الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونصب الله شجرة الحياة وسط الجنّة، وقال لآدم: كل ما شئت إلاّ منها، فإنّك تموت يوم تأكل منها. وقال الحسن البصريّ: لم يكن له بدّ أن يأكل منها، لأنّه خلق للمقام في الأرض.
فصل في احتيال إبليس على دخول الجنّة
قال الله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها} الآية. قال ابن عبّاس: أي حملهما على الزلّة. وقرأ الأعمش: فأزلّهما الشيطان عنها، أي نحّاهما عن الطاعة والجنّة، فأخرجهما ممّا كانا فيه من النعيم.
واختلفوا في كيفيّة دخوله إلى الجنّة. قال الحسن البصريّ، رحمه الله: وقف على باب الجنّة وناداهما، لأنّه كان ممنوعا من دخولها، بقوله تعالى:{اُخْرُجْ مِنْها} . وقال ابن عبّاس، رضي الله عنه: إنّما احتال بطريق الحيّة، وكانت من أحسن دوابّ الجنّة، ولها جناحان كجناحي الطّاووس ولون جلدها لون السّندس والإستبرق، وكانت من خزّان الجنّة تدخل إليها وتخرج، وكانت صديقة لإبليس، فخرجت ذات يوم فتعرّض لها وخدعها
وقال لها: قد اشتقت إلى الجنّة. فقالت: أنت مطرود عن الجنّة، فكيف أدخلك إليها؟ فقال: وما يضرّك؟ فإنّي مطرود عنها حيث لم أسجد لآدم، فأدخليني لأسجد له، لعلّ الله أن يرضى عليّ. ففتحت فاها، فوثب فقعد على ناب من أنيابها، ومرّت به على (33) الخزنة، فأنساهم العلم السابق والقدر المحتوم أن يفتقدوا ناب الحيّة، فدخلت به.
وكان آدم لمّا رأى نعيم الجنّة قال: لو أنّ لنا خلدا! فأتاه من قبل الخلد، فجاء فوقف بين يدي آدم وحوّاء وهما لا يعلمان أنّه إبليس، فناح عليهما نياحة أحزنتهما-وهو أوّل من ناح، فقالا له: ما الذي بك؟ وما يبكيك؟ فقال: أبكي عليكما، تموتان وتفارقان هذا النعيم. فوقع ذلك في نفوسهما واغتمّا، ومضى عنهما، ثمّ جاءهما بعد ذلك فقال:{يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى} فقال: إنّ ربّي نهاني عنها، {وَقاسَمَهُما} أي حلف لهما {إِنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ} فاغترّا. قال ابن عبّاس: ما ظنّ آدم أنّ أحدا يحلف بالله كاذبا. فبادرت حوّاء إلى الأكل من الشجرة، ثمّ ناولت آدم فأكل منها.
وقال مقاتل <بن سليمان>: قال لهما إبليس: ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة إلاّ حسدا لكما، لأنّه علم أنّكما متى أكلتما منها علمتما الغيب وزاحمتماه في ملكه.
وقال مجاهد: جاء إبليس وذكر ألفاظا رقيقة معناها يقول (من البسيط):
يا عين أبكي على زهراء طاهرة
…
نقيّة العرض من عار ومن دنس
خود مكرّمة في الخلد زاهرة
…
كأنّ غرتّها المصباح في الغلس
ماتت ومات التّقيّ المصطفى فأرى
…
الجنّات موحشة من جيرة الإنس
فقالت حوّاء: من هما؟ فقال: أنتما. فخافا. فحلف لهما لإن لم يأكلا من هذه الشجرة ليموتنّ، وحلف لهما سبعين يمينا، فذلك قوله:
{وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ} . قال مقاتل: فأخذت حوّاء من الشجرة خمس حبّات، فأكلت اثنتين وأخفت ثلاثا، قال: فلذلك صار النساء يسرقن. وفي رواية عنه: إنّها أخذت سبع حبّات، فدفعت إلى آدم (34) حبّتين، وقالت: إنّما أخذت واحدة، فلذلك صار للذّكر مثل حظّ الأنثيين. وقال مقاتل أيضا: تقدّمت إلى الشجرة فأكلت منها، ثمّ قالت: يا آدم، قد أكلت فلم يضرّني، فتقدّم فأكل.
وحكى <أبو إسحاق> الثّعلبيّ، رحمه الله، في تفسيره عن سعيد بن المسيّب: أنّه كان يحدث ويحلف بالله، لا يستثنى أن آدم ما أكل من الشجرة وهو يعقل، ولكن حوّاء سقته الخمر حتّى سكر، ثمّ قادته إلى الشجرة فأكل منها.
قلت: والعجب من حكاية الثّعلبيّ مثل هذا عن ابن المسيّب، وهو إمام، وفيه العلم والزهد والورع والتحرّز في أقواله عن مثل هذا. وقد اتّفق العلماء، رضي الله عنهم، على أنّ خمر الجنّة لا يسكر ولا يذهب بالعقل.
قال الله تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ} وقال: {يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ} وهو السكر. والمراد من الخمر هو حصول اللذّة المطربة، وذلك حاصل في الجنّة بدون السكر، فإنّه مباح لأهل الجنّة مع بقاء عقولهم، وبهذا فارق خمر الدنيا.
وإنّما اللائق بحال آدم أنّه إنّما أكل من الشجرة متأوّلا لا للكراهة دون التحريم، وذلك قبل النبوّة، لأنّه نهي عن شجرة فأكل من جنسها ظنّا منه أنّ المراد غير تلك الّتي نهي عنها، لا الّتي أكل منها، على أنّ الله تعالى قد عذره بكونه أكل ناسيا، فقال:{وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} .
فإن قيل: فإن كان آدم تعمّد فمعصيته كبيرة، والكبائر لا تجوز على الأنبياء، وإن كان نسي فالنسيان معفوّ عنه، فكيف وقعت المؤاخذة؟ فالجواب من وجوه ذكرت، أحدها: أنّ الأنبياء قد أمروا بتجويد الحفظ، ومثل آدم لا يسامح. الثاني: لأنّه خالف، ومخالف الأمر يعاقب وإن كان ناسيا، فإنّ (35) من طلّق امرأته ناسيا أو ساهيا أو هازلا وقع طلاقه.
فالنسيان معفو عنه في رفع الإثم دون المؤاخذة، وهذا معنى قوله، صلّى الله عليه <وسلّم>:«عفي لأمّتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . الثالث، أنّ بعض العلماء قال: إنّه أكل متأوّل للكراهة دون التحريم.
وقال قتادة: لمّا أكلا منها بدت لهما سوآتهما وولّى آدم هاربا يستتر بورق الجنّة، فناداه الله:«يا آدم، أفرار منّي؟» قال: لا يا ربّ، بل حياء منك. فقال:«يا آدم، أخرج من جواري، فإنّ من عصاني لا يجاورني في داري» . فقال: يا ربّ، هل بعد هذا العتاب رضا؟ قال:«نعم» . فقال:
الحمد لله.
وقال الرّبيع بن أنس: امتنع من الخروج من الجنّة، فجاءه جبرائيل فجذب بناصيته للإخراج، فقال بالأمس تسجد لي واليوم تسحب بناصيتي؟ أرفق بي، فقال: لا أرفق بمن عصى الله.
وذكر في التوراة وقال، قال الله تعالى: أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها. فقال: إنّ المرأة أطعمتني. وقالت المرأة: إنّ الحيّة أطعمتني، يعني أنّ إبليس كان يخاطبها على لسان الحيّة، وهو قاعد على نابها. فقال الله للحيّة: من أجل فعلك هذا أنت ملعونة، وعلى بطنك تمشين، وتأكلين التراب، وسأغري بينك وبين ولد المرأة فيطأ رأسك وتلدغين عقبه. وقال لآدم: أخرج من مشرف جنّة عدن إلى الأرض التي أخذت منها. وقال الله لحوّاء: أنت التي غررت الرجل، وعزّتي لأعاقبنّك بالحيض والنّفاس
والولادة ونقصان الشهادة، ولا تحملين إلا كرها ولا تضعين إلاّ كرها. ثمّ مسخ الحيّة على هذه الصورة، وسنذكر عقوبة كلّ منهم بعد ذلك.
وقال وهب: كان لباس آدم في الجنّة الظّفر يزداد كلّ يوم جدّة وحسنا، (36) فلمّا أخرجه من الجنّة ألبسه الجلود والصوف. وكان آدم أمردا فعوقب بإنبات اللّحية.
وقال أحمد بن حنبل: حدّثنا عبد الرّزاق عن معمّر، ينتهي الحديث إلى أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألتقى آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنّة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه، وأنزل عليك التورية؟ قال: نعم. قال: أتلومني على أمر كان قد كتب عليّ قبل أن أفعله؟ -أو قال: قبل أن أخلق؟ -قال: فحجّ آدم موسى مرّتين» ؛ أخرجه في الصّحيحين.
فإن قيل: فلم لم تعاقب حوّاء قبل آدم عند الأكل؟ فالجواب من وجوه، أحدها: أنّها لو عوقبت في حالة الأكل قبل أن يأكل آدم، لتوقّف عن الأكل، وأخطى علم الله فيه وإرادته وسرّه الخفيّ، فلمّا وافقها، ظهر علم الله فيه. والثاني: لأنّ حوّاء كانت ضعيفة، فلم تقدر على العقوبة،
ولم تحتملها، بخلاف آدم لأنّه كان قويّا. والثالث: أنّها عوقبت بما يليق بها من الحيض وأمثاله، وهنّ عشرة خصال كما يذكر منهنّ.
فإن قيل: فآدم وحوّاء اشتركا في المعصية، فلم لم تذكر معه في التوبة؟ فالجواب من وجهين، أحدهما: أنّ العرب إذا كان فعل الاثنين <واحدا> جاز أن يذكر أحدهما، ويكون المعنى لهما، لقوله:{وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} ، وكقوله:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ} ونحو ذلك.
وقد قالت المعتزلة وجهم بن صفوان: إنّ الجنّة التي سكنها آدم إنّما كانت بستانا من بساتين الدّنيا في جزيرة سرنديب، ولهذا يسمّى آدم السرنديبيّ، واحتجّوا بقوله تعالى:{وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ} فمن دخلها يستحيل عليه الخروج منها، (37) لأنّها دار راحة، لا يكون فيها ابتلاء ومحن. ولنا أن نقول: إنّ الله وصف الجنّة التي أخرج منها آدم بأوصاف لا تكون لبساتين الدنيا، على ما ذكرناه فيما تقدّم. وأمّا الآية، فآدم ما دخلها للثواب، ومن دخلها للثواب لا يخرج منها أبدا. ألا ترى أنّ رضوان وبقيّة الخزّان يدخلونها ويخرجون منها؟ وقولهم: دار راحة، قلنا: ودار تكليف <لإجماعنا على أنّهم مكلّفون> فيها بمعرفة الله، عز وجل.