الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالعصا. فكانت تفعل ذلك فيتدارك ويتلافى حكمه. وله قضايا ونوادر مشهورة ليس هنا مكانها.
وأمّا السبب في قتل طرفة بن العبد فكان قد هجا عمرو بن هند، ثمّ مدحه. فحقد عليه وأراد قتله. فكره أن يقتله بمحضر بكر بن وائل، وخاف أن يهجوه المتلمّس لأنّه خاله، فكتب لطرفة وللمتلمّس إلى المعكبر، عامله على البحرين، كتابين بقتلهما جميعا. وقال لهما: اذهبا اقتضاء صلاتكما من هناك. فأمّا المتلمّس فدفع صحيفته إلى غلام من أهل الحيرة، فقرأها عليه، فوجد فيها الشّرّ، فنبذها في النّهر، وقال لطرفة: فكّ صحيفتك، ففيها والله ما في صحيفتي. فأبا، وقال: ما كان ليجسر عليّ. ومضى، فقتل، والله أعلم.
ذكر الأعشى، جاهليّ
هو ميمون بن قيس ابن أسد بن ربيعة، ويكنى أبا نصر. وكان يقال لأبيه: قتيل الجوع. وسمّي بذلك لأنّه دخل غارا ليستظلّ به من (324) الهاجرة، فوقعت صخرة من الجبل فسدّت الصغار، فمات جوعا. وهو أحد الأعلام من شعراء الجاهليّة وفحولها.
وعن المدائنيّ، قال: أجمع الرواة على أنّ ما لأحد من الشعراء ما للأعشى من التصرّف في فنون الشعر. وقال: هو أوّل من سأل بشعره، ويسمّى: صنّاجة العرب.
قيل: ولم يكن له مع جودة شعره بيت نادر يمثّل به، كأبيات أصحابه امرئ القيس والنّابغة وزهير.
وقال المدائنيّ: قصد الأعشى الوفود على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد مدحه بقصيدة أوّلها يقول (من الطويل):
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
…
وبتّ كما بات السّليم مسهّدا
وساق منها ما وصل إلينا بعد ذكر تمام الخبر، فبلغ الخبر قريشا، فرصدوه على طريقه وقالوا: هذا صنّاجة العرب، ما مدح أحدا قطّ إلاّ ورفع من قدره وسما من شأنه. فلمّا ورد عليهم قالوا: يا أبا نصر، أين تريد؟ قال: أريد صاحبكم هذا لأسلم على يديه. قالوا: إنّه يحرّم الطّيّبين: الزنا والخمر. فقال: أمّا الزنا، فقد تركني قبل ما تركته، وأمّا الخمر فقد خلّفت وراي صبابة، وإنّي لأرجع فأمتنع بها أو منها وأعود.
وقيل: إنّ أبا سفيان بن حرب قال: يا معشر قريش، هذا الأعشى والله لإن أتا محمّدا واتّبعه ليضرمنّ عليكم نيران العرب بشعره، فاجمعوا له شيئا وادفعوا به. فجمعوا له مائة بعير. فقبلها ورجع طالبا أهله، فرمى به بعيره، فدقّ رقبته، فخابت سفرته، وخسرت صفقته.
قلت: وهذا أحقّ بأن تسمّيه العرب: الضائع، لا رفيق امرئ القيس.
وأمّا تمام الأبيات فهذه (325):
وما ذاك من عشق النّساء وإنّما
…
تناسيت قبل اليوم خلّة مهددا
كهولا وشبّانا رزئت وثروة
…
فلله هذا الدّهر كيف تردّدا
وما زلت أبغي المال مذ كنت يافع
…
وليدا وكهلا حين شبت وأمردا
وأبتذل العيش المراء قبل يعتلي
…
مسافة ما بين النّجير فصرخدا
ألا أيّهذا السّائلي أين يمّمت
…
فإنّ لها في أهل يثرب موعدا
واليت لا أرثي لها من كلالة
…
ولا من وجى حتّى تزور محمّدا
نبيّ يرى ما لا ترون وذكره
…
لعمري غار في البلاد وأنجدا
له صدقات ما تغبّ ونائل
…
وليس عطاء اليوم مانعه غدا
أجدك لم تسمع وصاة محمّد
…
نبيّ الإله حيث أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى
…
ولاقيت بعد اليوم من قد تردّدا
ندمت على أن لا تكون كمثله
…
فترصد للأمر الّذي كان أرصدا
فإيّاك والميتات لا تأكلنّها
…
ولا تأخذا سهما حديدا ليقصدا
وذا النّصب والمنصوب لا تنسكنّه
…
ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
وذا الرّحم القربى فلا تقطعنّها
…
لعاقبة ولا الأسير المقيّدا
وسبّح على حين العشيّات والضّحى
…
ولا تحمد الشّيطان والله فاحمدا
وهي قصيدة طويلة، وهذا ما حضرنا منها جهد المحفوظ.
ومن قول الأعشى أيضا (من البسيط):
ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل
…
وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل
غرّاء فرعاء مصقول عوارضها
…
تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
كأنّ مشيتها من بيت جارتها
…
مرّ السّحابة لا ريث ولا عجل
ليست كمن يكره الجيران طلعتها
…
ولا تراها لسرّ الجار تختتل
(326)
وروي أن هذه الأبيات أنشدت بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
إن كانت بهذه الصفة فما يطيق وداعها.
وللأعشى من قصيدة هذا أوّلها (من المتقارب):
لعمرك ما طول هذا الزّمن
…
على المرء إلاّ عناء معنّ
يظلّ رجيما لريب المنون
…
وللسّقم في جسمه والحزن
وما إن أرى الموت فيما خلا
…
يغادر من سارح أو يفن
أزال أذينة عن ملكه
…
وأخرج من حصنه ذا يزن
وخان الزّمان أبا مالك
…
وأيّ امرئ لم يخنه الزّمن
وزار الملوك فأفناهم
…
ونحن بإثر الّذي قد طعن
ولكنّ ربّي كفى غربتي
…
بحمد المليك فقد بلّغن
أخي ثقة عال كعبه
…
جزيل العطايا قليل المنن
طويل النّجاد رفيع العما
…
د سهل المباءات رحب العطن
كريم شمائله من بني
…
معاوية الأكرمين السّنن
فإن تتبعوا أمره ترشدوا
…
وإن تسألوا ماله لا يظنّ
يطوف العفاة بأبوابه
…
كطوف النّصارى ببيت الوثن
ومن مليح شعره في الغزل (من السريع):
عهدي بها في الحيّ قد سربلت
…
هيفاء مثل المهرة الضّامر
قد نهد الثّد على صدرها
…
في مشرق ذي صبح نائر
لو أسندت ميتا إلى نحرها
…
عاش ولم ينقل إلى حافر
حتّى يقول النّاس ممّا رأوا
…
يا عجبا للميّت النّاشر
ومن شعره أيضا (327، من البسيط).
كن كالسّموأل إذ سار الهمام به
…
في جحفل كسواد اللّيل جرّار
بالأبلق الفرد من تيماء منزله
…
حصن حصين وجار غير غدّار
فشكّ غير كثير وقال له:
…
اقتل أسيرك إنّي مانع جار
وسبب هذه الأبيات أن امرأ القيس لمّا عبر بالسّموأل بن عادياء اليهوديّ وهو في حصنه الأبلق الفرد، متوجّها إلى قيصر، ملك الرّوم، كما
تقدّم من خبره، أودع السّموأل ثقله وكراعه، فبلغ الحارث بن أبي شمر الغسّاني، وهو الحارث الأكبر، فبعث يطلب من السموّل وديعة امرء القيس، فأبى عليه. وكان للسموأل ولد خارج الحصن يتصيّد، فقطع عليه الحارث الطريق فأخذه ونزل على السموأل وقال: تعطيني وديعة امرئ القيس وإلاّ قتلت ولدك صبرا وأنت تنظر. فقال أنظرني. ثمّ نفذ إليه يقول:
الولد منه العوض، والغدر لا يغسله عنّي شيئا، فاصطنع ما شئت أن تصنع.
فقتل ولده صبرا بمرأى من أبيه من أعلا حصنه. فلذلك قول الأعشى:
فشكّ غير كثير ثمّ قال له
…
اقتل أسيرك إنّي مانع جار
وضرب المثل بحسن وفائه.
وقيل: أنشد بحضرة عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، هذين البيتين في السموأل، فقال عمر: وددت أنّهما عشرة أبيات على هذا النّسق، لشدّة إعجابه بهما.
قلت: والسموأل هذا صاحب القصيدة الّتي أبنتها في كتابي المسمّى بحدائق الأحداق ودقائق الحذّاق في باب الافتخار، أوّلها يقول (من الطويل):
إذا المرء لم يدنس من اللّؤم عرضه
…
فكلّ رداء يرتديه جميل
منها يقول:
تعيّرنا أنّا قليل عديدنا
…
فقلت لها إنّ الكرام قليل