المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌هذا ذكر حرب داحس والغبراء المشهورة من أيام حروب العرب - كنز الدرر وجامع الغرر - جـ ٢

[ابن الدواداري]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المصنف]

- ‌ذكر انقضاء مدّة العالم وابتدائهواختلاف العلماء في ذلك

- ‌ذكر ما لخّص من مقامة لابن الجوزيّ، رحمه اللهوهي الباينة مما يتعلّق بذكر آدم، عليه السلام

- ‌نستفتح الكلام بذكر آدم، عليه السلام

- ‌فصلفي إعلام الله تعالى الملائكة بخلقه

- ‌فصلفي الخليفة

- ‌فصلقوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} الآية

- ‌فصلفي قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ}

- ‌ذكر خلق آدم، عليه السلام

- ‌فصلفي تعليمه الأسماء كلّها

- ‌فصلفي سجود الملائكة، عليهم السلام

- ‌(28) فصلفي قوله تعالى: {إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَاِسْتَكْبَرَ}

- ‌فصل ذكر خلق حوّاء، عليها السلام

- ‌فصل(31)في مقام آدم في الجنّة

- ‌فصل: ذكر الشجرة المنهيّ عنها

- ‌فصل في احتيال إبليس على دخول الجنّة

- ‌فصلقوله تعالى: {وَقُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الآية

- ‌فصلفي ذكر المكان الذي أهبطوا إليه

- ‌فصلفيما تجدّد لآدم بعد هبوطه من الجوار

- ‌(42) فصلفيما نزل مع آدم من الجنّة

- ‌ذكر قابيل بن آدم وما كان من أمره بعد أن قتل أخاه هابيل

- ‌ذكر شيث بن آدم، صلوات الله عليهما،وعدد الكتب والصحف التي أنزلت عليه

- ‌ذكر أنوش بن شيث بن آدم، عليه السلام

- ‌ذكر قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، عليه السلام

- ‌ذكر برد بن قينان بن أنوش بن آدم، عليه السلام

- ‌ذكر أخنوخ، وهو إدريس النبيّ، صلوات الله عليه وسلم

- ‌ذكر متوشلح بن إدريس، عليه السلام

- ‌ذكر لامك، أبو نوح، عليه السلام

- ‌ذكر نوح، عليه السلام، وقصّته مع قومه

- ‌ذكر أولاد نوح، عليه السلام، وهم سام وحام ويافثوما ولد كلّ إنسان منهم من الأمم

- ‌ذكر كنعان بن حام وأولاده وشعوبه والفراعنة منهم

- ‌ذكر ملوك مصر من ولد حام

- ‌ذكر أولاد يافث بن نوح، عليه السلام،وقبائلهم وشعوبهم وأخبارهم

- ‌ذكر يأجوج ومأجوج

- ‌ذكر السدّ الذي سدّه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج

- ‌ذكر الصقالبة

- ‌ذكر اليونانيّون الأوّلون من ولد يافث بن نوح عليه السلام

- ‌ذكر مملكة الروم

- ‌ذكر ملوك الصّين من ولد يافث

- ‌ذكر الإفرنج

- ‌ذكر مملكة الأندلس

- ‌ذكر مملكة الترك

- ‌ذكر مملكة خراسان

- ‌ذكر أولاد سام بن نوح، عليه السلام

- ‌ذكر تفرّق الطوائف من الناس بعد الطوفان

- ‌ذكر عاد

- ‌ذكر الكهّان القديمة بمصر من قبل الطوفان

- ‌ذكر قومة الكاهنة وما صنعت من العجائب في وقتها

- ‌(77) ذكر الأهرام وأوّل بنائها والسبب في ذلكوما فيها من العجائب

- ‌ذكر ملوك من ولد سوريد واتّصال بعضهم ببعض إلى آخر وقت

- ‌ذكر الكهّان من بعد الطوفان إلى حين خراب مصر

- ‌(91) ذكر ملوك مصر بعد الطوفان من وجه آخر

- ‌ذكر الوليد بن دومغ، أوّل الفراعنة بمصر

- ‌أخبار الوليد بن دومغ

- ‌ذكر نهراوس

- ‌ذكر دريوش

- ‌ذكر مقاريوس

- ‌ذكر اقسامين

- ‌ذكر ظلما بن فرمس

- ‌ولنبتدئ بذكر بقيّة الأنبياء، صلوات الله عليهم،بعد نوح عليه السلام

- ‌ذكر هود، عليه السلام

- ‌ذكر صالح، عليه السلام

- ‌ذكر إبراهيم الخليل، صلوات الله عليه

- ‌ذكر لوط، عليه السلام

- ‌ذكر إسماعيل، عليه السلام

- ‌ذكر يعقوب، عليه السلام

- ‌ذكر يوسف، عليه السلام

- ‌ذكر أيّوب، عليه السلام

- ‌ذكر شعيب، عليه السلام

- ‌ذكر الخضر، عليه السلام

- ‌ذكر موسى وهارون، عليهما السلام

- ‌ذكر أشمويل، عليه السلام، وداود، عليه السلام

- ‌ذكر سليمان بن داود، عليه السلام

- ‌ذكر رحبعم

- ‌ذكر أخبار آل داود

- ‌ذكر يونس بن متّا، عليه السلام

- ‌ذكر زكريّا، عليه السلام

- ‌ذكر عيسى ابن مريم، صلوات الله عليه

- ‌ذكر أهل القرية

- ‌ذكر ذو الكفل

- ‌ذكر لقمان الحكيم

- ‌ذكر أصحاب الأخدود

- ‌ذكر أصحاب الكهف

- ‌ذكر سائر ملوك الأرض وأسمائهمومدد تملّكهم إلى آخر وقت

- ‌ذكر الطّبقة الأولى لملوك الفرس

- ‌(177) ذكر الطبقة الثانية من ملوك الفرس وهم الكيسانيّة

- ‌ملحق من الأصل

- ‌ذكر الطبقة الثالثة من ملوك الفرس

- ‌ذكر ملوك الطبقة الرابعة من الفرس وهم الساسانيّة

- ‌ذكر نبذ من أخبارهم

- ‌ذكر الخبر الأوّل عن بهرام جور

- ‌ذكر الخبر الثاني عن بهرام جور

- ‌ذكر شابور ذي الأكتاف

- ‌ذكر ملوك البطالسة، وهم اليونانيّون

- ‌ذكر ملوك رومية، وهم المعروفون بالقياصرة

- ‌ذكر ملوك القسطنطينيّة بحكم الاختلاف

- ‌ذكر من ملك مصر من ملوك بعدما غرّق الله تعالى فرعون

- ‌ذكر بخت نصّر وسنة دخوله مصر وسبي بني إسرائيل

- ‌ذكر سبب انكشاف فارس عن الروم

- ‌ذكر ملوك العرب وأصولها وفروعها وبطونها

- ‌ذكر ملوك اللّخميّين وهم ملوك الحيرة، عرب العراق

- ‌ذكر ملوك العرب من آل جفنة

- ‌(233) ذكر التّبابعة من حمير ملوك اليمن

- ‌ذكر ملوك كندة بحكم التلخيص

- ‌ذكر وقائع العرب وحروبها في أيّامها المشهورة

- ‌ذكر كليب ومهلهل ابنا ربيعة،وهو حرب البسوس المذكور

- ‌(253) ذكر حرب عبس وبنو عامر والسبب فيه

- ‌هذا ذكر حرب داحس والغبراء المشهورة من أيّام حروب العرب

- ‌ذكر حاتم الطّائي ونبذ من أخباره

- ‌ذكر أيضا حاتم من وجه آخر

- ‌ذكر عنترة العبسيّ من وجه آخر

- ‌ذكر عروة بن الورد العبسيّ، جاهليّ

- ‌ذكر دريد بن الصّمّة والخنساء بنت عمر بن الشّريد السّلميّ

- ‌ذكر ذو الإصبع العدوانيّ، جاهليّ

- ‌(305) ذكر تأبّط شرّا وطرفا من خبره

- ‌ذكر الفحول من شعراء الجاهليّة ولمعا من شعرهم

- ‌ذكر امرئ القيس بن حجر

- ‌ذكر النّابغة الذّبيانيّ ولمعا من أخباره وأشعاره

- ‌ذكر زهير بن أبي سلمى وطرفا من شعره

- ‌ذكر طرفة بن العبد، جاهليّ

- ‌ذكر علقمة بن عبدة الفحل، جاهليّ

- ‌ذكر المتلمّس وبعض أخباره وطرف من أشعاره، جاهليّ

- ‌ذكر الأعشى، جاهليّ

- ‌ذكر عبيد بن الأبرص، جاهليّ

- ‌ذكر لبيد بن ربيعة وطرف من أخباره

- ‌ذكر عمرو بن كلثوم، جاهليّ

- ‌(336) ذكر المرقّشان: الأكبر والأصغر، جاهليّين

- ‌ذكر الأسود بن يعفر الدّارميّ، جاهليّ

- ‌ذكر عمرو بن قميئة

- ‌ذكر أبو دؤاد الإياديّ، جاهليّ

- ‌ذكر عديّ بن زيد

- ‌ذكر الأفوه الأوديّ، جاهليّ

- ‌(343) ذكر أبو كبير الهذليّ، جاهليّ

- ‌ذكر من تلا هؤلاء من المبشّرين بظهور سيّد المرسلين

- ‌ذكر زيد بن عمرو بن نفيل، جاهليّ، وفيه حديث

- ‌ذكر مدرج الرّيح، عامر المجنون الجرميّ

- ‌ذكر سعية بن غريض

- ‌ذكر أبو الصّلت، جاهليّ

- ‌ذكر ورقة بن نوفل، جاهليّ، وفيه حديث

- ‌ذكر ما الخّص من كهّان العرب في الجاهليّة

- ‌ذكر عدد الأنبياء والمرسلين والكتب المنزلة عليهم،صلوات الله عليهم أجمعين

- ‌ذكر التواريخ من لدن، آدم عليه السلام، إلى آخر وقت

- ‌ملحق

- ‌سرد المصادر والمراجع

الفصل: ‌هذا ذكر حرب داحس والغبراء المشهورة من أيام حروب العرب

ثمّ جرت بعد ذلك بين بني عبس والملك النّعمان حروب يطول شرحها، فأضربت عنها لنخرج عن الغرض المطلوب، وإنّما نذكر من كلّ شيء لمعة كافية، أو بدعة شافية، ليكون هذا التاريخ مشحونا بكلّ نبذة لطيفة، وزبدة خفيفة، وبالله أستعين، فإنّه خير معين.

‌هذا ذكر حرب داحس والغبراء المشهورة من أيّام حروب العرب

ولمّا خلا وجه قيس بن الملك زهير من قتال بني عامر، وقتل غرماءه، وأخذ ثأره بأوفى نصيب، بلغه أنّ في بني رياح مهر لرجل يسمّى جياش بن عوف، ما ربّت العرب مثله من أوّل الزّمان وإلى ذلك اليوم، فتعلّق <به>.

(261)

وكان هذا المهر أعجوبة لمن تعجّب، ما ربّت مثله العرب، أعلا الخيل نسب وحسب، لأنّ أباه كانت العرب تسمّيه: العقاب، وأمّه حجرة، يقال لها: جلوة. وكانت تفوت الأبصار لسرعتها، وتملك القلوب عند خطرتها. وبهذه الحجرة والحصان كانت تفتخر بنو رياح على سائر العربان. وكان الحصان لرجل يقال له: ماجد، والحجرة لرجل يقال له:

كريم بن وهّاب. وإنّ الحصان أغبر مع ابنة ماجد إلى الغدير يشرب،

ص: 395

والحجرة قائمة على جنب الغدير. فأدلى الحصان وحمحم ولعب بأربعته وسحب مقوده من بنت ماجد الرّياحي، فضحكوا صبيان الحيّ منه، فاستحيت البنت عند ذلك وأطلقت رسنه من يدها، ودخلت إلى بعض المضارب من شدّة الخجل. وكانت الحجرة طالب. فوثبها الحصان. ولمّا نزل عنها أخذته الجويرية وسارت به إلى مضربهم. ولمّا رآه أبوها ونظر إلى عينيه عرف أنّه قد فقر. فاغتاض لذلك، وسأل من ابنته فأخبرته الحال، فخرج إلى وسط الحيّ ونادى بآل رياح: يال رياح! فأتوا إليه شيوخ الحلّة، فعرّفهم ذلك وقال: والله متى لم يدعوني أفعل ما أريد، دسست على الحجرة من قبلها، وتثور بيننا الحرب وسفك الدماء. فقالوا: وما الذي تريد تفعل؟ قال: أتوني بالحجرة وشدّوها بين يديّ حتى أغسل حياها.

فأتوه بالحجرة. فقام إليها وشمّر ساعديه، ثمّ غسل يديه بالماء وضمّدها بالتّراب، وأدخل يده في حيا الحجرة وجرف كلّما كان فيها، ثمّ تركها.

فما حال الحول حتّى ولدت هذا المهر، فسمّاه كريم: داحس، لأجل ما دحسه صاحب الحصان في أمه جلوة وجاء أحسن وأرتب وأجمع من أبيه عقاب.

ثمّ إنّه جاز يوم على ماجد وراء أمّه. فنهض، فأخذه، وقال: يا

ص: 396

للعرب! هذا مهري وابن حصاني، وأنا أحقّ به منه. وبلغ الخبر (262) لكريم بن وهّاب، صاحب المهر. فجمع سادات العشيرة، ثمّ أتا بهم إليه.

فعنّفوه، وقالوا: قد فعلت في النّوبة الأوله بحجرته ما فعلت، وحكّمك ولم يشاققك، واليوم تريد تغصبه ما له! فقال: لا تطيلوا الخطاب، فوحقّ الإله القديم ما أعطيه إيّاه إلاّ أن تقاتلوني عليه وتأخذوه منّي غصبا. فلمّا سمع صاحبه ذلك، قال: يا ابن العمّ، لعن الله من يغصبك على ملك الأرض.

اشهدوا عليّ أنّ المهر مهره والحجرة أيضا هبة منّي إليه، حتّى لا أفرّق بينهما. ثمّ انصرف عنه وترك له المهر وأمّه. فاستحسنوا العرب منه ذلك، واستحى ماجد من كرم ابن عمّه عليه وإفضاله. فأعاد المهر والحجرة ومعهما قطعة من إبله.

ثمّ إنّ المهر خرج بدعة الزّمان، زائد الصفات، وكان يسابق سائر الخيول. وإذا أراد صاحبه يسابق أحد، يقول لخصمه: اسبقني رمي نبلة.

فيقدم عليه ثمّ يطلق عنانه فيدركه ويسبقه، حتّى شاع خبره في سائر أحياء العرب.

فلمّا بلغ قيس بن زهير، هام به وشغف. ثمّ أنفذ إلى صاحبه كريم برسول يسأله شراءه، وبدل له ما شاء من الأموال والنّياق والخيل والذهب

ص: 397

والفضّة، فأبا، وقال: والله لو سيّر ابن زهير بطلله بعته منّي بأمتعته، لكن ساومني معه، هذا لا كان أبدا. فلمّا ردّ الرسول بالخيبة، أغار عليهم الملك قيس في بني عبس، وأخذ الأموال وسبا العيال، وقتل الرجال.

وكان المهر مقيّد، فوثب عليه عبد لصاحبه وحرّكه، فعاد يجمز جمزا كجمزات الغزال. فلمّا رآه قيس حرّك عليه فلم يلحق منه الغبار، فصاح على العبد، وقال: قف يا مولّد العرب، ولك الذّمام، حتّى تسمع منّي كلام. فوقف ثمّ نزل وفكّ قيده وقال: قل يا مولاي. فقال: بعني هذا المهر بمهما شئت. فقال: أبيعك. فهو بسائر الغنيمة. (262) فقال: وحقّ ذمّة العرب، شريته منك بما قلت. فلمّا تأكّد بينهما الحال، نزل العبد عن داحس وسلّمه رسنه، وأعاد قيس سائر الغنيمة، وعاد به إلى أهله وهو لا يكاد يصدّق بحصول الجواد. ثمّ إنّ قيس ما عاد يفارق داحس وغويه كما يغوى الرجل المرأة الحسناء.

ووصل خبره إلى بني فزارة، وكان بين قيس بن زهير ملك بني عبس وبين حذيفة بن بدر، رئيس بني فزارة، تقاولات وتنافس، حتّى ألجأ الحال بهم إلى الرّهان في سباق الخيل، وأوقعوا بينهما الرّهن على مائة ناقة، بعد مشاجرات كثيرة أضربت عنها لطولها. وكان لحذيفة بن بدر الفزاريّ حجرة يقال لها: الغبراء. وكان مطنّ بها، فحصل بينهما الرهان على سباق داحس والغبراء. واتّفق رأيهم أن يكون السباق من مائة رمية بالنّبل، والذي يقيس:

إياس بن منصور. وكان إياس بن منصور قد اختاره قيس لأنّه كان من الرّماة المشهورة الذي يضرب بها الأمثال. واتّفقوا على الضّمار أربعين يوما. هذا

ص: 398

جرا وكلا من مشايخ العشيرتين كاره لهذا الأمر، وعلموا أنّ هذا السّباق يثور بينهما أحقاد قديمة ودفائن باطنة. فدخلوا في إبطال ذلك، فامتنع حذيفة بن بدر، فإنّه كان معجب برأيه، كثير الصّلف، عظيم الرأي في نفسه. فلمّا رأى قيس امتناعه عن تأخير السباق صمّم أيضا هو على ذلك، على كره منه، فإنّه كان حسن العقل والتدبير، مليح الرأي والمشورة.

ولمّا لجّ حذيفة في ذلك، قال له إياس بن منصور هذا القصيد (من المتقارب مع بعض الخلل في الوزن):

حذيفة ما فيك من هجنة

وما في طهارة قيس من دنس

فدع عنك قيس، فقيس له

عفا جنح أخذه بالنّفس

(264)

ولا سيّما داحس في الرّهان

إذا شاطروا ذائبا حبس

جواد إذا ثار الغبار

رأيت حوافره كالقبس

فلمّا سمع حذيفة مقال إياس، قال: أنا ما أرجع عن رهاني بهذا الكلام وأمثاله.

وكان لحذيفة أخ يقال له: حمل، وكان عاقلا محنّكا عارف بتصاريف الزّمان وحوادث الأيّام، فتوسّط بينهما أن يتركا هذا الأمر، وركب إلى قيس ابن زهير، وقال (من الكامل):

يا قيس لا تغضب حذيفة إنّه

طلب اللّجاج وفعله ميشوم

ص: 399

يا قيس إنّ مع اللّجاج جزأة

فيها الوبال وفرعها مذموم

إنّي أخاف على أخي من شوءمه

تلقا كما لقي الفتى مكتوم

جارا أخاه على المعالي فانثنى

وهو الشّقيّ وأنفه مرغوم

ماذا تريد من امرئ في نفسه

حنقا وحنقه محتوم

إنّ الّذي يبغي حذيفة منكم

والرّاقصات إلى منّى مفهوم

فلمّا سمع قيس هذه الأبيات، قال: يا حمل، ليس منّي مخالفة؛ إن رجع أخاك عن الرهان اشهد عليّ أنّي راجع. فعاد إلى أخيه، فأعيته فيه الحيلة، وهو لا يزداد إلاّ فضاضة.

وكان الذي يعصي أمر حذيفة، وقصده إثارة الفتن، وقلع آثار بني عبس، <هو> سنان، زوج أخت الحارث بن ظالم، التي كان عندها ابن الملك النّعمان وأخذه الحارث منها وقتله، كما تقدّم من الكلام. فطلب النّعمان لهذا سنان، وألزمه بإحضار الحارث بن ظالم. ونفّذه إلى بني عبس بطلب الحارث. فامتنعوا عليه في ذلك، كونهم أجاروا الحارث، كونه أخذ بثأر الملك زهير، وقتل خالد بن جعفر في حرم النّعمان. فلمّا ياس سنان من بني العبس، وأنّهم لا يسلّموه الحارث، نزل (265) ببني فزارة، وعاد يشلي الفتن ويثير الحروب، وكان داهية من دواهي العرب، فكان يعصي رأي حذيفة من الاتّفاق. قال في ذلك (من الخفيف):

ص: 400

قد كرهت السّباق خوفا من البغي

وخصمي على الرّهان مقيم

قلت للمر: يا حذيفة دعنا

واستمع من أخيك فهو حكيم

فبغا واستطال لمّا رآني

مستقيل طاهر والبغي شوم

وحقّرني لمّا رأى الحلم منّي

وادّعا أنّني جبان غشيم

وأنا، والّذي له البيت والرّكن

جميعا وزمزما والحطيم

لي عزم يغلّ حادثة الدّهر

إذا كان أمرها محتوم

برجال تلتقي صدور العوالي

بقلوب قد خالفتها الحسوم

يا بني بدر، وله الأمر والنّهي

للبرايا، نعيمها لا يدوم

والّذي قد يضحك اليوم عزّ

فوقه طائر الهلاك يحوم

وكان حمل قد عنا بهذا البيت الاخر: سنان، لمّا علم أنّه الذي يشعب رأس أخوه حذيفة.

فلمّا انتهت الأيّام التي للضّمار، وعزما على السباق، وعادت العرب تموج في الحلبين وتقايض بعضها بعضا، ووقعت بينهما الرهانات، واجتمعت فرسان القبيلتين على غدير ذات الأصاد. وأحضروا إياس بن منصور، الرامي، فأعطى ظهره للغدير، واستقبل مهبّ الهوى، وأرما سهمه مائة غلوة، فانتهى إلى المكان المعروف بينهما. هذا والاتبا والمشايخ حولهم. وانتخب كلّ واحد لفرسه فارس يعتقد عليه. وأتت سادات بني

ص: 401

ذبيان وشجّعان بني غطفان، لأنّهم الجميع في أرض واحدة، ومنهم أنساب متّصلة.

وكان الملك قيس قد أوصى عنتر بن شدّاد أن يقيم (266) في الأحياء لعله بشجاعته وقوّة نفسه، وأنّه لا يحمل الضّيم. فخاف من إثارة الفتنة إذا كان حاضر ورأى ما لا يعجبه ولا يصبر عليه. فلم يقدر عنتر على التخلّف في الخيام، وخشي على قيس وإخوته، أولاد الملك زهير.

قال: فبينما الخيل على عزم الإطلاق، وإذا بعنتر قد طلع كالأسد الواثب الأروع، وبيده سيفه وهو إلى نحو الفريقين قد أسرع، وعيناه كالجمر، وقد تطاير منها الشّرر. ولا زال حتّى توسّط الجمع، ونادى: يا معشر العربان، وسادات ذبيان، وشجعان غطفان، من بني معدّ بن عدنان، ما بينكم إلاّ من يعلم أنّني صنيعة الملك زهير بن جذيمة، أبو هذا الملك قيس، وهو الذي الحقني بالنّسب، وترك لي منزلة وحسب. ولكن ما هنّأه الزمان حتّى كنت أملّكه ملك كسرى أنوشروان، بسيفي وهذا السّنان، وطرقته طوارق الحدثان. وقد خلّف هذا الملك الكبير، والسيّد الأثير، ورضيه أن يكون خليفة على عشيرته وإخوته، وهو كما علمتم ما فيه من الحلم والإنصاف، وأنا عبده وملك يده، معزّ لمن والاه، ومذلّ لمن عاداه. والآن فالأمر قد انتهى، ولا بقا إلاّ إطلاق الخيل والنصر، من فالق الإصباح، ومهبّ الرياح. وأنا أقسم وحقّ البيت الحرام، والرّكن والمقام،

ص: 402

والمشاعر العظام، لإن تعدّا حذيفة وظلم، لأسقيته كأس النّقم، ولأجعلنّ بني فزارة حديثا يروى بين الأمم. فأنتم سادات العربان، وملوك الزمان، فلا ترضوا بغير العدل والإنصاف، وكونوا على من يقصد الخلاف.

. . . كثر الكلام، وعادت الناس كلّ يتحدّث بهوا نفسه. . . .

انتخب حذيفة للغبراء فارس من بني ذبيان، يقال له: مالك بن فعلون، وانتخب قيس لداحس رجل من بني عبس، يقال (267) له: مالك بن غالب. ولما صار كلّ واحد على متن جواده، أقبل قيس على صاحبه وأوصاه بخصائله الذي يعرفها من جواده، وأشار إليه يقول (من الرجز):

لا ترسلنّ له العنان كلّه

وإن عراه عرق وهلّه

إمسح بساقيك وأحسن سلّه

إنّك إن لم تنعشه تملّه

. . . حذيفة فعال قيس، فتشبّه به، ودنا من صاحبه وأوصاه بفرسه، وألقا إليه يقول (من الرجز):

لا ترسلنّ لها العنان كلّها

وإن علاها عرق وبلّها

فامسح بساقيك وأحسن سلّها

إنّك إن تعنّفها تملّها

قال: فتلعثم عنتر وتلوّى حتّى صرّ من تحته الأدم، وقال: سبق وحقّ

ص: 403

الكعبة أبا حجار، وأخذت جماله الأبكار، لأنّ كلامات العرب ما قلّت، ومعانيها ما استقلّت، ولكن، يا للعرب! في الشعر دليل على أنّ فرسك تتبع فرسه، كما أنّ نفسك تتبع نفسه، فاغتاض حذيفة من كلامه، وحلف أنّه لا أطلق جواده ذلك اليوم، فإنّه يقال بمقال عنتر. ورجعوا ذلك اليوم وقد أضمر الغدر في نفسه.

فلمّا رجعوا عن السباق ذلك اليوم، صاح بهم شيبوب، أخو عنتر، وقال: يا سادات العرب، وأهل الفضل والأدب، بحرمة جدّكم معدّ بن عدنان، اسمعوا منّي هذا الكلام. فانعطفوا عليه الفرسان، ودارت به الشّجعان، وقالوا: قل ما بذلك من المقال، لعلّ مقالك يكون صلاح الحال.

فقال: يا وجوه العرب، هؤلاء قبائل واحدة وبني عمّ، وقد جرى لهم هذه الملاحجة على السّباق، وأنا، وحقّ خالق الأشباح، ومركّب فيها الأرواح، أسبق الجوادين بسرعة الرّواح، وأفرّج الطوائف على هذه الأعصاب الملاح، لكن على شرط <أن> تكون هذه (268) المائة ناقة لي إن سبقت.

فضحكوا أمراء العربان من مقاله، وضمنوا له، وقصدوا الفرجة.

ولمّا عاد شيبوب مع أخيه عنتر، لامه على قوله، فقال: يا ابن الأمّ، لي في مصالح عدّة، الأوله: أنّي أعرف من نفسي، أنّني أسبق الجوادين، وإذا رأت العرب فعلي شهدت لي بذلك، ولا عادت تطمع في لحوقي إذا أنا سرت قدّامهم في المعامع.

ص: 404

ثمّ إنّ حذيفة في تلك الليلة، أدعى بعبد من عبيده، يقال له: دامس، وقال له: يا دامس، ما خيّبتك إلاّ ألمها. وكان يعرف من شدّته أنّه أقوى من الصّخر وأجلد من الأسود. وأوصاه أنّه يكمن للخيل قرب المكان المعروف للسبق. فإذا رأى الغبراء فرسه سابق فلا يبيّن نفسه، وإن رأى داحس سابقها يخرج ويلطمه ويعيده إلى خلفه حتّى تلحقه الغبراء. فقال العبد: يا مولاي، ومن أين أعرف الغبراء من داحس وهما تحت العجاج؟ فأعطاه عدد حصا مجمّعة وعدّه على العبد، وقال: خذ هذا الحصا وارمه إلى الأرض واحدة واحدة عندما ترى الخيل قد أطلقوا، فإذا انتهت الحصا فإنّ الغبراء تأتيك على آخر العدد، وإن بقي شيء من الحصا ورأيت الفرس السابق فهو داحس، فاخرج إليه وافعل ما أمرتك به.

فلمّا كان عند الصباح علو الناس على رؤوس الروابي والشعاب، واجتمعوا الشيوخ والشباب، وأطلقت الأمناء الخيل عند ذهاب الليل، وصاحت عليها ركّابها، وضربت بالسّياط أجنابها، وتقدّمت الغبراء وتأخّر داحس، وصار الفزاريّ يقول للعبسيّ: سبقت يا أخا عبسي، فبشّر نفسك بالعكس وبالنّكسي. فقال العبسيّ: وأيم الله يا نذل فزارة، سوف ننظر من يقع في الخسارة. وصبر حتّى قطع الحجر وصاح على داحس فمدّ قوائمه مثل الإنسان (269) إذا تمطّا، وطلب السهل والوطا، وطار حتّى عاد كأنّه

ص: 405

عقاب، بين تلك الرّوابي والعقاب، حتّى سبق الناظر، وخيّل لراكبه أنّه على الفلك الدائر، وترك الغبراء خلفه وهي لا تدرك له غبار، حتّى غاب عن النواظر والأبصار. وعاد العبسيّ يقول للفزاريّ: أنفذني في رسالة إلى بني بدر، وأوفي ما في عنقك من نذر. هذا، وشيبوب في عراض داحس مثل ريح الشمال، وكلّما رآه قد سبقه يهيم في الربا والآكام، كما يهيم ذكر النّعام، فسبق داحس وصار قدّامه برمية سهام. وما زال كذلك حتّى قارب الشّعب الذي فيه دامس العبد، وكان قد بقي من الحصا أكثر من النصف، ومدّ عينه فرأى داحس قد أقبل مثل البرق إذا خطف، والقطر إذا وكف. فلمّا صار بين يديه عارضه كالعفريت، ولطمه لطمة جبّار عنيد، أو شيطان مريد، على وجهه، فأداره إلى وراة، ومن عظم اللّطمة ارتعد وتتعتع، وكاد راكبه أن يقع. ونظر شيبوب إلى هذا الفعال، فسلّ خنجره ووثب على العبد في صدره، أطلع الخنجر من ظهره، فوقع بخور في دمه. ثمّ همّ أن يعود إلى داحس ويحسن فيه المداراة، وإذا بغبار الغبراء قد أقبل مثل الريح الهبوب، أو الماء إذا جرى من الأنبوب، فخاف لا يعود سبوق، ولا يأخذ لا جمال ولا نوق، فترك داحس ولعب برجليه وانطلق مثل البرق إذا برق، وأتت الغبراء في إثره، وأتا داحس في إثرها ودموعه جارية على خدّيه، وقد فتح منخريه. وجميع الطوايف قد ضجّت في إقبال شيبوب وعجبوا من خفّة ركبه وقوّة عصبه.

ولمّا أقبلت الغبراء من بعده، ارتفعت أصوات بني فزارة فرحا

ص: 406

بالسّبق، وما زالوا كذلك حتّى وصل داحس وفي وجهه أثرا لطمة قد أثّرت في صفحات خدّه، (270) وأخبره راكبه بما جرا، فكادت مرارة قيس تنفطر حنقا، ودمدم عنتر وجرّد حسامه، وأراد أن يهجم على بني بدر، وتصايحت الفرسان، وزمجرت الأبطال، وسلّت السيوف، وغلت الدّماء، وانقلبت الدّنيا، ولا بقي إلاّ أن تحمل العرب بعضها على بعض. فدخلت المشايخ والسادات، وكشفت الرؤوس خوفا على البنين والبنات، ودخلوا بين الجموع، وردّوا الناس بالسؤال والخضوع. وما أمسا المساء حتّى اتّفقوا أن تكون المائة ناقة من مال بني فزارة لشيبوب لأجل سبقه، وخلا حذيفة اللّجاج في طلب المال، لأجل لطمة داحس، وعاد وفي قلبه نار لا تطفى، ولا سيّما لمّا سمع بقتل دامس عبده.

وأما قيس فإنّه رجع وفي فؤاده من أجل لطمة جواده حزازات، وعنتر يقول: أيّها الملك، وحقّ نعمك وصدقات أبوّتك لأفنينّ بني بدر، لأنّهم يطلبون الظّلم والغدر، ولا بقيت أظفر منهم بأحد إلا وسقيته كأس العطب.

وافترقوا، وكلاّ يعظّ كفوفه حنقا. وسيقت النوق إلى شيبوب، فنحر وأولم وأطعم وفرّق على الصعاليك من الطائفتين.

. . . كان بعد أيّام <أن> اجتمعت جهّال بني فزارة إلى حذيفة، وقالوا: كيف تركت رهنك يا با حجار، بالكلام الفشار؟ ولم يزالوا به معما فيه من الخفّة، حتّى أنفذ ولده ندبة، وكان يكنى أبا فراقة، وقال: اذهب

ص: 407

إلى قيس بن زهير وقل له: قال لك أبي: أنفذ إليه سبقه سرّا، وإلاّ آخذه منك جهرا وقهرا وفضحتك بين العربان تارة أخرى. وكان عند شيخ من عقلاء قومه، فقال: يا حذيفة، الله الله! إيّاك والبغي والرجوع إلى كلام الجهّال، وأنشأ يقول (من الرجز):

البغي سيفا يا أبا حجاري

فتّاكة كطوارق الأسحاري

(271)

فاحفظ مضاربه إذا جرّدته

وانصف ولا تلبس لباس العاري

واسأل خبيرا عن ثمود وأهله

لمّا طغوا وبغوا على الأخيار

ناداهم تحت الظّلام فأصبحوا

بين الطّلول شواخص الأبصار

فلمّا سمع حذيفة شعره لم يلتفت إليه، ولعب العجب والبغي في عطفيه، وقال لولده: سر لما أمرتك به!

فسار الصغير إلى بني قيس، فلم يجد قيسا حاضرا، فقالت له المدلّة: يا با فراقة! في أيّ شيء أتيت؟ قال أريد سبقنا وحقّنا. فقالت المدلّة: وأيّ حقّ عندنا؟ ارجع على عقبك واشكر ربّك الذي ما رآك قيس. فرجع ندبة إلى أبيه وأخبره الخبر. فغضب وقال: يا ويلك! رجعت بالذلّة من كلام المدلّة!

فلمّا رجع قيس إلى أبياته آخر النهار عرّفته زوجته، وكان ثملا من شرب العقار، فلعب الشرّ في جميع أعضائه. ثمّ قال: لعن الله أبوه! والله لو كنت حاظر ما تركته يعود ينظر أمّه أبدا.

فلمّا كان من الغد، إذا بندبة قد حضر ووقف وما سلّم، وقال: يا

ص: 408

قيس، يقول لك أبي: أوصله حقّه وأنت جليل، وإلاّ أخذه منك وأنت ذليل. فزاد غضب قيس، وقال: يا ويلك يا ابن اللحنا! ولمثلي يقال هذا المقال؟ وضربه بحربة كانت في يده قضى عليه. وكان عنتر جالس بين يديه، فشدّ ندابة على فرسه عرضا وهو قتيلا، وزعق على الجواد، فعاد به إلى بني فزارة. فلمّا رأوه، صاحت النّسوة وانقلب الحيّ بالصياح، وحرق حذيفة أثوابه، وعلا بكاه وانتحابه، وصار يدور بين البيوت ويصيح:

والتراب أبا فراقة! الثأر الثأر!

وركبت فرسان بني فزارة وأحلافها، وكذلك بني عيس، ووقعت العين على العين ولا بقي إلاّ اصطدام الخيل. فدخلت مشايخ القبيلتين مكشّفين الرّوس، حفاة الأرجل. ولم يزالوا كذلك حتّى تقرّر بينهم الحال، على أن قيس يقوم بدية (272) ندبة بن حذيفة. وحمل المال، وانفصل الحال، وافترقوا عن مضض.

ثمّ إنّ حذيفة جمع إخوته واستشارهم في الغدر ببني عبس، فقال له أخوه حمل بن بدر: يا حذيفة، احذر البغي، ثمّ أنشأ يقول (من الطويل، مع خلل في الوزن):

وحقّ الّذي أرسى الجبال بلا حسبي

لإن أنت لم تقبل فداء بني عبس

ص: 409

لتصطبحن كأسا مريرة

من السّمهريّات المثقّفة الملس

أغرّك أن قالوا: حذيفة سيّد

فكن سيّدا نفديك بالمال والنّفس

وخلّي جواد البغي لا تركبنّه

فيرميك في بحر من التّعس والنّكس

نهيتك عن قيس وقيس نهيته

ولكنّ خبرا المقدور بالسّعد والنّحس

حذيفة ترك الحرب عندي نصيحة

ولا سيّما حرب الفوارس من عبس

ودعهم لنا حصنا إذا مالت العدا

علينا صباحا بالمسوّمة الخرسي

وإن كان قيس غادر في فعاله

فأنت الّذي علّمته الغدر بالأمس

فلمّا سمعت القبائل مقاله شكروه على ذلك، وألزموا حذيفة بأخذ الفداء. ولمّا أراد حذيفة العبور إلى منزله وجد زوجته قد حوّلت باب الخباء. وهذا كان عادة نسوان العرب إذا أرادوا طلاقهم من أزواجهنّ. ثمّ قالت: وحقّ اللاّت والعزّى وهبل الأعلا، لا كنت لي بعد هذا اليوم بعلا.

ورآها قد والاها شبه الجنون وهو تنشد وتقول (من الوافر):

أيقتل واحدي قيس وترضى

بأموال ونوق سارحات

ص: 410

أما تخشى إذا قالوا الأعادي

حذيفة قلبه قلب البنات

فدع ما قاله حمل بن بدر

فكلّ مقدّر لا بدّ يأتي

وخذ ثأري بأطراف العوالي

وبالبيض الحداد المرهفات

(273)

وإلاّ خلّني أبكي نهاري

وليلي بالدّموع الجاريات

لعلّ منيّتي تأتي سريعا

وترميني سهام الحادثات

أحبّ إليّ من بعل جبان

فإنّ حياته بئس الحياة

فوا أسفي على المقتول ظلما

وقد أمسا طريحا في الفلات

ترى طير الأراك ينوح مثلي

على أعلى الغصون المائلات

وهل يجد الحمام مثل وجدي

إذا رميت بسهم من شتات

فيا يوم الرّهان فجعت فيه

بشخص جاز حدّ الصّفات

فلا زال الصّباح عليك ليلا

ووجه البدر مسودّ الجهات

ويا خيل السّباق سقيت سمّا

مداف في المياه السّارحات

ولا زالت ظهورك مثقلات

بأحمال الجبال الرّاسيات

فلمّا سمع حذيفة هذه الأبيات، بكى حتّى كاد يغمى عليه. وزادت به الأحزان والحسرات، وقال لزوجته: قري عينا، وطيبي قلبا! فإنّي قد جعلت على بني زهير الأرصاد والعيون، ولست بقانع منهم بمال، ولا نوق ولا جمال، ولا بدّ من أخذ ثأر ولدك من إحدى بني زهير، وإنّما هذا أمر

ص: 411

أخفيناه حتّى لا يشيع عنّا فيخرج عن أيدينا.

ومن ذلك العهد جعل له الأرصاد والعيون في بني عبس، حتّى كان عرس مالك بن زهير في بني غراب. وسار إلى بني غراب في أفراس قليلة من بني عبس، أمن من طوارق الحدثان، ونوائب الزمان. فلمّا كان في صبيحته قبل طلوع الشمس لم يشعر إلاّ بخيول بني فزارة يتقدّمهم حذيفة بن بدر. فخرج مالك من خباه في ثياب مصبّغات التي كان نائما بها مع عروسه. فلمّا دهمته الخيل لم يمهل إلى لبس عدّة حرب، فكبا به الفرس في بعض أطناب البيوت، فرماه على أمّ رأسه، وبادره حذيفة بن بدر فضربه على عاتقه، نزل (274) السيف إلى معالقه، فخرّ صريعا. فلمّا رآه حذيفة جديلا ملقا، ألوى عنان فرسه وطلب دياره. وقام الصائح في بني غراب، وقتلت مع مالك ثلاث نفر من بني عبس ممّن كانوا أتوا معه في العرس.

وخرجت زوجة مالك بن زهير ووضعت رأسه في حجرها وقبّلت عوارضه وأنشدت (الوزن مضطرب وغير واضح):

أبكيك لا للنّعيم والأنس

بل للمعالي والرّمح والفرس

أبكي على سيّد فجعت به

أرملني يوم صبحة العرس

إذ خرّ ملقا فوق التّراب مجدّلا

مضمّخ بالنّجيع منغمس

ص: 412

يا ليتني كنت قبل مصرعه

شربت كأس الحمام في نفس

كلّ صباح يأتي من بعد طلعته

تراه عيني في ظلمة الغلس

ثمّ كان بينهم بعد ذلك وقائع وحروب، شيّب الأطفال في المهود.

ثمّ إنّ عنتر ترصّد لبني فزارة حتّى ظفر بعشرة فوارس من بني فزارة، يقدمهم حمل بن بدر وعوف بن بدر، إخوة حذيفة بن بدر. فلمّا ظفر بهم،. قال لحمل بن بدر: انج بنفسك، فأنت أعقل قومك. ثمّ طعن عوف بن بدر، فأنفذ السّنان مع كعبين من الرّمح من ظهره، ثمّ كرّ على بقيّة الفزاريّين فقتلهم جميعا، وهو يقول: بالثأر خليلي مالك بن زهير.

. . . كان بينهم مداعات للحرب، فالتقوا على ماء يقال له: آرك، فأقاموا في الحرب خمسة أيّام، وكانت لعبس على فزارة، حتّى كادت فزارة تفنا بأجمعها. فخرجت مشايخ فزارة مكشّفين الروس، عراة الأجساد، مستغيثين بقيس حتّى رفع عنهم السيف، وأخذ برهائنهم وهم مائة وعشرين فتا من أولاد سادات فزارة.

وفعل عنتر في تلك الحروب ما يحيّر النّواظر، ويبلبل الخواطر.

وهذا هو حرب داحس المشهور والذي ضربت به الأمثال، بعد حرب البسوس المقدّم ذكره، والله أعلم.

ص: 413

(275)

ثمّ كان بينهم وقعة جبال الرّدم، واصطلحوا، وأقاموا مدة كانت بينهم فتنة الحصين بن ضمضم، وكان من وجوه بني فزارة، وهو ابن خالة حذيفة بن بدر. وإنّه ركب طالب الصيد، فمرّ بمراعي بني عبس، فرأى طالب أخو الربيع بن زياد تحت شجرة يشرب فضلة خمر كانت معه وهو مضطجع وقد رفع صوته يغنّي، وجماله ترعى حوله. فقال له الحصين الفزاريّ: ويلك يا ابن زياد! أمنت وطربت. فقال له طالب: وكيف يا حصين لا أطرب وسيوفنا حداد، ورماحنا مداد، والنّصر عاداتنا، مخيّم على أبياتنا؟! فلمّا سمع الحصين كلامه ثارت فيه الحميّة الجاهليّة وطعنه في حربته صلب العود فيه، وخلاّه ملقى ومضى إلى أهله، ودخل على حذيفة بن بدر فعرّفه، فاستجاد فعله. ومن يومه جمع حشوده وحلفاءه.

ثمّ إنّ بني عبس استجاشت. ثمّ كانت بينهم وقعة ذات الإصاد، وكانت لعبس على فزارة، وقتل عنترة الحصين بن ضمضم مبارزة. وكسروا بنو فزارة كسرة عظيمة لا انجبار لها، وتفرّقت عنها حلفاها وجموعها.

وعادوا بني عبس منصورون. فوجدوا الأحياء في صياح ونواح. فكشفوا عن ذلك، فوجدوا تماضر، أمّ قيس بن زهير، قد سباها حمل بن بدر، أخو حذيفة. ولمّا خافت الفضيحة رمت نفسها على صخرة فأخلطت

ص: 414

دماغها، وهي بين الإماء يندبونها. فلمّا عاينوا بنوها ذلك طلبوا آثار بني بدر بعدما كانوا قد عفوا عنهم. فلحقوهم على جفر الهباءة، وهو ماء قريب من ديارهم. وكان لحذيفة بن بدر ولد يقال له حصن، جميل الصورة، وكان أبوه لمّا نزل هو وإخوته على الماء، علموا أنّ بني عبس تدركهم هناك، وحقّقوا الموت. فقال لولده: هذا آخر العهد منك، ولا تغفل عن ثأر أبيك وأعمامك، فأنا أعلم أنّ قيس يبقي عليك بما أوصيك أن تفعله، وذلك إذا رأيت <أنّهم> قد أتوا علينا ولم يبق غيرك، فارتمي على أقدامه وقل له:

يا عمّ، لا تدع أحدا يقتلني غيرك. وامتدّ قدّامه على (276) حفير الوادي.

فهو معه في الكلام، وإذا قد طلع عليهم خيول بني قيس، يتقدّمهم قيس بن زهير وإخوته وبني زياد، وعنتر بن شدّاد، في جماعة بني قراد، وقيس ينادي برفيع صوته: لبّيك لبّيك يا والدتاه، لبّيك لبّيك يا أخاه! ثمّ قال: يا بنو بدر، إلى كم هذا الجور والعناد والبغي؟! ها قد حلّت بكم النوائب، وعن قليل تندبكم النوادب. فصاح به حصن: يا عمّاه، هذا وقت المعروف يا طيّب اللّبن. فلطمه أبوه أرداه على قفاه، وقد استقتل. وقال:

يا بني زهير، دونكم وما تشاوا، فوحقّ ألاّت والعزّى، لو ظفرنا بكم ما أبقيناكم وإنّ أبقيتمونا، فاغتنموا فرصة الدّهر، ودعونا من المحاورة،

ص: 415

فوحقّ الكعبة الحرام، وهبل والمقام، لا دافعنا عن أنفسنا ولا جرّدنا سيف ولا أحدبنا سنان.

عندها ترجّل قرواش ابن عمّ قيس وفي يده حربة قاضية، فهزّها وضرب بها حذيفة في صدره أطلعها من خرزة ظهره. فلمّا مال، نزل الحارث بن زهير، وفي يده سيف أخيه مالك، فحزّ به رأسه وأخذه بيده ونادى: يا لثارات مالك بن زهير. ثمّ أنشأ يقول (من الوافر):

فلو نبش المقابر عن أخينا

وعاين يومنا ذا لم نبالي

فليت الأرض تنقب عنه حتّى

يعاين يومنا ويرا فعالي

تركنا بالهباة سراة بدر

يمجّون المنايا بالعوالي

حذيفة والفتا حمل أخاه

ومالك مع زيد مع بلال

تركناهم بأرض الجفر صرعا

بأسياف مهنّدة صقال

قتلناهم وعزّ عليّ يوما

تنالهم المنيّة بالمنال

سراة النّاس كانوا أين حلّوا

وأسد الحرب في يوم المجال

بغوا والبغي يترك كلّ أرض

قفار لا تعزّ على سؤال

فلمّا أبصر الرّبيع فعال الحارث، صاح: واحرباه يا طالب! ثمّ ترجّل إلى حمل (277) بن بدر وطعنه صلب الرمح فيه وقطع رأسه، وأنشأ يقول

ص: 416

(من الوافر):

سقينا بالهباة سراة بدر

كؤوس الموت من بيض وسمر

أدرناها عليهم مرهفات

فمالوا بالغلاة بغير سكر

وكانوا أعظم المقلين جمعا

وأقوى عزمة في كلّ أمر

ومنها يقول:

وفينا بالعهود لهم فخانوا

وجازونا بإسراف وغدر

وغرّهم الزّمان فخادعونا

وصرف الدّهر يخدع كلّ حرّي

ونحن الخاسرون بما فعلنا

فوا أسفي على أولاد بدر

قطعت بقتل سيّدهم نباتي

ولكنّي شفيت غليل صدري

وتقدّم عمرو بن الأسلع وقتل مالك بن بدر، وتتابعت الفرسان وأصحاب الثارات وقتلوا بقيّتهم حتّى امتزج الجفر بالدّماء. هذا وقيس يبكي حتّى بلّ بردته، ونزل عن جواده ينادي: وا حسرتاه عليكم يا بني الأعمام. ثمّ أنشأ يقول (من الخفيف، مع اضطراب في بعض الأبيات):

إنّ يوم الهباة أورثني الذّ

لّ وأصبحت ظالما مظلوما

يوم قتلي سراة آل بدر .... . وكانوا للعالمين نجوما

فجعوني بمالك بن زهير

فحملت الأسى له والهموما

ص: 417

فقتلت الجميع كيما لأطفي

بدمائهم ناري فزدت سموما

ليتني كنت قبل فقد بني بد

ر قتيلا أو قد فقدت النّعيما

لطموا داحس حذر السّبق

لقد كان داحس مشوما

ظلمونا بفعلهم وظلمنا

معشرا كان يومهم محتوما

فلمّا فرغ قيس من شعره، طلع إليه حصن بن حذيفة وارتما على أقدامه يقبّلهما ويبكي، وقد انخلع قلبه ممّا عاين في قومه، وكان صبيّا. ثمّ نادا: يا عمّاه، (278) بدم أبيك زهير وأخيك مالك، إن كان قلبك بعد ما اشتفا، وقد عوّلت أن لا تبقي منّا أحدا، فاذبحني أنت بيدك لعلّ تشتفي كبدك. ثمّ سلّم إليه سيف أبيه حذيفة، وانضجع قدّامه على التراب. فلمّا عاينه قيس كذلك، صاح: واكرباه يا ابن الأخ! وضمّ حصن إلى صدره وصار يقبّله ويبكي ويقول: والله لو فعلت هذا الفعال قبل قتل أبيك وأعمامك ما كان نالهم هذا المنال، ولكن جرى عليهم حكم القضاء، وأنت المقدّم عليهم بعد أبيك. ثمّ عادوا إلى ديارهم وهم لا يغبّوا على طريق.

وهذا آخر ما وقعت عليه من أخبار حرب داحس، رواية الأصمعيّ، والله أعلم.

ص: 418