والزهري، وغيرهم.
قال محمد بن سعد: ولد أبو بكر هذا في خلافة عمر بن الخطاب، وكان فقيهًا كثير الحديث، وكان يقال له: راهب قريش؛ لكثرة صلاته، وكان مكفوفًا. وهو وإخوته عكرمة، وعبد الرحمن، وعبد اللَّه؛ كلهم ثقات يضرب بهم المثل.
توفي أبو بكر بالمدينة، قال ابن المديني: سنة ثلاث وتسعين، وعليه جرى البرماوي في "نظم رجال العمدة"، وكان يقال لها: سنة الفقهاء؛ لكثرة من مات بها منهم، وقال يحيى بن بكير: إنه توفي سنة أربع، أو خمس (1).
وقوله: (بن عبد الرحمن) هو (بن الحارث بن هشام) بن المغيرة المخزومي، وعبد الرحمن، وأبوه الحارث: صحابيان رضي الله عنهما، أسلم الحارث بن هشام يوم الفتح، استأمنت له أم هانىء بنت أبي طالب، فأمنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قال الحارث: لما دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكة، دخلت أنا وعبد اللَّه بن أبي ربيعة دار أم هانىء، وذكر حديث:"أن رسول اللَّه أجاز جوار أم هانىء" قال: فأقمنا يومين، ثم انطلقنا إلى منازلنا، فجلسنا بأفنيتنا لا يعرض لنا
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 207)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 336)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 560)، و"جامع الأصول" لابن الأثير (13/ 191)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 483)، و"تهذيب الكمال" للمزي (33/ 112)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 416).
أحد، وكنا نخاف عمر بن الخطاب، فواللَّه! إني لجالس في ملاءة مورسة على بابي، ما شعرت إلا بعمر بن الخطاب، فإذا معه عدة من المسلمين، فسلم ومضى، وجعلت أستحيي أن يراني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأذكر رؤيته إياي في كل موطن مع المشركين، ثم أذكر بره ورحمته، وصلته، فألقاه وهو داخل المسجد، فلقيني بالبشر، فوقف حتى جئته، فسلمت عليه، وشهدت شهادة الحق، فقال:"الحمد للَّه الذي هداك، ما كان مثلك يجهل الإسلام"، قال الحارث: فواللَّه! ما رأيت مثل الإسلام يجهل (1).
وكان الحارث يكنى: أبا المغيرة، وقيل: أبا عبد الرحمن، وهو أخو أبي جهل بن هشام، عداده في أهل الحجاز، وكان شريفًا مذكورًا، وخرج إلى الشام، فقتل باليرموك سنة خمس عشرة، وقيل: مات بالشام في طاعون عمواس، سنة ثماني عشرة.
وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينًا، وأعطاه مئة من الإبل؛ كما أعطى المؤلفة قلوبهم، وكان منهم، ثم حسن إسلامه، فخرج إلى الشام في زمن عمر بن الخطاب راغبًا في الجهاد، فخرج أهل مكة يبكون لفراقه، فقال: إنها النقلة إلى اللَّه تعالى، وما كنت لأوثر عليكم أحدًا. فلم يزل بالشام مجاهدًا إلى أن مات، وفيه يقول الشاعر:[من الكامل]
أحسبتَ أنَّ أباك يومَ سَبَبْتَني
…
في المَجْدِ كانَ الحارثَ بنَ هشامِ
أَوْلَى قريشٍ بالمكارم كُلِّها
…
في الجاهليةِ كانَ وفي الإسلامِ (2)
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(5210)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(11/ 495 - 496).
(2)
وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 301)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (11/ 495)، و"تهذيب الكمال" للمزي (5/ 294)، و"الوافي =
فروى سمي مولى أبي بكر المخزومي (عن أبي صالح السمان)، واسمه: ذكوان مولى جويرية (1) بنت الحارث الغطفانية، سكن الكوفة، وكان يجلب إليها السمن والزيت، فنسب إلى ذلك، وهو من ثقات التابعين، سمع أبا هريرة، وأبا سعيد، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم.
روى عنه: عطاء، وأبو حازم سلمة بن دينار، والزهري، وغيرهم.
توفي بالمدينة سنة إحدى ومئة، سنة وفاة عمر بن عبد العزيز (2).
(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر (رضي الله عنه: أن فقراء المهاجرين) سمي منهم: أبو ذر الغفاري، كما عند أبي داود (3)، وأبو الدرداء، كما عند النسائي وغيره (4)، واستظهر في "الفتح": أن أبا هريرة منهم، وفي رواية النسائي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: أمرنا أن نسبح، الحديث (5)، وهذا يمكن أن يقال: إن زيد بن ثابت كان
= بالوفيات" للصفدي (11/ 192)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 606).
(1)
في الأصل: "جويرة".
(2)
وانظر ترجمته في "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 260)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 450)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 221)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 524)، و"تهذيب الكمال" للمزي (8/ 513)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 36).
(3)
رواه أبو داود (1504)، كتاب: الصلاة، باب: التسبيح بالحصى.
(4)
رواه النسائي في "السنن الكبرى"(9975).
(5)
رواه النسائي (1350)، كتاب: السهو، باب: نوع آخر من عدد التسبيح، والترمذي (3413)، كتاب: الدعوات، باب:(25)، وقال: صحيح، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 184).
منهم؛ كما في "الفتح"، ولا يعارضه قوله: فقراء المهاجرين؛ لكون زيد بن ثابت من الأنصار؛ لاحتمال إرادة التغليب (1).
(أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول اللَّه! قد ذهب) أي: سار، يريدون: ظفر وفاز (أهل الدثور) -بضم الدال المهملة، والمثلثة-؛ جمع دَثْر -بفتح فسكون-: هو المال الكثير (2)، ووقع عند الخطابي: ذهب أهل الدور من الأموال، وقال: كذا وقع الدور جمع دار، والصواب: الدثور، انتهى (3).
وقال في "المطالع": الدثور جمع دثر: وهو المال الكثير، يقال: مال دثر، ومالان دثر، وأموال دثر؛ لا يثنى، ولا يجمع، قال: والدثور في غير هذا مصدر دثر الشيء: درس، قال: وجاء في رواية أبي زيد المروزي: أهل الدور، وهو تصحيف، انتهى (4).
(بالدرجات) متعلق بذهب (العلا) -بضم العين-: جمع العُلْيا، وهي تأنيث الأعلى، ويحتمل أن تكون حسية، والمراد: درجات الجنات، أو معنوية، والمراد: علو القدر عند اللَّه تعالى.
(والنعيم المقيم) وصف بالإقامة؛ إشارة إلى ضده، وهو النعيم العاجل؛ فإنه قل ما يصفو، وإن صفا، فهو بصدد الزوال (5)، وفي رواية
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 327).
(2)
انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 259).
(3)
انظر: "أعلام الحديث في شرح البخاري" للخطابي (1/ 550).
(4)
وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 253). وانظر: "غريب الحديث" لابن عبيد (4/ 460)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 100).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 327).
عند البخاري، ومسلم، وغيرهما: ذهب أصحاب الدثور بالأجور (1).
(فقال) رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟) استفهم عليه الصلاة والسلام عن السبب الحامل لهم على ما قالوا، أو عن كون أهل الأموال ذهبوا بالدرجات العلا، والنعيم المقيم.
(قالوا: يصلون كما نصلي) من الفروض والنوافل (ويصومون كما نصوم) كذلك. زاد في حديث أبي الدرداء عند مسلم: ويذكرون كما نذكر (2).
وللبزار من حديث ابن عمر: صدقوا تصديقنا، وآمنوا إيماننا (3).
(ويتصدقون) من فضل أموالهم، (ولا نتصدق)، لعدم ما نتصدق به، ولفظ البخاري: ولهم فضل أموال يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون (4)؛ يعني: ولا نحج، وما عطف عليه كذلك؛ كما هو في بعض الروايات.
(1) قلت: هي رواية أبي داود المتقدم تخريجها قريبًا برقم (1504)، وكذا في "الفتح" (2/ 327). قال الحافظ ابن حجر: في رواية محمد بن أبي عائشة، عن أبي هريرة: أبو ذر الغفاري؛ أي: من الفقراء الذين سمعوا، أخرجه أبو داود
…
، ثم قال الحافظ: وفي رواية محمد بن أبي عائشة المذكورة: ذهب أصحاب الدثور بالأجور، وكذا مسلم من حديث أبي ذر، انتهى، فاختصر الشارح رحمه الله كلام الحافظ ابن حجر، وجعل هذا اللفظ من متفق الشيخين، والحال خلافه، كما رأيت من سياق الحافظ رحمه الله، والعصمة للَّه وحده.
(2)
قلت: هو حديث النسائي فقط المتقدم تخريجه في "السنن الكبرى" برقم (9975). وكذا في "فتح الباري"(2/ 327)، وعنه نقل الشارح رحمه الله.
(3)
رواه البزار في "مسنده"(10/ 101 - "مجمع الزوائد" للهيثمي).
(4)
تقدم تخريجه برقم (807) عنده.
(ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئًا) من الذكر لا تحتاجون فيه إلى مال، ولا دثر (تدركون به) لعظم فضله (من سبقكم) من أهل الأموال الذين فازوا عليكم بالصدقة، ونحوها، والسبقية يحتمل أن تكون معنوية، وهو السبق إلى الفضائل، ويحتمل أن تكون حسية؛ بأن يراد به: السبق الزماني، قال ابن دقيق العيد: والأول أقرب (1).
(وتسبقون به) إذا أنتم أخذتم به، وداومتم عليه (من)؛ أي: الذين هم (بعدكم)؛ أي: من جاء من الناس بعدكم، ولم يأخذ بما أخذتم به، (ولا يكون أحد) من الناس من أرباب الصدقات، ولا غيرهم (أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟) يعني: من أرباب الصدقات، والعتق، والخيرات، فإنهم يكونوا أفضل؛ لأنهم ساووهم في الذكر، وزادوا عليهم بالتفضل، هذا ظاهر الحديث.
ولفظ البخاري: "أدركتم من سبقكم، ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم"(2)، وفي لفظ عنده:"بين ظهرانيه" -بالإفراد (3) -، فإن قيل: ظاهر الإدراك المساواة، ولفظ البخاري ظاهره الأفضلية؟!
فالجواب: الإدراك أعم من المساواة، فقد يدرك، ثم يفوت؛ كما في "الفتح" عن بعض أهل العلم، قال: وعلى هذا، فالتقرب بهذا الذكر راجح
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 95).
(2)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (807)، ووقع في "المطبوع":"ظهرانيه".
(3)
في رواية كريمة وأبي الوقت، كما في "الفتح"(2/ 328)، وكذا هي في المطبوع.
على التقرب بالمال، ويحتمل أن يقال: الضمير في "كنتم" للمجموع من السابق والمدرك.
وكذا قوله: "إلا من صنع مثل ما صنعتم"، ولفظ البخاري:"إلا من عمل مثل عملكم"(1)؛ أي: من الفقراء فقال الذكر، أو من الأغنياء فتصدق، أو أن الخطاب للفقراء خاصة، لكن شاركتهم الأغنياء في الخيرية المذكورة؛ فيكون كل من الصنفين خيرًا ممن لا يتقرب بذكر، ولا صدقة، ويشهد له قوله في حديث ابن عمر، عند البزار:"أدركتم مثل فضلهم"(2)، ولمسلم من حديث أبي ذر:"أوليس قد جعل لكم ما تتصدقون؟! إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة" الحديث (3).
واستشكل تساوي هذا الذكر، بفضل التقرب بالمال، مع شدة المشقة فيه!
وأجاب الكرماني: بأنه لا يلزم أن يكون الثواب على قدر المشقة في كل حالة، واستدل لذلك بفضل الشهادة مع سهولتها، على كثير من العبادات الشاقة (4).
(قالوا: بلى يا رسول اللَّه!)؛ أي: علمنا الشيء الذي ندرك به إذا نحن صنعناه من سبقنا (قال) صلى الله عليه وسلم: (تسبحون)؛ أي: تقولون: سبحان اللَّه، (وتكبرون) كذا في رواية ابن عجلان، عن سمي، بتقديم التكبير على
(1) كذا في "الفتح"(2/ 328)، ولفظ البخاري (807):"إلا من عمله مثله"، وقد تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه، ورواه أيضًا: عبد بن حميد في "مسنده"(797). وانظر: "المطالب العالية" لابن حجر (4/ 244).
(3)
رواه مسلم (1006)، كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 328).
التحميد (1)، (وتحمدون دبر كل صلاة) مكتوبة، وأكثر الروايات عند البخاري، وغيره؛ فيها: تقديم التحميد على التكبير، ولفظ البخاري:"خلف كل صلاة"(2)، وهي مفسرة للرواية التي عندهما بلفظ:"دُبُر" بضمتين.
قال الأزهري: دبر [الأمر] يعني: -بضمتين-، ودبره. يعني:-بفتح، فسكون-: آخره (3)، وادعى أبو عمرو الزاهد: أنه يقال: -بالضم-، إلا للجارحة، ورد بمثل قولهم: أعتق غلامه عن دبر.
ومقتضى الحديث: أن الذكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة، ويأتي الكلام عليه -إن شاء اللَّه تعالى-.
وظاهر قوله: "كل صلاة" يشمل الفرض والنفل، لكن حمله أكثر العلماء على الفرض، وقد وقع في حديث كعب بن عجرة، عند مسلم: التقييد بالمكتوبة (4)؛ فكأنهم حملوا المطلق على المقيد (5).
(ثلاثًا وثلاثين مرة) وهذا مجمل، يحتمل أن يكون المجموع للجميع؛ فإذا وزع كان لكل واحد إحدى عشرة، وهو الذي فهمه سهيل بن صالح؛ كما رواه مسلم، من طريق روح بن القاسم، عنه (6)، لكن لم يتابع سهيل على ذلك.
(1) عند مسلم برقم (595/ 142)، وقد تقدمت.
(2)
تقدم تخريجه برقم (807) عنده.
(3)
انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (14/ 110)، (مادة: دبر).
(4)
رواه مسلم (596)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته.
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 328).
(6)
رواه مسلم (595/ 143)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته.
قال في "الفتح": لم أر في شيء من طرق الحديث كلها التصريح بإحدى عشرة، إلا في حديث ابن عمر عند البزار، وإسناده ضعيف (1)، بل المراد: المجموع لكل فرد فرد (2).
زاد مسلم: (قال أبو صالح) السمان: (فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك، (فقالوا) يا رسول اللَّه! (سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا)؛ أي: من الذكر الذي علمتنا إياه، (ففعلوا مثله)؛ أي: مثل فعلنا؛ بأن صاروا يسبحون، ويحمدون، ويكبرون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة، (فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) لهم في جواب قولهم الذي قالوه:(ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء)؛ أي: من عباده.
قال القرطبي: تأول بعضهم قوله: "ذلك فضل اللَّه" بأن قال: الإشارة راجعة إلى الثواب المـ[ـتـ]ـرتب على العمل الذي يحصل به التفضيل عند اللَّه سبحانه وتعالى، فكأنه قال: ذلك الثواب الذي أخبرتكم به، لا يستحقه أحد بحسب الذكر، ولا بحسب الصدقة، وإنما هو بفضل اللَّه سبحانه.
قال: وهذا التأويل فيه بعد، ولكن اضطر إليه لما يعارضه (3).
وتعقب: بأن الجمع بينه وبين ما يعارضه ممكن، من غير احتياج إلى التعسف (4).
(قال سمي: فحدثت بعض أهلي هذا الحديث) المذكور على الصفة
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 328).
(3)
انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 214).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 331).
المذكورة، (فقال) لي ذلك البعض من أهلي:(وهمتَ)؛ أي: ذهب وهمك إلى غير الصواب، والمراد: غلطت، وأصل الوهم: خطرات القلب، أو مرجوحُ طرفي المُتَردَّد فيه، والجمع أوهام، ووهم في الحساب؛ كَوَجِلَ: غلط، وفي الشيء؛ كوعد: ذهب وهمه إليه (1).
(إنما قال لك) أبو صالح: (تسبح اللَّه ثلاثًا وثلاثين) مرة، (وتحمد اللَّه ثلاثًا وثلاثين) مرة، (وتكبر اللَّه ثلاثًا وثلاثين) مرة.
قال سمي: (فرجعت إلى أبي صالح) السمان، (فقلت له ذلك)؛ أي. ما نسبه بعض أهلي إليَّ من الوهم فيما حدثته؛ أي: لأبي صالح السمان، (فقال) أبو صالح:(اللَّه أكبر وسبحان اللَّه والحمد للَّه) تقول هكذا وتعاود عليها، وتكررها (حتى تبلغ من جميعهن ثلاثًا وثلاثين) مرة، "فتلك تسعة وتسعون، ثم تقول تمام المئة: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". ففي مسلم: أن من قال ذلك، "غفرت له خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر"(2).
تنبيهات:
الأول: صرح المصنف -طيَّب اللَّه ثراه-: أن الاختلاف وقع بين سمي وبعض أهله، وأنه هو الذي رجع إلى أبي صالح، وأن أبا صالح هو الذي قال له الذكر المذكور، على النسق الذي ذكرناه عنه، وفي "الفتح" أن الظاهر: أن أبا هريرة هو القائل، وكذا قوله: فرجعت إليه، وأن الذي رجع
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1507)، (مادة: وهم).
(2)
رواه مسلم (597)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أبو هريرة إليه هو النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وعلى هذا، فالخلاف في ذلك وقع بين الصحابة رضي الله عنهم.
وقال عن رواية ابن عجلان التي ذكرها مسلم: بأن مسلمًا لم يوصل هذه الزيادة؛ فإنه أخرج عن قتيبة، عن الليث، عن ابن عجلان، ثم زاد غير قتيبة في هذا الحديث عن الليث، فذكرها، والغير المذكور يحتمل أن يكون: شعيب بن الليث، أو سعيد بن أبي مريم، فقد أخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" عن الربيع بن سليمان، عن شعيب (1)، وأخرجه الجوزقي، والبيهقي، من طريق سعيد (2)، فظهر بهذا: أن في رواية عبيد اللَّه بن عمر، عن سمي في حديث الباب إدراجًا، واللَّه أعلم (3).
الثاني: ظاهر سياق الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: أن جميع الحديث من متفق الشيخين، وليس كذلك؛ فإن البخاري إنما أخرج منه في باب: الذكر بعد الصلاة، قال فيه: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون، قال:"أحدثكم" الحديث، وفيه: فاختلفنا؛ فقال بعضنا: نسبح ثلاثًا وثلاثين، ونحمد ثلاثًا وثلاثين، ونكبر أربعًا وثلاثين، فرجعت إليه، فقال: تقول: سبحان اللَّه والحمد للَّه واللَّه أكبر، حتى يكون منهن كلهن ثلاث وثلاثون هذا نسق ما في البخاري (4)، إلا أن أصل الحديث متفق عليه، وإن
(1) رواه أبو عوانة في "مسنده"(2/ 249).
(2)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 186).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 328 - 329). وانظر: "غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة" للحافظ رشيد الدين العطار (ص: 301).
(4)
وتقدم تخريجه برقم (807).
اختلفا في بعض ألفاظ جزئية (1)، واللَّه أعلم.
الثالث: الأولى في هذا الذكر: ما في هذا الحديث، من كونه يقول: سبحان اللَّه والحمد للَّه واللَّه أكبر ثلاثًا وثلاثين، حتى يفرغ من الجميع معًا.
قال في "الفروع": ويفرغ من عدد التسبيح والتحميد والتكبير معًا، وذكر قول أبي صالح السمان راوي الخبر، عن أبي هريرة. قال: وعنه -أي: الإمام أحمد-: يخير بينه وبين إفراد كل جملة، واختار القاضي -يعني: أبا يعلى-: الإفراد، قال: ويعقده والاستغفار بيده، نص عليه، انتهى (2).
وفي "الفتح" رواية ابن عجلان ظاهرها: أن العدد للجميع، لكن يقو [ل] ذلك مجموعًا، وهذا اختيار أبي صالح، لكن الروايات الثابتة عن غيره الإفراد (3).
قال عياض: وهذا أولى (4).
قال: ورجح بعضهم الجمع للإثبات فيه بواو العطف، قال: والذي يظهر: أنَّ كلًا من الأمرين حسن، قال: إلا أن الإفراد يتميز بأمر آخر، وهو أن الذاكر يحتاج إلى العدد، وله على كل حركة لذلك، سواء كان بأصابعه، [أ] وبغيرها، ثواب لا يحصل لصاحب الجمع منه إلا الثلث، كذا قال (5).
(1) قال الحافظ ضياء الدين المقدسي في "أحكامه": لم يذكر البخاري رجوعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقولهم: "سمع إخواننا
…
" إلى آخره. كما نقله الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 128).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 398 - 399).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 329).
(4)
انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 547).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 329).
قلت: بل الذي يظهر أولوية الجمع؛ لأن الروايات بجملة صالحة لكل من الأمرين، ورواية أبي صالح مفسرة، فالمصير إليها أولى، وما أبداها لا يعارض النص، واللَّه أعلم.
الرابع: وقع الابتداء في أكثر الروايات بالتسبيح، ثم التحميد، فالتكبير، وفي رواية ابن عجلان تقديم التكبير على التحميد خاصة؛ كما تقدم، وفيه -أيضًا-: قول أبي صالح: تقول: اللَّه أكبر وسبحان اللَّه والحمد للَّه، ومثله لأبي داود من حديث أم الحكم (1)، وله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"تكبر وتحمد وتسبح"(2)، وكذا في حديث ابن عمر (3).
قال في "الفتح": وهذا الاختلاف دال على أن لا ترتيب فيها، ويستأنس لذلك بقوله في حديث:"الباقيات الصالحات، لا يضرك بأيهن بدأت"(4)، لكن يمكن أن يقال: الأولى البداءة بالتسبيح؛ لأنه يتضمن نفي النقائص عن الباري سبحانه وتعالى، ثم التحميد؛ لأنه يتضمن إثبات الكمال له؛ إذ لا يلزم من نفي النقائص إثبات الكمال، ثم التكبير؛ إذ لا يلزم من نفي النقائص وإثبات الكمال، أن يكون هناك كبير، ثم ختم بلا إله إلا اللَّه، إلخ،
(1) رواه أبو داود (2987)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: في بيان مواضع قسم الخمس، وسهم ذي القربى.
(2)
تقدم تخريجه برقم (1504) عنده.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
رواه مسلم (2137)، كتاب: الآداب، باب: كراهة التسمية بالأسماء القبيحة، وبنافع، ونحوه، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه بلفظ: "أحب الكلام إلى اللَّه أربع: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، لا يضرك بايهن بدأت
…
" الحديث.
الدال على انفراده سبحانه وتعالى بالوحدانية، وبجميع ذلك، واللَّه أعلم (1).
الخامس: وقع في رواية ورقاء، عن سمي، عند البخاري في: الدعوات: "تسبحون عشرًا، وتحمدون عشرًا، وتكبرون عشرًا"(2)، ووقع في مسلم من طريق آخر: يقول سهيل: إحدى عشرة، إحدى عشرة، فجميع ذلك كله ثلاثة وثلاثون" (3).
وجاء في حديث زيد بن ثابت، وابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا كل ذكر منها خمسًا وعشرين، ويزيدوا فيها: لا إله إلا اللَّه خمسًا وعشرين، ولفظ زيد بن ثابت: أمرنا أن نسبح في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، ونحمد ثلاثًا وثلاثين، ونكبر أربعًا وثلاثين، فأتي رجل في منامه، فقيل له: أمركم محمد أن تسبحوا، فذكره، قال: نعم، قال: اجعلوها خمسًا وعشرين، واجعلوا فيها التهليل، فلما أصبح أتي النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال:"فافعلوه"، أخرجه النسائي، وابن خزيمة، وابن حبان (4).
ولفظ ابن عمر: رأى رجل من الأنصار فيما يرى النائم، فذكر نحوه (5).
والحاصل: أن العمل على ما ذكرناه في "الصحيحين"، وغيرهما، واللَّه الموفق.
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 328).
(2)
تقدم تخريجه برقم (5970) عنده.
(3)
تقدم تخريجه برقم (595/ 143) عنده.
(4)
تقدم تخريجه عند النسائي، وكذا الترمذي. ورواه ابن خزيمة في "صحيحه"(752)، ورواه ابن حبان في "صحيحه"(2017)، وغيرهم.
(5)
تقدم تخريجه.
السادس: استنبط بعض العلماء من كثرة تنويع الروايات: أن اعتبار مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرة، وإلا لكان يمكن أن يقال: أضيفوا إليها التهليل ثلاثًا وثلاثين، فلما رجع التسبيح والتحميد والتكبير إلى خمس وعشرين، خمس وعشرين، وأضيف إليها التهليل كذلك، علم أن اعتبار كون الجميع من الذكر مئة معتبرة.
وقد كان بعض العلماء يقول: إن الأعداد الواردة كالأذكار خلف الصلاة، إذا رتب عليها ثواب مخصوص، فزاد الآتي بها على العدد المذكور، لا يحصل له ذلك الثواب؛ لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة وخاصية تفوته بمجاوزة ذلك العدد.
قال الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم العراقي في "شرح الترمذي": وفيه نظر؛ لأنه أتى بالمقدار الذي رتب عليه الثواب على الإتيان، فحصل له الثواب بذلك، فإذا زاد عليه من جنسه، كيف تكون تلك الزيادة مزيلة للثواب بعد حصوله؟! (1)
وتقدم كلام صاحب "الفروع"؛ من أنه حيث ذكر العدد، فلا تضر الزيادة عليه (2).
وفي "الفتح": يمكن أن يفرق فيه بالنية، فإن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد، ثم أتى بالزيادة، فالأمر كما قال العراقي لا محالة، وإن زاد بغير نية؛ بأن يكون رتب على عشرة مثلًا، فيرتبه هو على مئة، فيتجه القول الماضي.
قال: وقد بالغ القرافي -رحمه اللَّه تعالى- في "القواعد"، فقال: من
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 330).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 398).
البدع المكروهة الزيادة في المندوبات المحدودة شرعًا؛ لأن شأن العظماء إذا حدوا شيئًا، أن يوقف عنده، ويعد الخارج عنه مسيئًا للأدب، انتهى.
قال في "الفتح": ومثَّله بعض العلماء بالدواء، يكون فيه مثلًا أوقية سكر، فلو زيد فيه أوقية أخرى، لتخلف الانتفاع به، فلو اقتصر على الأوقية في الدواء، ثم استعمل من السكر بعد ذلك ما شاء، لم يتخلف الانتفاع.
ويؤكد ذلك: أن الأذكار المتغايرة إذا ورد لكل منها عدد مخصوص، مع طلب الإتيان بجميعها متوالية، لم تحسن الزيادة على العدد المخصوص؛ لما في ذلك من قطع الموالاة؛ لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمة خاصة تفوت بفواتها (1).
السابع: قال ابن بطال عن المهلب: في هذا الحديث فضل الغنى نصًا لا تأويلًا، إذا استوت أعمال الغني والفقير فيما افترض اللَّه عليهما، فللغني حينئذ فضل عمل البر من الصدقة، ونحوها، مما لا سبيل للفقير إليه. قال: ورأيت بعض المتكلمين ذهب إلى أن هذا الفضل مختص بالفقراء دون من كان (2).
وقال ابن دقيق العيد: الفقراء ذَكَروا للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقتضي تفضيل الأغنياء، بسبب القربات المتعلقة بالمال، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولكن علمهم ما يقوم مقام تلك الزيادة، فلما قالها الأغنياء، ساووهم فيها، وبقي معهم رجحان قربات المال، فقال عليه السلام:"ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء"، فظاهره القريب من الظن، أنه فضل الأغنياء بزيادة القربات المالية.
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 330).
(2)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
وبعض الناس تأول قوله عليه السلام: "ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء" بتأويل مستنكر يخرجه عما ذكرناه من الظاهر، والذي يقتضيه الأصل: أنهما إن تساويا، وحصل الرجحان بالعبادات المالية، أن يكون الغني أفضل.
قال: ولا شك في ذلك، وإنما النظر إذا تساويا في أداء الواجب فقط، وانفرد كل واحد بمصلحة ما هو فيه، وإذا كانت المصالح متقابلة، ففي ذلك نظر يرجع إلى تفسير الأفضل؛ فإن فسر بزيادة الثواب، فالقياس يقتضي تفضيل المتعدية على القاصرة.
وإن فسر الأفضل بمعنى الأشرف، بالنسبة إلى صفات النفس، فالذي يحصل للنفس من التطهير للأخلاق، والرياضة لسوء الطباع بسبب الفقر أشرف، فيترجح الفقر؛ ولهذا ذهب الجمهور من الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر على الغني الشاكر؛ لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها، وذلك مع الفقر أكثر منه مع الغنى، فكان أفضل بمعنى [الأشرف](1)، انتهى (2).
وقال القرطبي: للعلماء في هذه المسألة خمسة أقوال: ثالثها: الأفضل: الكفاف، رابعها: يختلف باختلاف الأشخاص، خامسها: التوقف (3).
وقال الكرماني: قضية الحديث: أن شكوى الفقراء تبقى بحالها، وأجاب: أن مقصودهم كان تحصيل الدرجات العلا، والنعيم المقيم لهم، لا نفي الزيادة عن أهل الدثور مطلقًا.
(1) في الأصل: "الشرف".
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 93 - 95).
(3)
انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 213).
قال في "الفتح": والذي يظهر: أن مقصودهم إنما كان طلب المساواة، ويظهر أن الجواب وقع قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم أن متمني الشيء يكون شريكًا لفاعله في الأجر، ففي رواية الترمذي:"المنفق والمتمني إذا كان صادق النية، في الأجر سواء"(1)؛ وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها، من غير أن ينقص من أجره شيء"(2).
فإن الفقراء في هذه القصة، كانوا السبب في تعليم الأغنياء الذكر المذكور، فإذا استووا معهم في القول، فقد امتازوا بأجر السبب مضافًا إلى التمني، فلعل ذلك يقاوم التقرب بالمال، وتبقى المقايسة بين صبر الفقير على شَظَف العيش، وشكر الغني على التنعم بالمال، ومن ثم وقع التردد في تفضيل أحدهما على الآخر (3).
وعلق البخاري حديث: "الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم (4)، وقد أخرجه البخاري في "التاريخ"، والحاكم في "المستدرك" موصولًا، ولفظه عن أبي هريرة:"إن للطاعم الشاكر من الأجر ما للصائم الصابر"، وأخرجه ابن ماجه، وابن
(1) رواه الترمذي (2325)، كتاب: الزهد، باب: ما جاء: مثل الدنيا، مثل أربعة نفر، عن أبي كبشة الأنصاري رضي الله عنه في حديث طويل، وفيه: "
…
وعبد رزقه اللَّه علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالًا، لعملت بعمل فلان، فهو نيته، فأجرهما سواء
…
" الحديث، وقال: حسن صحيح.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 331).
(4)
انظر: "صحيح البخاري"(5/ 2079).
خزيمة. وأخرجه أيضًا الترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وغيرهم؛ من حديث أبي هريرة (1).
قال ابن بطال: هذا من تفضل اللَّه على عباده، أنْ جعل للطاعم -إذا شكر ربه على ما أنعم به عليه- ثوابَ الصائم الصابر.
وقال الكرماني: التشبيه هنا في أصل الثواب، لا في الكمية، ولا الكيفية، والتشبيه لا يستلزم المماثلة من جميع الأوجه.
وقال الطيبي: ربما توهم متوهم: أن ثواب الشكر يقصر عن ثواب الصبر، فأزيل توهمه، أو وجه الشبه: اشتراكُهما في حبس النفس؛ فالصابر يحبس نفسه على طاعة المنعم، والشاكر يحبس نفسه على محبته.
قال في "الفتح": وفي الحديث رفع الاختلاف المشهور في الغني الشاكر والفقير الصابر، وإنما هما سواء؛ كذا قيل. وسياق الحديث يقتضي تفضيل الفقير الصابر؛ لأن الأصل [أنَّ] المشبه به أعلى درجة من المشبه، والتحقيق عند أهل الحذق: ألا يجاب في ذلك بجواب كلي، بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأحوال؛ نعم عند الاستواء من كل جهة،
(1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 142)، والحاكم في "المستدرك"(7195)، وابن ماجه (1764)، كتاب: الصيام، باب: فيمن قال: الطاعم الشاكر، كالصائم الصابر، والترمذي (2486)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب:(43)، وقال: حسن غريب، وابن خزيمة في "صحيحه"(1898)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد رواه ابن ماجه (1765)، كتاب: الصيام، باب: فيمن قال: الطاعم الشاكر، كالصائم الصابر، من حديث سنان بن سنة الأسلمي رضي الله عنه. قلت: والشارح رحمه الله اختصر كلام الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(9/ 582 - 583)، حيث تكلم هناك في طرق الحديث التي روي فيها هذا الحديث، فوقع اضطراب في هذا الاختصار من قبل الشارح، وحاصل كلام الحافظ ما قدمنا تخريجه مختصرًا، واللَّه أعلم.
وفرض رفع العوارض بأسرها، فالفقير أسلم عاقبة في الدار الآخرة، قال: ولا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيء، واللَّه أعلم (1).
وفي "بدائع الفوائد" للإمام المحقق ابن القيم: إن أريد بالفضل: كثرةُ الثواب عند اللَّه، فذلك أمر لا يطلع عليه إلا بالنص؛ لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب، لا بمجرد أعمال الجوارح، وكم من عاملين أحدهما أكثر عملًا بجوارحه، والآخر أرفع درجة منه في الجنة.
قال: هذا في التفاضل بين عائشة وفاطمة -رضوان اللَّه عليهما-. قال: وإن أريد التفضيل بالعلم؛ فعائشة أعلم وأنفع للأمة، وأدَّت من العلم ما لم يؤد غيرها، واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها.
وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل، وجلالة النسب، كانت فاطمة؛ فإنها بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك الاختصاص لم يشركها فيه غير أخواتها.
وإن أريد السيادة، ففاطمة سيدة نساء الأمة.
قال: فإذا ثبتت وجوه التفضيل، وموارد الفضل، وأسبابه، صار الكلام بعلم وعدل.
قال: وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل، لم يفصل جهات الفضل، وأسبابه بينها؛ فيبخس الحق، وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصب، وهوى لمن يفضله، تكلم بالجهل والظلم.
قال: وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، عن مسائل عديدة من مسائل التفضيل، فأجاب فيها بالتفصيل الشافي؛ فمنها: أنه سئل عن تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر، والعكس، فأجاب بما شفى الصدر، فقال:
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 583).
أفضلهما: أتقاهما للَّه، فإن استويا في التقوى، استويا في الدرجة، واللَّه الموفق (1).
الثامن: مقتضى الحديث: اعتبار كون الذِّكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة المكتوبة، فلو تأخر ذلك عن الفراغ؛ فإن كان يسيرًا بحيث لا يعد معرضًا، أو كان ناسيًا، أو متشاغلًا بما ورد بعد الصلاة أيضًا؛ كآية الكرسي؛ فلا يضر، وتقييده في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه بالمكتوبة؛ كما عند مسلم (2)، [وعلى هذا، هل] يكون التشاغل بالراتبة بعد المكتوبة فاصلًا بين المكتوبة والذكر المذكور؟، وتوقف فيه في "الفتح"(3).
وقال ابن نصر اللَّه من علماء مذهبنا في "حواشيه": الظاهر: أن مرادهم أن يقول ذلك وهو قاعد، ولو قاله بعد قيامه وفي ذهابه، فالظاهر: أنه مصيب للسنة -أيضًا-؛ إذ لا تحجير في ذلك، ولو شغل عن ذلك، ثم تذكره، فالظاهر: حصول أجره الخاص له أيضًا إذا كان قريبًا للعذر، أما لو تركه عمدًا، ثم استدركه بعد زمن طويل، فالظاهر: فوات أجره الخاص، وبقاء أجر الذكر المطلق، انتهى، هكذا نقله العلامة النجدي (4).
والظاهر: أنه لو تركه عمدًا أو لعذر، ومضى زمن طويل، ثم استدركه: لم يحصل له أجره الخاص، ويكون في العبادة سقط، يفهم من أولها، واللَّه تعالى الموفق.
* * *
(1) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 682 - 683).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 328).
(4)
"حاشية المنتهى" لعثمان النجدي (1/ 222). وكذا نقله البهوتي في "كشاف القناع"(1/ 365).