الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بنيه فقتلواه، ونجى الحارث هاربا، فوقع ببني كلب فقتلوه. واختلف ولده بعده على الرئاسة حتّى قتلوا بعضهم بعضا. ثمّ تتبّع المنذر سائر بقيّتهم حتّى أفناهم.
فلمّا زال الملك عنهم، صارت الرئاسة في بني جبلة بن عديّ بن ربيعة، حتّى تولى قيس بن معدي كرب، وعلى عهده قام الإسلام، أقامه الله إلى يوم الأزل، حتّى صار الأشعث بن قيس-وهو الذي أتا سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سبعين نفر من أشراف كندة، فأسلموا، والله أعلم.
ذكر وقائع العرب وحروبها في أيّامها المشهورة
قد انتهى الكلام في ذكر سائر ملوك الأمم من العجم والعرب وأصولهم وفروعهم ومددهم ووفياتهم، بعون الله تعالى وحسن توفيقه وبركة إلهامه. وقد قصدنا أن نتلوا ذلك بذكر شجعان الجاهليّة وأيّام وقائع العرب المذكورة، مع الفصحاء من شعرائهم المشهورة، ونذكر كلّ شاعر من فحلاء الجاهليّة، ونطرّز ذلك بشيء من مختار شعره، مع نبذة لطيفة من ذكره، ليكون هذا التاريخ جامعا بين الزّهرة والخضرة، مؤلّفا كتأليف ابن كردان الحضرة، موفّقا لذلك، إن شاء الله تعالى.
ذكر كليب ومهلهل ابنا ربيعة،
وهو حرب البسوس المذكور
أجمعت الرّواة من أهل الجزيرة بوقائع العرب وأيّام حروبهم؛ منهم
أبي عبيدة، قال: قال أبو برزة القيسيّ، وهو من ولد عمرو بن مرثد: إنّ كليبا كان قد عزّ وساد في ربيعة، وبغا بغيا شديدا. وكان هو الذي ينزلهم منازلهم، ويرحّلهم. وبلغ من عزّه وبغيه أن اتّخذ جرو كلب، فكان إذا نزل منزلا فيه كلآء (241)، قذف بذلك الجرو فيه، فلا يرعى أحد ذلك الكلآء إلاّ بإذنه. وكان يفعل ذلك بحياض الماء، فلا يرد الماء أحد إلاّ بإذنه أو من آذن بحرب. فضرب به المثل في العزّ، فقيل: أعزّ من حمى كليب. وكان يحمي الصّيد، فيقول: صيدنا ناحية كذا وكذا، وهو في جواري. فلا يصيد
أحد منه. وكان لا يمرّ به أحد إذا جلس: لا راجل ولا راكب. ولا يخشى في مجلسه غيره، حتّى قتله جسّاس بن مرّة.
وكان لمرّة بن ذهل بن شيبان بن ثعلب عشرة بنين، جسّاس أصغرهم. وكانت أختهم عند كليب تسمّى جليلة.
وأمّا مقاتل وفراس، قالا: إنّ أمّ جسّاس هيلة بنت منقذ بن سليمان ابن كعب بن عمرو بن سعد بن زيد مناة بن تميم ثمّ خلف عليها سعد بن ضبيعة بن قيس بن تعلبة بعد مرّة بن ذهل بن شيبان فولدت له مالكا وعوفا وتعلبة. قال فراس بن خندق البسوسيّ: فهي أمّنا وخالة جسّاس.
قلت: هكذا نقلته من كتاب الأغاني الكبير الجامع، لأبي الفرج الإصفهانيّ، وهو كلام متناقض. فإنّه روى أوّلا أنّها أمّ جسّاس، ثمّ قال:
هي أمّنا وخالة جسّاس. والذي تبيّنته أنّ الغلط من ناسخ الكتاب، ليس من أبي الفرج. فإنّ الرجل كان أوحد أهل زمانه وفريد عصره وأوانه.
وعلى الجملة: إنّ اسم أمّ جسّاس هيلة بنت منقذ، والبسوس خالته، والله أعلم.
قال أبو برزة: اسمها بسوسة، وهي التي يقال لها: أشأم من البسوس. فضرب بشؤمها المثل. فنزلت على ابن أختها جسّاس، وكانت جارة لبني مرّة، ومعها ابن لها، ومعهما ناقة خوّارة من نعم بني سعد، ومع الناقة فصيل لها.
وروى الأخفش قال: قال أبو برزة: وكان كليب قبل ذلك قال لصاحبته، أخت جسّاس: هل تعلمين على الأرض حرما أعزّ منّي ذمّة؟ فكستت. ثمّ أعاد عليها الثانية، فكستت. فألحّ عليها، (242) فقالت: نعم أخي جسّاس وندمانه، ابن عمّه، عمرو المزدلف، ابن أبي ربيعة بن ذهل ابن شيبان.
قال مقاتل: إنّ امرأة كليب، أخت جسّاس، بينا هي تغسل رأس كليب وتمشطه، إذ قال لها: من أعزّ وائل؟ فسكتت. فأعاد عليها وألحّ.
فلمّا أكثر، قالت: أخواي: همّام وجسّاس، فنزع رأسه من يدها وأخذ القوس فرمى فصيل ناقة البسوس، خالة جسّاس، وجارة بني مرّة، فقتله.
فأغمضوا على ذلك. ثمّ لقي كليب ابن البسوس، فقال: ما فعل فصيل ناقتكم؟ قال: قتلته وأخليت لنا لبن أمّه. فبلغهم ذلك، فأغمضوا عليه أيضا. ثمّ إنّ كليبا أعاد على امرأته، فقال: من أعزّ وائل؟ فقالت: أخواي همّام وجسّاس. فأسرّها في نفسه حتّى مرّت به إبل جسّاس. فرأى الناقة،
فأنكرها. فقال: ما هذه الناقة؟ قالوا: لخالة جسّاس. قال: وبلغ من أمر جسّاس ابن السّعديّة من أن يجير عليّ بعيرا بغير إذني؟ ارم ضرعها يا غلام. فرمى ضرعها، فاختلط دمها بلبنها.
ثمّ إنّ بكر بن وائل مرّوا على نهي يقال له: شبيث، فنفاهم كليب عنه، عنه، وقال: لا يذوقون منه قطرة. ثمّ مروّوا على نهي آخر يقال له:
الأحصّ، فنفاهم عنه أيضا. ثمّ مرّوا على بطن الجريب فمنعهم إيّاه.
فمضوا حتّى نزلوا في طارفة وهم يتهافتون عطشا. فمرّ عليهم جسّاس، فخاطبوه في ذلك. فمرّ على كليب وهو واقف على غدير الذّنائب، فقال:
طردت أهلنا عن الماء حتّى عادوا يتهافتون عطشا. فقال كليب: ما منعناهم من ماء إلاّ ونحن له شاغلون. فقال جسّاس: هذا كفعلك بناقة الخالة.
فقال: وقد ذكرتها؟ أما إنّي لو وجدتها في غير بعير إبل مرّة، لاستحللتها- يعني الإبل كلّها. قال: فعطف عليه جسّاس فرسه وصوّب إليه عوده، ولم يكن مع كليب سلاح يمانع به، ولا ظنّه يجسر عليه. فطعنه بالرمح فأنفذ حضنيه. فلمّا تداءمه الموت (243)، قال: يا جسّاس، اسقني من الماء.
قال: ما عقلت استسقاءك الماء منذ ولدتك أمّك، إلاّ ساعتك هذه. وقال أبو برزة: فعطف عليه المزدلف عمرو بن أبي ربيعة، فاحتز رأسه.
وأمّا رواية مقاتل، فزعم أنّ <عمرو بن> الحارث بن ذهل بن شيبان هو الذي طعن كليبا، وفيه يقول مهلهل (من الوافر):
فتيل ما قتيل المرء عمرو
…
وجسّاس بن مرّة ذو ضرير
قيل: ومقتل كليب بالذّنائب، عن يسار فلجة، مصعدا إلى مكّة، شرّفها الله تعالى. وقبره في الذّنائب، وفيه يقول مهلهل (من الوافر):
ولو نشر المقابر عن كليب
…
فتخبر بالذّنائب أيّ زير
قال أبو برزة: فلمّا قتله أمال يده بالفرس حتّى انتهى إلى أهله. قال:
تقول أخت جسّاس حين رأته لأبيها: مرّة يا بتاه، أرى جسّاسا خارجا ركبتاه. قال: فو الله ما خرجت رجلاه إلاّ لأمر عظيم. فلمّا جاء، قال: ما وراءك يا جسّاس؟ قال: ورائي قد طعنت طعنة لتسفكنّ منها من شيوخ وائل دما، أربعين عاما، قال: أقتلت كليبا؟ قال: نعم. قال: وددت أنّك وأخوتك كنتم متّم قبل هذا. ما لي إلى أن تشاءم بي أبناء وائل.
وزعم مقاتل أن جسّاسا قال لأخيه نضلة بن مرّة، وكان يقال له:
عضد الحمار (من الوافر):
أراني قد جنيت عليك حربا
…
تغصّ الشّيخ بالماء القراح
مذكّرة متى ما يصح عنها
…
فتى نشبت بآخر غير صاح
تنكّل عن ذئاب الغيّ قوما
…
وتدعوا آخرين إلى الصّلاح
فأجابه نضلة يقول (من الوافر):
فإن تك قد جنيت عليّ حربا
…
فلا وان ولا رثّ السّلاح
وقال مقاتل: إنّ همّام بن مرّة، كان أخا لمهلهل، وكان عاقده ألاّ يكتمه شيئا. (244) فكانا جالسين على شراب بينهما. فمرّ بهما جسّاس يركض به فرسه، مخرج فخذيه. فقال همّام: إنّ له لأمرا؛ والله ما رأيته كاشفا فخذيه في ركض قطّ. فلم يلبث إلاّ أن جاءته أمة، فسارّته أنّ جسّاسا قتل كليبا، ومضت. فقال له مهلهل: بما أخبرتك به العجوز؟
فقال: أخبرتني أنّ أخي قتل أخاك. قال: هو أضيق إست من ذلك. ثمّ تحمّل القوم وغدا مهلهل في الخيل.
وقال المفضّل في خبره: فلمّا قتل كليب، قالت بنو تغلب بعضهم لبعض: لا تعجلوا على إخوتكم بكر، حتّى تعذروا بينكم وبينهم. ثمّ انطلق رهط من أشرافهم وذوي أسنانهم حتّى أتوا مرّة بن ذهل، أبو جسّاس. فعظّموا ما بينهم وبينه. وقالوا: اختر منّا خصالا. إمّا أن تدفع إلينا جسّاسا، فنقتله بصاحبنا، فلم يظلم من قتل قاتله. وإمّا <أن>، تدفع إلينا همّاما، وإمّا <أن> تفيدنا من نفسك. فسكت، وقد حضرته وجوه <بني> بكر ابن وائل، فقالوا: تكلّم غير مخذول. فقال: أمّا جسّاس، فإنّه غلام حديث السنّ، ركب رأسه، فهرب حين فعل ما فعل، فلا علم لي به. وأمّا همّام، فأبوا عشرة وأخو عشرة، ولو دفعته إليكم لضجّ بنوه في وجهي وقالوا: دفعت أبانا يقتل بجريرة غيره. وأمّا أنا، فما أتعّجل الموت، وهل تزيد الخيل إلاّ أن تجول عليّ جولة، فأكون أوّل قتيل. ولكن هل لكم في غير ذلك؟ هؤلاء بنيّ، فدونكم أحدهم فاقتلوه به، وإن شئتم فلكم ألف ناقة تضمّها لكم بكر بن وائل. فغضبوا وقالوا: إنّا لم نأتك لترد بنيك الأصغرين في كليب، وهو هو؛ ولا تسومنا اللّبن وفي
أموال تغلب الغنا. وتفرّقوا ووقعت الحرب.
وكلّم في ذلك الحارث بن عباد، فقال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل. (245) وهو أوجل من قالها، فأرسلها مثلا.
واتّفقت الرّواة جميعا أن كانت حروبهم أربعين سنة، كما جرى على لسان جسّاس عند قوله لأبيه. منها خمس وقعات مزاحفات متعدّدة. وكان تكون بينهم مغاورات، وكان الرجل يلقى الرجل والرجلين ونحو ذلك.
وكان أوّل تلك الأيّام يوم عنيزة، وهو عند فلجة، فتكافؤوا فيه: لا لبكر ولا لتغلب، وتصديق ذلك قول مهلهل (من الوافر):
كأنّا غدوة وبني أبينا
…
بجنب عنيزة رحيا مدير
فلولا الرّيح أسمع أهل حجر
…
صليل البيض تقرع بالذّكور
ثمّ تفرّقوا، فغبروا زمانا، ثمّ التقوا يوم واردات، فكانت لتغلب على بكر، فقتلوا بكرا أشدّ القتل، وقتلوا بجيرا بن عباد. فذلك قول مهلهل (من الوافر):
وإنّي قد تركت بواردات
…
بجيرا في دم مثل البعير
هتكت به بيوت بني عباد
…
وبعض الغشم أشفى للصّدور
قال أبو برزة: ثمّ انصرفوا يوم واردات، ثمّ التقوا يوم بطن السّرو، وهو يوم القصيبات، وربما قال: القصيبة. وكانت لتغلب على بكر أيضا، حتّى ظنت بكر أن سيقتلونها. وقتلوا يومئذ همّام بن مرّة. ثمّ التقوا يوم قضة، وهو يوم التّحالق، ويوم الثّنيّة، ويوم الفصيل: كانت لبكر على تغلب.
فكان من حديث مقتل همّام بن مرّة ما زعم مقاتل، أنّ همّام بن مرّة لم يزل قائد بكر حتّى قتل يوم القصيبات. وكان قد وجد غلاما مطروحا، فالتقطه وربّاه وسمّاه: ناشرة، وكان عنده لقيطا. فلمّا شب الغلام، إذا به من بني تغلب. فلمّا التقوا يوم القصيبات جعل همّام يقاتل أشدّ قتال، فإذا عطش رجع إلى قربة فشرب ونضح عليه منها، بعدما يضع سلاحه. فوجد ناشر من همّام غفلة، فشدّ عليه بالعنزة (246) ققتله، ولحق بقومه بني تغلب. ففي ذلك يقول مرّة، أبي جسّاس (من الطويل):
لقد عيّل بالأقوام طعنة ناشره
…
أناشر لا زالت يمينك آشره
ثمّ قتل ناشرة رجل من بني يشكر.
وأمّا خبر مقتل بجير، ابن أخي الحارث بن عباد، يوم واردات، قال: كان أوّل فارس لقي مهلهلا بجير، ابن أخي الحارث بن عباد. فقال المهلهل: من خالك يا غلام؟ وبوّأ نحوه الرّمح، فقال له امرؤ القيس بن أبان التّغلبيّ، وكان يلي مقدّمة تغلب في حربهم: مهلا يا مهلهل، فإنّ عمّ هذا وأهل بيته قد اعتزلونا فلم يدخلوا في شيء ممّا نكره. والله لإن قتلته، ليقتلنّ به رجل لا يسل عن نسبه. فلم يلتفت مهلهل إلى قوله، بل شدّ عليه فقتله، وقال: بؤ بشسع نعل كليب. فقال الغلام، وهو في حياض الموت:
إن رضيت بهذا بنو ثعلبة، رضيت به. فلمّا بلغ الحارث بن عباد قتل بجير -وقيل: إنّه ولده ولم يكن ابن أخيه؛ رواية أبو برزة-فقال الحارث: نعم الغلام، <غلام> أصلح بين بني وائل، أراد أن يكون بكليب. فلمّا سمعوا قول الحارث، قالوا له: إنّ مهلهلا لمّا قتله قال: بؤ بشسع نعل كليب، وقال (من الرجز):
كلّ قتيل في كليب حلاّم
…
حتّى ينال القتل آل همّام
فغضب الحارث عند ذلك ونادى بالرّحيل، وقال (من الخفيف):
قرّبا مربط النّعامة منّي
…
لقحت حرب وائل عن حيال
لا بجير أغنى قتيلا ولا رهط
…
كليب تزاجروا عن ضلال
لم أكن من جناتها، علم الله
…
وإنّي بحرّها اليوم صال
قال مقاتل: فكان حكم بكر بعدها للحارث بن عباد، وكان الرئيس الفند. وكان فارسها جحدر، وكان شاعرها سعد بن مالك بن ضبيعة.
(247)
قال مقاتل أيضا: فجدّ الحارث بن عباد في قتال تغلب. فلمّا كان يومهم على تغلب أسر الحارث بن عباد مهلهل، بعد ما أمر الناس، وهو لا يعرفه. فقال له: دلّني على مهلهل ولك دمك. قال: ولي ذمّتك وذمّة أمّك؟ قال: نعم، ذلك لك. قال: فأنا مهلهل. قال: فدلّني على كفء لبجير ابني. قال: لا أعلمه إلاّ امرء القيس بن أبان. فجزّ ناصيته، وقصد امرئ القيس فقتله. وقال الحارث في ذلك (من الخفيف):
لهف نفسي على عديّ ولم أعرف
…
عديّا إذ أمكنتني اليدان
طلّ من طلّ في الحروب ولم أو
…
تر بجيرا أبأته ابن أبان
فارس يضرب الكتيبة بالسّيف
…
وتسموا أمامه العينان
قال جحدر: إنّ مهلهلا قال: لا والله، أو يعهد لي غيرك. قال
الحارث: اختر من شئت. قال مهلهل: <أختار> الشيخ القاعد، عوف ابن محلّم. قال الحارث: يا عوف، أجره. قال: لا، حتّى يداري بظلّي.
فأمره، فقعد خلفه. وقال حينئذ: أنا مهلهل.
وفي هذه الوقعة قتل عمرو وعامر. قتلهما جحدر، وذلك في حومة الجولان؛ شدّ على عامر فاعتوره عمرو، فطعن عمرا بعالية الرمح، وطعن عامرا بسافلته، فقتلهما جميعا.
قال مقاتل: فلمّا رجع مهلهل بعد الوقعة والأسر إلى أهله، جعل النساء والولدان يستخبرونه: تسل المرأة عن خليلها وابنها وأخيها، والغلام عن أخيه وأبيه وذويه وأقاربه. فقال مهلهل (من الخفيف):
ليس مثلي يخبّر النّاس عن آ
…
بائهم قتّلوا وينسا القتالا
لم أرم عرصة الكتيبة حتّى
…
انتعل الورد من دماء نعالا
عرفته رماح بكر فما يأ
…
خذن إلاّ لباته والقذالا
(248)
غلبونا ولا محالة يوما
…
يقلب الدّهر ذاك حالا فحالا
ثمّ خرج حتّى لحق بأرض اليمن، في حديث طويل.
وقال عامر بن عبد الملك: لم يكن بينهم من قتلى تعدّ وتذكر إلاّ
ثمانية نفر: من بني بكر أربعة ومن بني تغلب مثلهنّ، عدّدهم مهلهل في شعره، وهي قصيدته التي منها وأوّلها (من الوافر):
أليلتنا بذي حسم أنيري
…
إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فإن أك بالذّنائب طال ليلي
…
فقد أبكي من اللّيل القصيري
فلو نبش المقابر عن كليب
…
فيعلم بالذّنائب أيّ زير
بيوم الشّعثمين أقرّ عينا
…
وكيف لقاء من تحت القبور
وإنّي قد تركت بواردات
…
بجيرا في دم مثل العبير
هتكت به بيوت بني عباد
…
وبعض الغشم أشفى للصّدور
على أن ليس يوفي من كليب
…
إذا برزت مخبّأة الخدور
وهمّام بن مرّة قد تركنا
…
عليه القشعمان من النّسور
ينوء بصدره والرّمح فيه
…
ويخلجه خدبّ كالبعير
ولولا الرّيح أسمع أهل حجر
…
صليل البيض تقرع بالذّكور
وهي طويلة، ذكر فيها أربعة من بكر بن وائل. وقصيدته الأخرى التي أوّلها يقول (من الخفيف):
طفلة ما ابنة المجلّل بيضا
…
ء لعوب لذيذة في العناق
وفيها يعدّد أسماء ثمانية من تغلب:
ما أرجّي في العيش بعد نداما
…
ي أراهم سقوا بكأس حلاق
بعد عمرو وعامر وحييّ
…
وربيع الصّدوف وابني عناق
(249)
وامرئ القيس ميّت يوم أودى
…
ثمّ خلّى عليّ ذات العراقي
وكليب شمّ الفوارس إذ حمّ
…
رماه الكماة بالإيفاق
إنّ تحت الأحجار حزما وعزما
…
وخصيما ألدّ مرّ المذاق
حيّة في الوجار أربد لا ينفع
…
منها السّليم نفثه راق
قال أبو عبيدة: اسم مهلهل: عديّ؛ وقال <يعقوب> بن السّكّيت: بل اسمه: امرؤ القيس بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم
ابن يشكر بن حبيب بن عمر بن عمرو بن غنم بن تغلب. وإنّما سمّى مهلهلا لطيب كان فيه، وكان أحد من غنّي من العرب شعره.
وروي أنّه أوّل من قصّد القصائد، وقال الغزل، فقيل: قد هلهل الشّعر، أي قد أرقّه. وهو أوّل من كذب في شعره، وهو خال امرئ القيس ابن حجر الكنديّ الشاعر المذكور، وسيأتي ذكره بعد ذكر أيّام العرب وفرسانها، إن شاء الله تعالى.
وكان مهلهل ذا خنث ولين، وكان كثير المحادثة للنساء، وكان كليب يسمّيه زير النساء، فذاك قوله (من الوافر):
ولو نبش المقابر عن كليب
…
فيعلم بالذّنائب أيّ زير
وقال ابن الأعرابيّ عن المفضّل الضّبّيّ وأبي عبيدة، قالا جميعا: إنّ آخر من قتل في حرب بكر بن وائل وتغلب بن وائل: جسّاس بن مرّة بن ذهل بن شيبان، قاتل كليب بن ربيعةأو كانت أخته تسمّى جليلة تحت كليب، حسبما تقدّم من الكلام في ذلك. ولمّا قتله جسّاس كانت جليلة حامل، فرجعت إلى أهلها، ووقعت الحرب، وكان بين الفريقين ما كان، ثمّ صاروا إلى الموادعة بعدما كادت القبيلتان أن تتفانيا. فولدت أخت
جسّاس غلاما فسمّته (250) الهجرس، وربّاه جسّاس وأحسن تربيته، وكان لا يعرف له أبا غيره، فزوّجه ابنته.
فبينا هو ذات يوم، إذ وقع بينه وبين رجل من بكر بن وائل كلام، فأربى الغلام على البكريّ في غليظ القول، فقال البكريّ: ما أنت بمنتة حتّى نلحقك بأبيك. فأمسك عنه، ودخل على أمّه كئيبا. فسألت عمّا به، فأخبرها الخبر. فلمّا أوى إلى فراشه ونام إلى جنب زوجته، ابنة جسّاس، وضع أنفه بين ثدييها، فتنفّس تنفّسة تنفّط ما بين ثدييها من حرارتها. فقامت الجارية فزعة قد داخلها رعدة حتّى دخلت على أبيها جسّاس. فقال:
أخبارك يا بنيّه؟ فقصّت عليه قصّة الهجرس. فقال جسّاس: ثائر، وربّ الكعبة!
وبات على مثل الوضم حتّى أصبح. فأرسل إلى الهجرس، فأتاه، فقال: إنّما أنت ولدي، ومنّي بالمكان الذي علمت، وقد زوّجتك ابنتي وحكّمتك في نعمتي، وقد كانت الحرب في أبيك زمانا حتّى كدنا نتفانا عن آخرنا، واصطلحنا وتحاجزنا، وقد رأيت أن تدخل فيما دخل فيه الناس من الصلح، وأن تنطلق معي حتّى نأخذ عليك العهد مثلما أخذ علينا وعلى قومنا. فقال الهجرس: أنا فاعل، ولكنّ مثلي لا يأتي قومه إلا بلأمته وفرسه، فحمله جّساس على فرس، وأعطاه لأمة ودرعا، وخرجا حتّى أتيا جماعة من قومهما، فتقدّم جسّاس وقال: نعمتم صباحا
من وجوه. ثمّ إنّه قصّ وذكر لهم ما كانوا فيه من البلاء، وما صاروا فيه من العافية بعد تلك الحرب المتواترة والدماء المهروقة. (251) ثمّ قال:
وهذا ابن أختي قد جاء ليدخل فيما دخلتم فيه، ويعقد مثلما عقدتم.
قال: فلمّا أقر بالدم وقاموا إلى العقد، أخذ الهجرس بوسط رمحه، ثمّ قال: وفرسي وأذنيه، ورمحي وسنّيه وسيفي وغراريه، لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ينظر إليه. ثمّ طعن جسّاسا فأنفذ منه سنانه إلى أوّل كعب فيه، وتركه ولحق بقومه. وكان آخر قتيل قتل في بكر، والله أعلم.
قال ابن القطاميّ، قال: لمّا قتل جسّاس كليبا، وكانت مجلّلة- وقيل: جليلة-بنت مرّة، أخت جسّاس، تحت كليب، اجتمع نساء الحيّ للمأتم، فقلن لأخت كليب، وهي السّماوة: رحّلي جليلة بنت مرّة، أخت قاتل أخيك، عن مأتمنا، فإنّ قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب.
فقالت لها أخت كليب، وهي السّماوة: يا جليلة، اخرجي عن مأتمنا، فأنت أخت واترنا، وشقيقة قاتلنا، ووقوفك معنا شماتة بنا، وعار علينا.
ولو كانت النساء يؤخذن بالرّجال لما تركتك تجري ردتك. فخرجت جليلة وهي تجرّ أعطافها، فلقيها أبوها مرّة بن ذهل، فقال: ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثكل العدد، وخزن الأبد، وفقد خليل، وقتل أخ عمّا قليل، وبين
ذين غرس الأحقاد وتفتّت الأكباد. فقال لها: أويكفّ عن ذلك كرم الصّفح، وإغلاء الدّيات؟ فقالت: أمنيّة مخدوع وربّ الكعبة! إنّك لتعلم أنّ تغلب لا تدع لك دم ربّها، ولا من يزيد يزيل عنها في الحروب كروبها.
(252)
قال: ولمّا رحلت جليلة عن الأحياء، قالت السّماوة، أخت كليب: رحلة المتعدّي وفراق الشامت. ويل غدا لآل مرّة، من الكرّة بعد الكرّة، إذا صحبتهم أوائل الخيل، بالثّبور والويل. فبلغ قولها جليلة، فقالت: واحزناه! وكيف تشمت الحرّة بهتك سترها، وترقّب وترها، ثمّ أنشأت تقول (من الرمل):
يابنة الأقوام إن شئت فلا
…
تعجلي باللّوم حتّى تسألي
فإذا أنت تبيّنت الّذي
…
يوجب اللّوم فلومي واعذلي
إن تكن أخت امرئ ليمت على
…
شفق منها عليه فافعلي
جلّ عندي فعل جسّاس فوا
…
حسرتا عمّا انجلت أو تنجلي
فعل جسّاس على وجدي به
…
قاطع ظهري ومدن أجلي
لو بعين فقئت عيني سوى
…
أختها فانفقأت لم أحفل
تحمل العين قذى العين كما
…
تحمل الأمّ أذى ما تعتلي
يا قتيلا قوّض الدّهر به
…
سقف بيتي جميعا من عل
هدم البيت الّذي استحدثته
…
وانثنى في هدم بيتي الأوّل
خصّني قتل كليب بلظى
…
من ورائي ولظى مستقبلي
ليس من يبكي ليوميه كمن
…
إنّما يبكي ليوم ينجلي
يشتفي المدرك بالثّأر وفي
…
دركي ثأري ثكل المثكل
ليته كان دما فاحتلبوا
…
دررا منه دمي من أكحلي
إنّني قاتلة مقتولة
…
ولعلّ الله أن يرتاح لي
قلت: وقول هذه من القصائد المشهورة، ومن المراثي المذكورة، ممّا قاربت فيه رثي الخنساء وشعر ليلى الأخيليّة، وسيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى، في موضعه.