الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عون. فافتتح مصر وقتل رايمين وأكثر أعوانه-ومولاه لا يعلم بذلك. وظنّ الوليد أن عونا هلك من سحرة مصر. فسار الوليد بنفسه، فتلقّاه غلامه عون، وعرّفه أنّه ملك مصر، وما كان سبب تأخّره إلاّ لإصلاح أمورها.
فقبل قوله ودخل مصر.
ذكر الوليد بن دومغ، أوّل الفراعنة بمصر
هذا عند أكثر أهل العلم بتاريخ مصر أنّه أوّل الفراعنة بمصر، فاستباح أهلها وأخذ أموالها وأخذ جماعة من كهنتهم وحكمائهم، وسنح له أن يخرج ليقف على مصبّ النيل ويغزوا من بناحيته من الأمم. فأقام (121) ثلاث سنين يتجهّز ويستعدّ لخروجه ولما يحتاج إليه. واستخلف عونا على مصر وخرج في جيش كثيف، فلم يمرّ بأمّة إلاّ أبادها.
فيقال: إنّه أقام في سفرته عدّة سنين كثيرة. ومرّ على أرض الذهب، وفيها قضبان نابتة، وهي آخر بلد علوة. ولم يزل الوليد في سيره إلى أن بلغ البطيحة التي يصبّ منها ماء النيل، من التماثيل التي تخرج من سفح جبل القمر. ثمّ سار حتّى بلغ هيكل الشمس، فدخله.
ويقال: إنّه خوطب فيه بخبر، أضربت عنه. وبلغ جبل القمر؛ وإنّما سمّي
جبل القمر لأنّ القمر لا يطلع عليه، لأنّه خارج عن خط الاستواء. ونظر إلى النيل تخرج من سفحه، من تلك التماثيل المذكورة، فيمرّ في طرائق، ويصير إلى فم النيل المنهّر له، ثمّ يجوز خطّ الاستواء، فيجري في نهر النيل، وتمدّ منه عين أخرى من ناحية مكرام الهند. وتلك العين أيضا من جبل القمر، وفيه قول قد قدّمناه في الجزء الأوّل.
ويذكر عن الوليد أنّه رأى القصر النحاس الذي فيه التماثيل التي صنعها هرمس الأوّل الذي ذكرناه، وأنّ النيل يخرج من حلوق تلك التماثيل الذهب، وهم ستّة وثلاثين تمثالا، ثمّ يصبّ إلى بطيحة قد دبّرت بتدبير تلك الأمم القديمة. وإنّ صلاح جريان النيل أصله من هذه التماثيل، وقد أجري إلى تلك البطيحة، مع ما نهر من فم النيل، مصبّات من عدّة برك، كمجاري السيول.
وبتلك البرك أمياة محتبسة محضّرة، فإذا كان أوان الأمطار مطرت في تلك البرك والأودية، فتفيض وتجري في تلك المصبّات وترمي إلى تلك البطيحة، معما نهر من فم النيل، مع طول المسافة إلى إقليم الحبشة. ولا يزال يجري إلى أن ينتهي في فصل الصيف إلى الديار المصريّة، في الوقت المحتاج فيه إلى زيادته، لانتفاع الأراضي التي تركها ويرويها. فيكون مدّة جريانه من مبدأ تلك البرك إلى أن يصل إلى الديار المصريّة: ثلاثة شهور وزيادة. (122) وكذلك مدّة الأمطار في فصل الشتاء بتلك الأراضي، وهي
أيضا مدّة الزيادة في الديار المصريّة، لاتّصال إمداد السيول من تلك الأودية والبرك. فزيادة النيل تكون لكثرة الأمطار في تلك السنة، ونقصانه لقلّتها.
وكثرة الأمطار من رحمة الله، عز وجل، على عباده.
وقال أيضا: إنّ هرمس أحكم هذه التماثيل وجعلها ستّة وثلاثين تمثالا. وحكّم لكلّ تمثال ذراع من الماء في الزيادة، وأن تكون زيادة النيل من مبداه ستّة وثلاثين ذراعا وإلى منتهاه ثمانية عشر ذراعا، لتدرك بهذا التقدير منفعة الريّ في البلاد، والأراضي المجاورة له، من مبداه إلى أن يصبّ في البحر الروميّ المالح، ويفترق عند آخره فرقتين: أحدهما ذات تعريجة تنتهي إلى فم رشيد وتصبّ في المالح، والأخرى في الاستقامة إلى فم دمياط وتصبّ في المالح.
وقال جدع بن سنان الحميريّ، صاحب هذا النقل: وإنّ بالنيل سبعة آلاف تعريجة من مبداه إلى منتهاه، وذلك من حكم الله تعالى التي لا تدرك لها غاية. وفائدة هذه التعاريج لمسك زيادة النيل، ليحصل الانتفاع بمسكه. إذ لو كان غير ذي تعاريج لما ظهرت فيه زيادة، لانصبابه في المالح. وعادت الأراضي تنتفع بزيادته، غير أنّه لم يكن يروي سائرها.
فأمر الوليد أن تحفر في الأراضي التي لا يركبها النيل آبار، وتروى على أعناق الأبقار، فحفرت.
واستمرت الديار المصريّة كذلك إلى أيّام الإسكندر المقدونيّ وأرسطاطاليس الحكيم، فصنع بفم دمياط سدّا محكوما غائصا في الماء كهيئة اللاهون بالبحر اليوسفيّ. فعاد يمسك ما كان يصبّ في المالح، وتتراكم الزيادة بالنيل فيطف ويروي سائر تلك الأراضي التي تروى
بالقادوس من الآبار المعينة، وأغنى عن ذلك. وجعل في ذلك السدّ خرقا ليصرف منه ما زاد عن منفعة البلاد، خوفا من الغرق.
قلت: وقد صوّرت صورة النيل حسبما رأيتها في ذلك التاريخ مصوّرة: (123) <رسم لصورة جبل القمر وصفة التماثيل التي تصبّ إلى البطيحة والمسار إلى أن يصل إلى فم رشيد وفم دمياط ومن ثمّ إلى البحر، انظر هنا ص 179>.
(124)
قال جدع بن سنان: قال القبطيّون من أهل مصر. ولمّا بنا الإسكندر هذا السدّ بفم دمياط، قصد به ثلاث منافع، أحدها: منع المالح أن يغلب على الحلو، لانتفاع الناس بالحلو دون المالح. والثاني: ما ظهر من الانتفاع بالنيل لركوبه سائر الأراضي التي كانت تروى من الآبار المعينة، كما ذكرنا. قال: وكان جلّ قصده منع مراكب العدوّ من دخولها النيل. فعاد هذا السدّ كالقفل للديار المصريّة من تطرّق الأعداء.
قال: ثمّ جدّد للماء مقياسا عند حلوان، كما نذكر من خبره، وكيف هدمه الماء على طول مرور الدهر عليه. وهذا المقياس الآن <هو> عاشر مقياس بني للنيل المبارك، وسنذكر ذلك في موضعه اللائق به، إن شاء الله تعالى. ولهذا المقياس عمد في وسط فسقيّة، مقسوم بأصابع مقدّرة على أذرع إلى حدّ اثني عشر ذراع، مقسوما بثمانية وعشرين إصبعا. ومن حدّ الاثني عشر ذراعا إلى حيث تنتهي الزيادة، مقسوما بأربعة وعشرين إصبعا؛ والذراعان متساويان.
فما الحكمة من ذلك؟ ولقد سألت جماعة من مشايخ العصر عن ذلك، فلم أجد عنده شيء من صحّته. ولذلك سألت ابن أبي الردّاد، الذي هو وأباه وأجداده متوارثون قياس هذا النيل من تاريخ ما يأتي ذكره عند
ذكرنا لهم، عندما بنا هذا المقياس المتوكّل، جعفر بن المعتصم بن الرّشيد، كما نذكر، وكان ذلك بحضرة القاضي المرحوم فخر الدين، ناظر الجيوش المنصورة، رحمه الله، ونحن عنده بسطح الجامع النّاصريّ بمصر المحروسة، ولم يجبني بما يقارب، خصوصا إن يكن القصد بعينه، وكان بحضور جماعة من المشاهير بالدّيار المصريّة، فبحثوا في ذلك، فلم يقعوا منه على شيء، ولعلّها من الحكم العويصة.
وقال قوم من <أهل> الأثر: إنّ هذه الأنهار الأربعة: سيحون وجيحون والفرات والنيل، تخرج من أصل واحد، وقد تقدّم ذكرها.
وقيل: إنّها تخرج من قبّة (125) في أرض الذهب، من وراء البحر المظلم. وقيل: إنّهم من الجنّة، وأن القبّة من زبرجد. ويذكر أنّ رجلا من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم، عليهما السلام، وصل إلى القبّة، وقطع البحر المظلم، يقال له: جابر، وله خبر طويل. ذكر ذلك: أبو صالح، كاتب اللّيث بن سعد، من المحدّثين.
وقال آخرون: تنقسم هذه الأنهار على اثنين وسبعين فرقة للأمم المقدّم ذكرها.