الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ}
اختلفوا فيه على أقوال، أحدها: إنّي أعلم أنّه سيكون من ذرّيّته أنبياء وعلماء وصالحون. قاله ابن عبّاس، رضي الله عنه. الثاني: إنّني أعلم أنّه سيكون من ذرّيّته من يذنب فيتوب فأغفر له، قاله مقاتل، رحمه الله.
والثالث: إنّني أعلم بوجوه المصالح في استخلافي إيّاهم، فلا تعترضوا عليّ في حكمي وتدبيري. قاله الحسين بن الفضل، رحمه الله. (18) الرابع: إنّني أعلم أنّهم يسفكون الدماء، ولكن بجور رئيسكم.
ذكر خلق آدم، عليه السلام
قال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي موسى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:
«خلق الله آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنوه على قدر ذلك. فمنهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيّب، والسّهل والحزن وبين ذلك» قال التّرمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.
ولهذا اختلفت ألوان بنيه.
وروى عكرمة عن ابن عبّاس، قال: خلق الله الصالحين من عذبها والكافرين من ملحها. وروي عنه أنّه قال: الروم والعرب من الأبيض، والتّرك من الأحمر، والحبش من الأسود. وقال أهل المعاني: الكافر من الأسود، والمنافق من الأحمر، والمؤمن من الأبيض. وقيل: الظالم من الأسود، والمقتصد من الأحمر، والسابق من الأبيض.
وقال أحمد بن حنبل، رحمه الله، حدّث عبد الرّزّاق بإسناده، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه دخل الجنّة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلاّ يوم الجمعة» . انفرد بإخراجه مسلم. هذا قدر ما أخرج في الصحيح. وقد روي فيه زيادات من طريق أبي لبابة بن عبد المنذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«سيّد الأيّام يوم الجمعة، وفيه ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئا إلاّ أعطاه إيّاه، ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم؛ وما من ملك مقرّب ولا جبل ولا أرض ولا سماء إلاّ وهو مشفق من يوم الجمعة أن تقوم فيه الساعة، وفيه توفّي آدم» . ولمسلم عن أبي هريرة (19) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنّه قال:«وخلق الله آدم بعد العصر من يوم الجمعة آخر الخلق، ما بين العصر إلى اللّيل» .
وقال ابن سعد بإسناده عن سعيد المقبريّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الناس ولد آدم وآدم من تراب» .
واختلفوا في من جاء بالطين الذي خلق الله تعالى منه آدم على
قولين، أحدهما: إبليس. قاله ابن مسعود وابن عبّاس. قال: وكذاك قال:
{أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} . ومعناه: أنا جئت به، فكيف أسجد له؟ والثاني: ملك الموت، فروى السّدّيّ عن أشياخه، قال: لما أراد الله تعالى أن يخلق آدم، بعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، ليخلق منه آدم.
فجاء إليها فناشدته الله وقالت: أعوذ بالله منك أن تنقصني وتشينني وتكون سببا لإدخال جزء منّي إلى النار. فرقّ لها جبرائيل واستحيى ورجع إلى الله وقال: إنّها قالت كذا وكذا، واستعاذت بك فأعذتها. فبعث إليها إسرافيل فاستعاذت منه فأعاذها. فبعث إليها ميكائيل ففعلت كذلك. فبعث إليها ملك الموت فقالت له كذاك، واستعاذت بالله منه فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولا أنفّذ أوامر ربّي. فأخذ من وجهها تربة بيضاء وحمراء وسوداء، ولم يأخذ من مكان واحد بل من عذبها وملحها، وكلّ شيء أخذه من عذبها صار في الجنّة، وإن كان ابن كافر، وكلّ شيء أخذه من ملحها صار إلى النار، وإن كان ابن مؤمن. فلمّا جاء ملك الموت بالطين إلى بين يدي الله عز وجل، وأخبره بما قالت وما قال-وهو أعلم-قال الله تعالى:
وعزّتي لأسلّطنّك عليها إذ أطعتني وخالفتها.
(20)
ولا يختلفون أن خلقه يوم الجمعة في آخر ساعة من ساعات النهار، سادس نيسان، وقد تقدم القول في ذلك.
واختلفوا كم أقام مصوّرا على أقوال، أحدها: أربعين سنة، قاله ابن عبّاس. والثاني: أربعين ليلة، قاله الضّحّاك. والثالث: لم يقدّر شيء، قاله
مقاتل. والأوّل أظهر لوجهين، أحدهما: لأنّها تمام الخلق ومنتها الأشدّ، ولهذا لم يبعث الله نبيّا إلاّ بعد أربعين سنة، قاله السّدّيّ. والثاني: لتدور عليه الأفلاك بالنجوم السبعة {فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً} ، فتستحكم أجزاؤه ويكمل خلقه. وقال بعضهم: أمطر عليه الحزن أربعين سنة، والسّرور يوما واحدا.
وقد نصّ ابن عبّاس على أربعين سنة، فقال: خمّر الله طينة آدم قبل التصوير أربعين سنة.
واختلفوا أين صوّره، قال ابن عبّاس: في السّماء على باب الجنّة، المدّة التي ذكرها. وقال السّدّيّ: ألقاه بين مكّة والطائف، وكان إبليس إذا مرّ به فزع وضرب برجله فيظهر له صوت وصلصلة فيزداد فزعه. قال مقاتل: كان يدخل في فيه ويخرج من دبره ويقول: لأمر ما خلقت، ولإن فضّلت عليّ لأهلكنّك. قال مسلم ابن الحجّاج بإسناده عن أبيّ بن كعب وأنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«لمّا صوّر الله آدم تركه ما شاء أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به وينظر إليه، فلمّا رآه أجوف عرف أنّه خلق لا يتمالك» . وقد روي أنّه وكّل به ملك الموت أربعين سنة ثمّ أربعين سنة ثمّ أربعين سنة، حتّى استحكم في مائة وعشرين سنة، فلذلك تقول الأطبّاء:
إن العمر الطبيعيّ مائة وعشرون سنة.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى في موضع {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} (21) وفي موضع آخر {مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ} ومن {حَمَإٍ مَسْنُونٍ} و {مِنْ}
{تُرابٍ} ، فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ فالجواب: إنّ الألفاظ وإن اختلفت فالمعاني قد اتّفقت، لأنّه كان أوّلا ترابا ثمّ صار حماء، ثمّ جفّ فصار صلصالا أو صلصلا، والصّلصلة الصوت كان ينقر فيطنّ ويسمع له صوت؛ واللازب: اللاصق، والحماء المسنون: المتغيّر المنتن، والسّلالة:
القليل ممّا ينسلّ، وآدم استلّ من الأرض.
فإن قيل: فلم خصّ بالتراب خلقه؟ فالجواب: لتكمل به الاستقصّات الأربع، فتجتمع فيه الطبائع الأربع المختلفة. ولم يكن قبله خلق من التّراب، بل من النار والماء والريح.
وذكر الحافظ أبو القاسم في تاريخ دمشق عن سعيد بن جبير، قال:
خلق الله آدم من دحنا ومسح ظهره بنعمان السّحاب. وأخرج ابن سعد بمعناه، فنذكر أرضا يقال لها: دحنا. قلت: لعلها الدهناء، فإنّها أرض معروفة بالسعة. وأمّا (أن) نعمان، فقد ذكرنا جبلي نعمان في باب الجبال في الجزء الأوّل منه.
وقال الحافظ أبو القاسم أيضا: في حديث الحسن البصريّ أنّه خلق جؤجؤة من نقا ضريّة، ومعناه: صدره من رمل ضريّة، وهي منزلة بطريق مكّة من ناحية البصرة واليمامة. وكذا روى ابن سعد عن الحسن.
والجؤجؤ: الصدر، وقال الجوهريّ، ضريّة: قرية لبني كلاب على طريق البصرة، وهي إلى مكّة أقرب. وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنّه قال:
«خلق آدم من تراب الجابية وعجن بماء الجنّة» . قال ابن الجوزيّ، رحمه الله، في الموضوعات: هذا حديث لا يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (22) في إسناده إسماعيل بن رافع، ضعّفه أحمد وابن معين.
وذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه عن عليّ، عليه السلام، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرموا عمّتكم النّخلة فإنّها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم، وليس من الشجر شيء يلقّح غيرها؛ وأطعموا نساءكم الولّد الرّطب، فإن لم يكن الرّطب فالتّمر؛ وليس من الشجر أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران» . قال ابن الجوزيّ، رحمه الله: وهذا أيضا ضعيف.
وقال مسلم بإسناده إلى عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلقت الملائكة من النور {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ} وخلق آدم ممّا وصفت لكم» ، أي من التّراب.
وفي الحديث بالإسناد إلى أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا نفخ في آدم الروح، مارت فطارت فصارت في رأسه فعطس، فقال: الحمد لله؛ فقال الله، عز وجل: يرحمك الله» . وأخرجه ابن سعد عن أبي هريرة قال:
«فلمّا جرى الروح في خياشيمه عطس، فلقّنه الله حمده، فحمد ربّه» . وقد رواه ابن عبّاس وفيه: «يرحمك ربّك أبا محمّد» . قال مقاتل: وهذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين» . وقال سهل بن عبد الله: لمّا قال يرحمك الله، علم أنّه سيذنب، لأنّ الرحمة إنّما تكون بعد الذنب والزّلّة. وقال السدّيّ: لمّا وصلت الروح إلى عينية، نظر إلى الجنّة وما فيها، فوثب قبل أن يصل الروح إلى رجليه؛ فذلك قوله {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} .
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنّه قال: لمّا بلغ الروح عيني آدم ولسانه وأعلاه ولم تبلغ أسفله، قال: يا ربّ، استعجل خلقتي (23) قبل غروب الشمس، يعني من يوم الجمعة؛ فذلك قوله تعالى:{خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} .
وقال ابن سعد بإسناده عن سلمان الفارسيّ وابن مسعود، قال: خمّر الله طينة آدم أربعين ليلة-أو قال: أربعين يوما-ثمّ ضرب بيده فيه، فخرج كلّ طيّب في يمينه وخرج كلّ خبيث في يده الأخرى، ثمّ خلط بينهما؛ قال: فمن ثمّ يخرج الحيّ من الميّت والميّت من الحيّ.
وروى ابن سعد بإسناده إلى وهب بن منبّه، أنّه سمعه يقول: خلق الله آدم كما شاء ممّا شاء، فكان كذلك، {فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} خلق من التراب والماء، فمنه لحمه ودمه وشعره وعظامه وجسده كلّه، فهذا بدء الخلق الذي خلق الله تعالى منه آدم، عليه السلام.
ثمّ جعل فيه النّفس، فبها يقوم ويقعد ويعلم ويسمع ويبصر، ثمّ ركّب فيه الروح فعرف الحقّ والباطل والرّشد من الغيّ.
وقال ابن عبّاس: أتته النفخة من قبل رأسه، فجعلت لا تجري في شيء من جسده إلاّ صار لحما ودما. وروى ابن سعد بإسناده عن إبراهيم قال: قال سلمان: أوّل ما خلق الله من آدم رأسه. فجعل يخلق جسده وهو ينظر إليه، قال: فبقيتا رجلاه عند العصر، فقال: يا ربّ عجّل، فقد حلّ الليل. قال الله تعالى:{خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} أي عجولا.
وقال ابن سعد بإسناده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله خلق آدم بيده» .
فإن قيل: فقد قال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ، فقد ردّ العلم إلى الله تعالى. فالجواب من وجهين، أحدهما: أنّ
اليهود أرادوا امتحان (24) النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فكان سكوته عن الجواب من إمارات معجزاته، لأنّهم قالوا: إن أجاب فليس بنبيّ. والثاني: أنّه لا يسعنا أن نقول: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يعلم سرّ الروح، مع قوله، عليه السلام:
أورثني علم الأوّلين والآخرين، وكان معناه: إنّني لا أخبر من ليس بأهل عن هذا السرّ، كاليهود. أمّا من هو أهل العلم، فنعم، لئلا يقع التناقض بين الآية والحديث.
وإنّما قالوا: إنّه لا داخل ولا خارج ولا متّصل ولا منفصل، لأنّ الدخول والخروج والاتّصال والانفصال من صفات الأجسام، وهو ليس بجسم.
وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله خلق آدم على صورته، طوله ستّون ذراعا، وقال له: اذهب فسلّم على أولائك النّفر من الملائكة وهم جلوس، واسمع ما يجيبونك، فإنّها تحيّة ذريّتك. فجاء، فسلّم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله.
فزادوه: ورحمة الله. فكلّ من يدخل الجنّة على صورة آدم وطوله؛ فلم يزل الخلق ينقص بعد ذلك». أخرجاه في الصحيحين.
ومن تاريخ جدع بن سنان رحمه الله: لمّا خلق الله الروح، وأمرها أن تكون في فخّارة آدم، فنظرت مكانا حرجا ضيّقا، فقالت: يا ربّ، أهذا سجن لي وعذاب؟ فيما أستحقّ ذلك، وأنت العدل الذي لا تحبّ الظلم؟ فقال الله تعالى: «وعزّتي وجلالي، لم أخلق خلقا هو أعزّ عليّ من هذا المخلوق، وإنّك لتنعمي بنعمة في جناني بطاعته لي، وتشقي بشقاه