المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(91) ذكر ملوك مصر بعد الطوفان من وجه آخر - كنز الدرر وجامع الغرر - جـ ٢

[ابن الدواداري]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المصنف]

- ‌ذكر انقضاء مدّة العالم وابتدائهواختلاف العلماء في ذلك

- ‌ذكر ما لخّص من مقامة لابن الجوزيّ، رحمه اللهوهي الباينة مما يتعلّق بذكر آدم، عليه السلام

- ‌نستفتح الكلام بذكر آدم، عليه السلام

- ‌فصلفي إعلام الله تعالى الملائكة بخلقه

- ‌فصلفي الخليفة

- ‌فصلقوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} الآية

- ‌فصلفي قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ}

- ‌ذكر خلق آدم، عليه السلام

- ‌فصلفي تعليمه الأسماء كلّها

- ‌فصلفي سجود الملائكة، عليهم السلام

- ‌(28) فصلفي قوله تعالى: {إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَاِسْتَكْبَرَ}

- ‌فصل ذكر خلق حوّاء، عليها السلام

- ‌فصل(31)في مقام آدم في الجنّة

- ‌فصل: ذكر الشجرة المنهيّ عنها

- ‌فصل في احتيال إبليس على دخول الجنّة

- ‌فصلقوله تعالى: {وَقُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الآية

- ‌فصلفي ذكر المكان الذي أهبطوا إليه

- ‌فصلفيما تجدّد لآدم بعد هبوطه من الجوار

- ‌(42) فصلفيما نزل مع آدم من الجنّة

- ‌ذكر قابيل بن آدم وما كان من أمره بعد أن قتل أخاه هابيل

- ‌ذكر شيث بن آدم، صلوات الله عليهما،وعدد الكتب والصحف التي أنزلت عليه

- ‌ذكر أنوش بن شيث بن آدم، عليه السلام

- ‌ذكر قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، عليه السلام

- ‌ذكر برد بن قينان بن أنوش بن آدم، عليه السلام

- ‌ذكر أخنوخ، وهو إدريس النبيّ، صلوات الله عليه وسلم

- ‌ذكر متوشلح بن إدريس، عليه السلام

- ‌ذكر لامك، أبو نوح، عليه السلام

- ‌ذكر نوح، عليه السلام، وقصّته مع قومه

- ‌ذكر أولاد نوح، عليه السلام، وهم سام وحام ويافثوما ولد كلّ إنسان منهم من الأمم

- ‌ذكر كنعان بن حام وأولاده وشعوبه والفراعنة منهم

- ‌ذكر ملوك مصر من ولد حام

- ‌ذكر أولاد يافث بن نوح، عليه السلام،وقبائلهم وشعوبهم وأخبارهم

- ‌ذكر يأجوج ومأجوج

- ‌ذكر السدّ الذي سدّه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج

- ‌ذكر الصقالبة

- ‌ذكر اليونانيّون الأوّلون من ولد يافث بن نوح عليه السلام

- ‌ذكر مملكة الروم

- ‌ذكر ملوك الصّين من ولد يافث

- ‌ذكر الإفرنج

- ‌ذكر مملكة الأندلس

- ‌ذكر مملكة الترك

- ‌ذكر مملكة خراسان

- ‌ذكر أولاد سام بن نوح، عليه السلام

- ‌ذكر تفرّق الطوائف من الناس بعد الطوفان

- ‌ذكر عاد

- ‌ذكر الكهّان القديمة بمصر من قبل الطوفان

- ‌ذكر قومة الكاهنة وما صنعت من العجائب في وقتها

- ‌(77) ذكر الأهرام وأوّل بنائها والسبب في ذلكوما فيها من العجائب

- ‌ذكر ملوك من ولد سوريد واتّصال بعضهم ببعض إلى آخر وقت

- ‌ذكر الكهّان من بعد الطوفان إلى حين خراب مصر

- ‌(91) ذكر ملوك مصر بعد الطوفان من وجه آخر

- ‌ذكر الوليد بن دومغ، أوّل الفراعنة بمصر

- ‌أخبار الوليد بن دومغ

- ‌ذكر نهراوس

- ‌ذكر دريوش

- ‌ذكر مقاريوس

- ‌ذكر اقسامين

- ‌ذكر ظلما بن فرمس

- ‌ولنبتدئ بذكر بقيّة الأنبياء، صلوات الله عليهم،بعد نوح عليه السلام

- ‌ذكر هود، عليه السلام

- ‌ذكر صالح، عليه السلام

- ‌ذكر إبراهيم الخليل، صلوات الله عليه

- ‌ذكر لوط، عليه السلام

- ‌ذكر إسماعيل، عليه السلام

- ‌ذكر يعقوب، عليه السلام

- ‌ذكر يوسف، عليه السلام

- ‌ذكر أيّوب، عليه السلام

- ‌ذكر شعيب، عليه السلام

- ‌ذكر الخضر، عليه السلام

- ‌ذكر موسى وهارون، عليهما السلام

- ‌ذكر أشمويل، عليه السلام، وداود، عليه السلام

- ‌ذكر سليمان بن داود، عليه السلام

- ‌ذكر رحبعم

- ‌ذكر أخبار آل داود

- ‌ذكر يونس بن متّا، عليه السلام

- ‌ذكر زكريّا، عليه السلام

- ‌ذكر عيسى ابن مريم، صلوات الله عليه

- ‌ذكر أهل القرية

- ‌ذكر ذو الكفل

- ‌ذكر لقمان الحكيم

- ‌ذكر أصحاب الأخدود

- ‌ذكر أصحاب الكهف

- ‌ذكر سائر ملوك الأرض وأسمائهمومدد تملّكهم إلى آخر وقت

- ‌ذكر الطّبقة الأولى لملوك الفرس

- ‌(177) ذكر الطبقة الثانية من ملوك الفرس وهم الكيسانيّة

- ‌ملحق من الأصل

- ‌ذكر الطبقة الثالثة من ملوك الفرس

- ‌ذكر ملوك الطبقة الرابعة من الفرس وهم الساسانيّة

- ‌ذكر نبذ من أخبارهم

- ‌ذكر الخبر الأوّل عن بهرام جور

- ‌ذكر الخبر الثاني عن بهرام جور

- ‌ذكر شابور ذي الأكتاف

- ‌ذكر ملوك البطالسة، وهم اليونانيّون

- ‌ذكر ملوك رومية، وهم المعروفون بالقياصرة

- ‌ذكر ملوك القسطنطينيّة بحكم الاختلاف

- ‌ذكر من ملك مصر من ملوك بعدما غرّق الله تعالى فرعون

- ‌ذكر بخت نصّر وسنة دخوله مصر وسبي بني إسرائيل

- ‌ذكر سبب انكشاف فارس عن الروم

- ‌ذكر ملوك العرب وأصولها وفروعها وبطونها

- ‌ذكر ملوك اللّخميّين وهم ملوك الحيرة، عرب العراق

- ‌ذكر ملوك العرب من آل جفنة

- ‌(233) ذكر التّبابعة من حمير ملوك اليمن

- ‌ذكر ملوك كندة بحكم التلخيص

- ‌ذكر وقائع العرب وحروبها في أيّامها المشهورة

- ‌ذكر كليب ومهلهل ابنا ربيعة،وهو حرب البسوس المذكور

- ‌(253) ذكر حرب عبس وبنو عامر والسبب فيه

- ‌هذا ذكر حرب داحس والغبراء المشهورة من أيّام حروب العرب

- ‌ذكر حاتم الطّائي ونبذ من أخباره

- ‌ذكر أيضا حاتم من وجه آخر

- ‌ذكر عنترة العبسيّ من وجه آخر

- ‌ذكر عروة بن الورد العبسيّ، جاهليّ

- ‌ذكر دريد بن الصّمّة والخنساء بنت عمر بن الشّريد السّلميّ

- ‌ذكر ذو الإصبع العدوانيّ، جاهليّ

- ‌(305) ذكر تأبّط شرّا وطرفا من خبره

- ‌ذكر الفحول من شعراء الجاهليّة ولمعا من شعرهم

- ‌ذكر امرئ القيس بن حجر

- ‌ذكر النّابغة الذّبيانيّ ولمعا من أخباره وأشعاره

- ‌ذكر زهير بن أبي سلمى وطرفا من شعره

- ‌ذكر طرفة بن العبد، جاهليّ

- ‌ذكر علقمة بن عبدة الفحل، جاهليّ

- ‌ذكر المتلمّس وبعض أخباره وطرف من أشعاره، جاهليّ

- ‌ذكر الأعشى، جاهليّ

- ‌ذكر عبيد بن الأبرص، جاهليّ

- ‌ذكر لبيد بن ربيعة وطرف من أخباره

- ‌ذكر عمرو بن كلثوم، جاهليّ

- ‌(336) ذكر المرقّشان: الأكبر والأصغر، جاهليّين

- ‌ذكر الأسود بن يعفر الدّارميّ، جاهليّ

- ‌ذكر عمرو بن قميئة

- ‌ذكر أبو دؤاد الإياديّ، جاهليّ

- ‌ذكر عديّ بن زيد

- ‌ذكر الأفوه الأوديّ، جاهليّ

- ‌(343) ذكر أبو كبير الهذليّ، جاهليّ

- ‌ذكر من تلا هؤلاء من المبشّرين بظهور سيّد المرسلين

- ‌ذكر زيد بن عمرو بن نفيل، جاهليّ، وفيه حديث

- ‌ذكر مدرج الرّيح، عامر المجنون الجرميّ

- ‌ذكر سعية بن غريض

- ‌ذكر أبو الصّلت، جاهليّ

- ‌ذكر ورقة بن نوفل، جاهليّ، وفيه حديث

- ‌ذكر ما الخّص من كهّان العرب في الجاهليّة

- ‌ذكر عدد الأنبياء والمرسلين والكتب المنزلة عليهم،صلوات الله عليهم أجمعين

- ‌ذكر التواريخ من لدن، آدم عليه السلام، إلى آخر وقت

- ‌ملحق

- ‌سرد المصادر والمراجع

الفصل: ‌(91) ذكر ملوك مصر بعد الطوفان من وجه آخر

فيعلم أن عدوّا قد تحرّك من تلك الجهة، فيفعل فيه ما شاء، فيصيب ذلك العدوّ ما فعل في ذلك التمثال.

وعمل فيها شجرة تحمل من كلّ صنف من سائر أصناف الفواكه، كلّ فاكهة في أوانها. وعمل منار طويل وعلى رأسه قبّة تتلوّن كلّ يوم لون، حتّى تنقضي الأيّام السبعة من الجمعة، فتعود إلى اللون الأوّل، وتكسوا المدينة من ذلك اللّون. وجعل حول ذلك المنار بحيرة، وولّد فيها سمكا، كلّ سمكة لون من ألوان المعادن الجوهريّة، حتّى لا يشكّ أنّها جوهرا، فإذا صادها عادت سمكا طريّا من أحسن ما يكون السمك. وأقام كذلك دهرا طويلا، والله أعلم.

(91) ذكر ملوك مصر بعد الطوفان من وجه آخر

فأمّا ملوك مصر بعد الطوفان، فقد تقدّم الكلام في ولد نوح، عليه السلام، وتملّكهم الأرض بعد قسمتهم. وذكرنا كلّ منهم ونسله وما كان منه. ونحن الآن نذكر ملوك مصر منهم.

وذلك أن مصر بن بيصر بن حام بن نوح، عليه السلام، كان أوّل من حلّ مصر بعد الطوفان. وكان بيصر قد تزوّج ببنت فليمون الكاهن، حسب ما ذكرنا، فولدت له مصر. ونكح مصر امرأة من بنات الكهنة

ص: 130

أيضا، فولدت له أربعة نفر: قفط وأشمن وأترب وصا.

وكان بيصر قد استقطع أرض مصر، مسيرة شهرا عرضا في شهر طول، وهي من الشجرتين إلى أسوان، ومن أيلة إلى برقة. وأوصا لولده مصر، وكان أكبر ولده. فلمّا صار الأمر إليه قسم شاط النيل بأربعة.

وجعل لكلّ واحد وولده قطعة. ولمّا هلك، خلفه ابنه قفط، وخلف قفط أشمن، وخلف أشمن أترب، وخلف أترب صا.

ثمّ كان لصا أولاد ستّة، فأكبرهم قبطيم، وهو جدّ القبط أجمع، وإليه ينتسبون. وإخوته: رادس بن صا، وماليون بن صا، وماليا بن صا، ولوطين ابن صا. فكان الملك في قبطيم دون إخوته. وهو أوّل من تملّك من ولد صا، وأثار الكنوز، ونصب الأعلام، وعمل العجائب، وزبر الطلّسمات، وحذا في ذلك حذو من كان قبل الطوفان من كهنة مصر.

وملك ثمانين سنة ومات، فاغتمّ ولده عليه. ودفن في سرب تحت

ص: 131

الجبل الداخل الأحمر، وجعل فيه هيكل المريخ. وجعل فيه الأكؤس النحاس، المطليّة بأدوية من الحكمة، فهي تشعل ليلا ونهارا، ولا تنطفئ أبدا. ولطّخوا جسده بالمرّ والكافور والموميا. وجعلوه في حرز من ذهب في ثياب منسوجة باللؤلؤ الكبار، (92) والفصوص البلخس، والياقوت البهرمان. وكشفوا عن وجهه تحت قبّة على عمد من مرمر ملوّنة، وفي وسط القبّة جوهرة معلقة تقد كالسراج، وبين كل عمودين تمثال في يده أعجوبة. وجعلوا حول الحرز توابيت من الحديد الصينيّ، مملوءة جوهرا نفيسا. وجعلوا كراسيّ من ذهب عليها مصاحف الحكمة في اللواح اليشم المعدنيّ، وسدوا عليها الصخور العظام والرصاص، وزبروا عليه كما زبروا على ناؤوس أبيه صا من قبله.

وتولّى بعده الملك قفطويم. وكان هذا قفطويم جبّارا، وكان أكبر

ص: 132

ولد قبطيم، وكان عظيم الخلق، وهو الذي وضع أساسات الأهرام بدهشور وغيرها، وقصد أن يبني أهراما كما عمل الأوّلون قبل الطوفان، وهو الذي بنا مدينة زرزورة بالواحات، ومدينة الأصنام. وفي أيّامه كان هلاك عاد بالريح العقيم. وعمل من العجائب شيء كثير، وعمل منارا عاليا على جبل قفط، يرا منها البحر الشرقيّ. ووجد هناك معادن الزئبق، فعمل منه بركة، فقيل: إنّها هناك إلى هذا العصر.

وقيل: إنّ أبيه قبطيم هو الذي بنا المدائن الداخلة بالواحات، وعمل فيها العجائب. فمنها البركة التي تعرف بصيّادة الطير، ذلك أنّ إذا مرّ عليها طيرا سقط فيها، ولا يبرح حتّى يؤخذ. وعمل أيضا على تلك البركة عمودا من نحاس عليه صورة طائر، إذا قرب منه الوحوش والهوامّ إلى تلك المدينة، صفر ذلك الطير صفيرا عاليا، فيرجع ذلك الوحش أو الهوامّ هاربة. وعمل على أربعة أركان هذه المدينة أربعة أصنام. فلا يقدر غريب أن يقترب إليها إلاّ ألقي عليه السّبات من النوم، فلا يزال كذلك حتّى يأتوا البوّابين فيأخذونه ويحضرونه إلى الملك. وعمل صورة صنم على منار لطيفة من زجاج محكوم ملوّن، في يده قوس، فإن عاينه غريب (93) وقف

ص: 133

في موضعه حتّى يؤخذ أو يهلك. وكان هذا الصنم يدور بنفسه إلى مهبّ الرياح الأربع. وقيل: إنّ هذه المدينة باقية إلى عصرنا هذا، ومن وقع بها وقرب منها هلك بواحدة من هذه الحكم، وهي بالواحات. وفيها من الأموال والذخائر والجواهر ما لا يقع عليه حصر.

وذكر أنّه عمل في بعض المدن الداخلية مرآة يرا فيها جميع ما يسأل الإنسان عنه. وبنا عدّة مدن بالواحات الداخليّة، وعمل فيها عجائب كثيرة ووكّل بها الروحانيّين الذين يمنعون منها، فما يستطيع أحدا أن يدنوا منهم، ولا يدخل أو يعمل القرابين لتلك الروحانيّين، فيصل إليها حين إذن ويأخذ من كنوزها ما أحبّ من غير مشقّة ولا تعب.

وقيل: إنّ قفطويم أقام ملكا أربع مائة سنة، وأكثر العجائب عملت في وقته. ومات قفطويم، ودفن في ناؤوس عمل له في الجبل الغربيّ قرب مدينة العبد، بطريق الفيّوم، ودفن معه نظير ما دفن مع أبيه قبطيم وأزيد، ممّا يضيق عنه هذا المختصر.

وزبر على باب الأزج الذي للناؤوس: هذا المدخل إلى جسد الملك العظيم المهيب الكريم الشديد، قفطويم بن الملك قبطيم، ذي اليد والغلبة والفخر والقهر. أفل نجمه وبقي ذكره وعمله، فلا يصل إليه أحد ولا يقدر عليه بحيلة، وذلك بعد سبعمائة وسبعين دورة، ودورات مضت من الطوفان الأعمّ الخارب لكائنات الوجود.

ثمّ ملك بعده ابنه البودشير، وقد تقدّم ذكره في الكلام المختصّ

ص: 134

بكهنة مصر بعد الطوفان. وقد كان أولاد أعمام أبيه، وهم أشمن وأترب، ملوكا على أجنادهم، إلاّ أنّه قهرهم بجبروته، فكان الذّكر له دونهم.

ويقال: إنّه أرسل إلى هرمس المصريّ، فبعثه إلى جبل القمر الذي يخرج النيل من تحته (94) حتّى عمل هناك هيكل التماثيل من النحاس، وعمل البطيحة التي ينصبّ إليها ماء النيل، وهو الذي عدّل جانبي النيل، وقد كان ربّما قيض فلا يجري.

وكانوا يسقون أراضيهم من الآبار المعينة، على أعناق الأبقار. وربّما كان النيل منقطع فلا يجري في مواضع كثيرة منه، حتّى اللهم الله، سبحانه وتعالى، هذا الملك، فكان سبب إصلاح هذا النيل حتّى عاد يجري، وحصل به النفع الذي لا عليه من مزيد.

ثمّ إنّ هذا الملك خالط الغرب، وبنا المدن العظيمة، واختلط بهم البربر، ونكحوا منهم، ثمّ عاد بينهم حروب وقتال حتّى خرجت أكبر تلك المدن.

وأيضا، إنّ هذا الملك عمل في وقته قبّة لها أربعة أركان، في كلّ ركن منها كوّة يخرج منها الدخان الملتفّ في ألوان شتّا. فما خرج منها أخضرا دلّ على العمارة، وحسن النبات وصلاحه مع الخصب. وإن خرج الدخان أبيضا دلّ على الجدب، وعلى قلّة العمارة، وعدم البركة. وإن

ص: 135

خرج أحمرا دلّ على الدماء والحروب وقصد الأعداء. وإن كان أسودا دلّ على كثرة الأمطار والمآه، وفساد بعض الزرع، وخراب بعض الأرض. وإن كان أصفرا دلّ على النيران وآفات تحدث في الفلك. وما كان مختلط اللون دلّ على تظالم الناس بعضهم على بعض، وأشياء من هذه الأشباه.

وأقامت تلك القبّة زمانا طويلا.

وكانت الوحوش بالغرب كثيرة ضارية على الناس. فعمل تمثال من نحاس، صفة شجرة، وعليها صفة تلك الوحوش، من خنازير وغيره، ملجمة أفواهها بسلاسل من نحاس. فما جاز بها من الوحش إلاّ ساهي الحراك والبراح من مكانه، حتّى يؤخذ قنصا بالكفّ، وأشبع الناس من لحوم تلك الوحوش.

وقيل: عمل في وقته غرابا نقر عين بعض أولاد الكهنة فقلعها.

فعمل شجرة من نحاس وعليها غراب، في منقاره حيّة بادية الطرفين، (95) والغراب منشور الجناحين، وكتب على ظهره كتابة، فكان الغربان تجذبهنّ تلك الشجرة، فلا يبرحن حتّى يؤخذن بالكفّ قبضا ويقتلن، حتّى زالت الغربان من تلك الأرض. ولم يزل الأمر كذلك حتّى أصاب بعض ملوكهم داء، فوصف له لحم غراب، يطبخه ويشرب مرقته. فلم يوجد إلى آخر أعمال مصر، حتّى نفذ إلى الشام من أحضر له بغراب،

ص: 136

فأبطأ عليه، وزادت العلّة به، فأمر بنزع تلك الشجرة حتّى رجعت الغربان من ساعتها، فأخذ منها حاجته، وعولج به قبل وصول قاصده من الشام، فخرج من علّته.

وقيل في وقته: إنّ الرمال كانت كثرت عليهم من ناحية الغرب حتّى طمعت على بعض زروعهم، فعمل لذلك صنما من صوّان أسود على قاعدة منه، في كفّيه كالقفّة فيها مسحاة، ونقش على جبهته وصدره وذراعيه وساقيه <كتابات>، وأقامه الكاهن في بطالع، أخذه ووجهه به إلى الغرب، فانكشفت تلك الرمال، ورجعت إلى ورائها. فتلك الأكداس العالية من جهة الغرب منها. ولم تزل الرمال تندفع عنهم إلى وراء ذلك الصنم <إلى أن زال> من موضعه. وأقام هذا الملك البودشير ثلاثمائة سنة، ثمّ غاب عن الناس حسبما تقدّم من ذكره عند قطع الكركيش، والله أعلم.

عديم بن البودشير. جلس العديم المذكور على سرير ملك أبيه، بإشارة أبوه حسبما تقدّم. وكان عديما ملكا جبّارا لا يطاق، عظيم الخلق. وكان في وقته يزعمهم الملكان اللذان أهبطا من السماء، وكانا في بئر يقال <لها>: أقساوة. وكانا يعلّمان الناس السّحر بمصر.

ويقال: إنّ عديما استكثر من العمل به، ثمّ انتقلا إلى بابل.

وأهل مصر من القبطيّين يقولون: إنّما هما كانا شيطانان، يقال

ص: 137

لأحدهما: مقلة، والآخر: مهالة، وأنّ الملكان غيرهما اللذان هما: هاروت وماروت. والملكان في بئر في بابل نعشاهما السحر إلى أن تقوم الساعة.

وقيل: (96) إنّ عديما بن قيطريم. فإنّ البودشير ما وطئ امرأة قطّ، ولا أعقب، وإنّه أخ للبودشير.

وفي زمان عديم أوّل ما عبدت الأوثان بعد الطوفان. وقيل: إنّ الشياطين كانت تظهر وتنصبها لهم، وأنّ أوّل صنم أقيم: صنم الشمس.

وعمل في زمان عديم عجائب كثيرة، ومن ذلك أنّه عمل في إحدى المدائن الداخلة حوضا من صوّان أسود مملوءا ماء عذبا، لا ينقص ولو ورده العالم بأسره على مرور الدهر، ولا يتغيّر بما اجتلب إليه من رطوبة الهواء. وكان أهل تلك النواحي ليس لهم ورد غيره.

وذكر بعض كهنة القبط، أنّ ذلك إنّما تمّ لهم لبعده عن النيل وقربهم من المالح، لأنّ الشمس، فيما ذكروا، يرتفع نحوها بخارا من البحر المالح، وينحسر من ذلك البخار جزوا بالهندسة-وقيل: بالسحر- فجعله ينحطّ في ذلك الحوض شبه الطلّ، ويمدّه الهواء <برطوبته>، فلا ينقص ماؤه على مرور الدهر، ولو شرب منه العالم جميعا.

وقد عمل أمام السند بالهند حوضا مدوّرا لطيفا، وجعله على قاعدة،

ص: 138

وملأه بالماء، وحصر عليه جزءا من البخار الرطب، فعاد الخلق يشربون منه، وهو لا ينقص شيئا، وهو هناك إلى وقتنا هذا، وهذه رواية المسعوديّ عن هذا الحوض الذي بالهند وأنّه شاهده بعينه.

وقيل: إنّ عديم دفن في إحدى المدائن ذوات العجائب، وإنّه ملك مائة وأربعين سنة.

وذكر قوم من القبط أن ناؤوس عديم في صحراء قفط على وجه الأرض، <وهو> قبّة عظيمة من زجاج أخضر برّاق، معقودة على ثمان أرماح من زيها، وعلى رأس القبّة كورة من ذهب، وعليها طائر من ذهب، موشح بجوهر، منشور الجناحين، يمنع من الدنوّ منها، وهي في علوّ مائة ذراع سوداء. وجعل جسده في وسط القبّة على سرير من الذهب مشبّك باللؤلؤ العظيم القدر، وهو مكشوف الوجه، عليه ثياب منسوجة بالذهب (97)، مفصّلة بالجوهر الثمين. والآزاج مفتّحة، طول كلّ أزج ثمانية أذرع. والقبّة تلقي شعاع خضرتها على ما حولها من الأرض.

وجعل حوله في القبّة مائة وسبعين مصحفا من مصاحف الحكمة، وتسع موائد، منهم مائد حمراء من ياقوت أحمر، وأوانيها منها. ومنهم مائدة

ص: 139

ذهب فليموني يكاد يخطف بالبصر. وهو الذهب، تعمل منه تيجان الملوك وأوانيها كذلك. ومنهم مائدة من حجر الشمس المضيء، لا تكاد تملكه الأبصار ضياء. ومنهم مائدة من زبرجد الذي يخلط لونه شعاع أصفر، وهذا اللون الذي إذا نظرت إليه الأفاعي سألت عيونها. ومنهم مائدة كبريت أحمر، مدبّر على ما اقتضته حكمهم من تدبيره. ومنهم مائدة ملح برّاق، لا يقدر أن يتأمّل إليه لشدّة أخذه بالبصر. ومنهم مائدة زئبق معقود محكم. وكلّ مائدة مكمّلة ثانيتها. وجعل في القبّة معه جواهر كثيرة ملوّنة، وبراني حديد صيني مملوءة من تبر الصنعة، وجعل حوله سبعة أسياف صواعق، في أيد سبعة خيّالة على أفراس يدورون كالبرق الخاطف، لو مرّ بهم الطير في الجوّ لاختطفوه وبضعوه؛ وسبع توابيت من حديد مملوءة دنانيرا من ذلك الذهب المذكور، منقوشة عليها اسمه، وصوّر عليها صورته.

قلت: وقد رأيت في بعض المجاميع، أن قوما من أهل سجلماسة، من المغرب وقعوا بكتب فيها صفة هذا الملك وهذه القبّة، وصفة الوصول

ص: 140

إليها. فتوصّلوا، واستدلّوا بما في كتبهم حتّى قربوا من تلك القبّة، فكانوا على مقدار خمسين ذراعا، فرأوا من أمرها ما هالهم، ووجدوا تلك الخيّالة والصواعق تأتيهم كالبرق الخاطف، والقبّة أيضا تدور كدوران تلك الخيّالة.

وذكروا أنّهم شاهدوا وجه الملك في قدر ذراع ونصف ولحيته تلعب بها الريح كالمدية الطويلة، وطول بدنه على السرير قدر عشرة أذرع وزيادة، وأنّهم رأوا بها عجائب كثيرة، أضربت عنها لما فيها من طول.

وذكروا أنّ الوصول إليها: (98) أن يذبح لها ديكا أبيضا أفرق، ويبخّر بريشة من جهة الريح الواصل إلى القبّة، حتّى يصل البخور إليها، وتكون الكواكب النيّرة على مثل ما كانت عليه وقت نصبها واجتماعها في البروج.

وذاك أن يكون زحل والمشتري والمرّيخ في برج واحد، والشمس والقمر في برج واحد، والزهرة وعطارد في برج واحد. ويتكلّم على البخور بكلام الكهنة سبع مرّات، فحينئذ تبّطل تلك الحركات ثلثي ساعة، فيأخذ في تلك المدّة ما شاء، ولا يقف حتّى ينتهي الثلاثين، <وإلاّ> فيهلك.

ص: 141

وإنّ تلك الأقوام لم يتّفق لهم هذا الاتّفاق من الرصد، وإنّهم أقاموا بناحية قفط سبع سنين يرصدوا فلم يتّفق، غير أنّهم كانوا يأتوا في كلّ حين وينظروا القبّة حسبما تقدّم. ثمّ إنّهم خاطروا بأنفسهم، وكان معهم شخصا وولده من أهل قفط، فأمّا الشيخ، فإنّه جسر مع القوم، وأمّا الفتى فإنّه تأخّر. فذكر ذلك الفتا أنّه كان ينظر لتلك الأقوام، وكانوا ستّة نفر، وهم يتقطعوا بتلك الأسياف، حتّى عادوا كالعهن المنقوش، ولا عاد رأى لهم خبرا، فعاد إلى ناحية قفط مذعورا، وخبّر بما شاهده.

شدّات: وملك شدّات بن عديم، بعد أبيه عديم المذكور، وهو الذي بنا الأهرام الدهشوريّة من الحجارة التي قطعت في زمان أبيه.

وأمّا من أنكر أنّ العادية دخلوا مصر، أنّهم غلطوا باسم شدّات هذا، فقالوا: شدّاد بن عاد، لكثرة ما تجري ألسنتهم عليه، وإلاّ فما قدم أحدا من آل عاد مصر، ولا قدر أحدا من الملوك على الدخول إلى مصر، ولا قوي على أهلها، غير بخت نصر الفارسيّ.

ص: 142

وقد وجدت في هذا الكتاب القبطيّ يقول، وإن كان كلاما لا يصوغه الشرع، ولا نصدّقه نحن، فإنّنا نقوله بطريق التعجّب في ما أوردوه الأوائل في كتبهم: إنّ البودشير بن قفطويم لمّا أجهد نفسه في عبادة الأنوار العالية وعرف روحانيّاتها <وقد صارت فيه>، تهذّبت نفسه، واستغنى جسده عن الطعام والشراب، فلمّا تأمّن ذاك، واشتاقت إليه الأنوار (99) واشتاق إليها، رفعته إلى محلّها الأعلى، ودبّرته من شرور الأرض المؤلمة لأهلها، وجعلته نورا ساميا في نورها، يتصرّف بتصرّفها. فطوباه من كاهن عرفت له كهانته، وأكرم به ملكا نال بغيته.

وقد كانت هؤلاء الأمم كلّهم على التوحيد والمعرفة بالربوبيّة لإله السماء، وإنّما كانوا يقولون: إنّ مدحنا بهذه الكواكب المدبّرات، لا يضرّ خالقها ولا ينقصه في ملكه، وإنّما نعظّمها لتقرّبنا منه، كما قال الهند والجهلة من العرب، كما أخبر الله، عز وجل، عنهم في كتابه العزيز:{إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى} .

وعمل شدّات في مدّة ملكه أعمالا كثيرة ممّا فاق بها على من تقدّمه، وممّا يطول الشرح في ذكرها، ومن جملتها المدائن التي بالغرب، وعجائبها، وعمل الصنم الذي له إحليل بيده، ما أتاه معقود أو عاجز عن الباه فتمسّح به إلاّ زال عنه ما يشكوه، وكذاك صنع الصورتين الملتصقتين لكثرة التناسل.

ص: 143

وهو أوّل من أحبّ الصيد وأخذ الجوارح من الطير، وولّد الكلاب السلاق من الذئاب والكلاب الأهليّة. وعمل البيطرة وجميع ما تعالج به الدوابّ. وعمل الأعمال الكثيرة، التي لا تدرك لها غاية. وعمل طلسم التماسيح، ومنعها من الوصول إلى مصر.

ويحكى: أنّه عمل لمصر أربعون أعجوبة من الغرائب العجيبة. وأقام سبعين سنة ملكا. وخرج في صيد له، فكب به جواده في وهدة فقتله.

وفي هذا الكتاب القبطيّ: أنّ شدّات هذا أخذ بعض خدمه، وقد غضب عليه، فألقاه من أعلا جبل إلى أسفله فتقطّع جسده، فندم على ذلك من فعله، ورأى أنّه سيصيبه مثل ذلك، فكان يتوقّى أن يعلو مكانا مرتفعا.

وأوصى إن أصابه شيئا من ذلك أن يجعل ناؤوسه في المكان الذي يلحقه به، ويزبر عليه: ليس ينبغي لذي قدرة أن يخرج عن الواجب، ولا يفعل ما لا يجوز له فعله، وهذا ناؤوس شدّات بن عديم بن قفطويم، عمل ما لا يحلّ، فكوفئ عليه بمثله.

ولمّا هلك زبر ذلك على ناؤوسه ودفن في صفح جبل، مكان كبا به جواده، وجعل معه من الأموال (100) والجواهر والتماثيل وأصناف الحكم، وعاش أربع مائة سنة وأربعين سنة، وأوصى بالملك لولده منقاوس.

ص: 144

ولمّا ملك منقاوس الملك، قام مقام أبوه فيما كان يفعله، وأظهر مصاحف الحكمة. وقيل: إنّه أوّل من صنع الحمّام. وأمّا أهل الأثر فيقولون: إنّ سليمان بن داود، عليه السلام، أوّل من صنع الحمّام، وهو الأصحّ. وكان كثير النّكاح، فاتّخذ مائتي امرأة من بنات أعمامه وبنات الكهنة، وعمل عند كلّ امرأة عجيبة من عجائبه.

وقيل: إنّه الذي بنا مدينة منف لبناته، وكانوا ثلاثون بنتا، فسمّيت باسم عدّة ثلاثين.

وعمل في السنة أحد عشر عيدا، في كلّ عيد من الأعمال ما يصلح فيه توافقا لبرج ذلك الشهر. وكان يطعم الناس في مدّة تلك الأعياد سائر أصناف الأطعمة الملوكيّة، ويوسع عليهم. ففرح الناس به، ورأوا معه ما لم يروا مع غيره. وفتح عليه في أيّامه بعدّة معادن من ذهب وفضّة. وألزم أصحاب عمل الكيمياء العمل، فكانوا لا يفترون. واجتمعت عنده أموالا جمّة. فدعا أخ له، فقال: قد ترا كثرة هذا الذهب والجوهر، وما عملناه من التماثيل، الذي تحصل لغيرنا، ولست آمن أن تسمع بنا الملوك فيغزونا، ونقع في الحروب بسببه، فتوجّه به، وأمعن في أرض الغرب، ثمّ انظر مكانا حريزا، فأحرزه به وأخفي أثره، وعلّم المكان بعلامات تقفوها إذا احتجنا إليه، وكذلك طرقه.

ص: 145

وذكروا أهل الأثر من العلماء بأحوال ملوك مصر أنّه حمل معه اثنا عشر ألف عجلة، منها من الجوهر النفيس ثلاثمائة عجلة، وسائرها ذهب إبريز، من صفائح وتماثيل وصور وعجائب مصنوعة من ذهب عسجد.

فسار في الجنوب يوما، ثم أخذ مغرّبا اليم الثاني وبعض الثالث، وانتهى إلى جبل منيف أسود، ليس له مصعد، بين جبال مستديرة. فجعل تحت ذلك الجبل أسرابا ومغائر، ودفن فيها جميع (101) ذلك، وزبر عليها، ورجع. فمكث بعد ذلك أربع سنين، وبعث كلّ سنة عجلة عظيمة، فتدفن هناك. وهو الذي صنع امرأة في مدينة منف مبتسمة، فلا يراها أحد وبه همّ إلاّ أفرج عنه ما يجده في ساعته، ونسي همّه. فكان الناس يأتونها ويطوفون بها، ثمّ عبدوها بعد ذاك.

وهو الذي صنع تمثالان روحانيّان من صفر مذهّب، لا يمرّ بهما زان ولا زانية إلى كشف بيده عن عورته، فيعلم أنّه زان. فارتدع الناس في أيّامه عن الزناء، ولا زال كذلك إلا أيام. . . الملك، وذلك أن بعض نسائه كانت تحبّ الزنا، وخشيت من الفضيحة من جهة تلك التمثالين. فدقّقت الحيلة مع زوجها الملك في حديث طويل، حتّى اقتلع تلك التماثيل من مواضعها، ونصبها في قصره، وظنّ أنّهما يفعلا ذلك في المكان الذي نصبا

ص: 146

به، فبطل فعلهما بذلك، وحصل لها ما كانت تقصده.

وهذه الأشياء إنّما كانت تعمل على رصد الكواكب ومطالعها وأوقات سعودها.

ثمّ إنّ منقاوس الملك بنا هيكلا للسحرة على رأس الجبل القصير.

وقدم عليه رجل منهم يقال له: مسيس، فكانوا لا يطلقون المراكب المقلعة إلاّ بضريبة يأخذونها من أهله. وأقام ملكا أحد وسبعين سنة، ومات من طاعون أصابه، وقيل: بل سمّ في طعامه. وعمل له ناؤوسا في صحراء الغرب، وقيل: في غربيّ قوص، ودفن معه شيء عظيم، ممّا لا يعدّ ولا يحدّ، ممّا زاد عمّن تقدّمه من الملوك، واستخلف ولده مناوش الملك.

وكان مناوش ملكا جبّارا، ويطلب الحكمة كأبيه وأجداده. وكان كلّ واحد من ملوكهم يجهد في أن يعمل في أيّامه عملا لا سبق إليه من أصناف العجائب والصنائع.

وهذا الملك أوّل من أظهر عبادة البقر في أهل مصر. وكان السبب في ذلك أنّه اعتلّ علّة، يئس منها الحياة، وأنّه رأى في منامه صورة روحانيّ عظيم يخاطبه ويقول له: إنّه لا يخرجك من علّتك هذه إلاّ عبادة البقرة، لأنّ

ص: 147

الطالع كان في وقت (102) حلول برج الثور. ففعل ذلك، وأمر أن يأتي بثور حسن أبلق اللون، كامل الصورة في الحسن، وعمل له مجلسا في قصره، وعمل عليه قبّة عظيمة، مصفّحة بذهب إبريز، وعاد يبخّره ويطيّبه. ووكّل به سادنان لخدمته، وعاد يعبده سرّا من أهل مملكته، فبرئ من علّته، وعاد في أحسن أحواله.

وقيل: إنّه كان في علّته لا يقدر على ركوب على الدواب، وكان يجلس في قبّة وتجره البقر بالعجل، فنظر إلى ثور حسن، من الذي كان يجرّونه، أبلقا، حسن التركيب، فأعجب به. فأمر بنزعه، وأن يجرّ من يديه إلى كلّ موضع، إعجابا به. وجعل عليه من الحليّ والحلل الدماج الملوكيّ المفصّل بالجوهر في شريط <من> الذهب الإبريز.

فلمّا كان في بعض الأيّام، وقد خلا به في موضع متنزّه، والثور قائم بين يديه، إذ خاطبه الثور وقال: لو عبدتني كفيتك جميع ما تريده، وعافيتك من علّتك هذه، وتكفّلت بجميع مصالح ملكك، وأزلت عنك سائر عللك وأمراضك. فأمر عند ذاك أن يغسل الثور ويطيّب ويدخل الهيكل، وعبده. فأقام ذلك الثور على ذلك الحال مدّة، ثمّ عاد آية: لا

ص: 148

يروث ولا يبول ولا يأكل إلاّ أطراف ورق الشجر، في كلّ شهر مرّة.

وافتتن الناس، وصار ذلك أصلا لعبادة البقر.

وبنا هذا الملك المدينة التي يقال <لها>: ديماس، وأقام عجائب كثيرة، وكنز فيها كنوزا عدّة. ويقال: إنّ قوما جازوا بها من نواحي الغرب، وقد أضلّوا الطريق، فسمعوا بها فريق الجنّ، ورأوا صور نيرانهم.

وأمّا ذلك الثور، فقد ذكره صاحب الكتاب القبطيّ، فقال: ولمّا مضى للناس مدّة على عبادة ذلك الثور، أمرهم أن يعملوا صورة من ذهب مجوّفة، ويؤخذ من رأسه شعرات، ومن ذنبه ومن ثخانة فروته وأظلافه، ويجعل في ذلك التمثال. وعرّفهم أنّه لاحق بعالمه، فيجعلوا جسده في حرز من حجارة المرمر، ويجعل في ذلك الهيكل، وينصب ذلك التمثال عليه، ويكون ذلك وزحل في شرفه، والشمس مسعودة تنظر إليه من تثليث، والقمر (103) زائد، وينقش على ذلك التمثال صور الكواكب

ص: 149

السبعة. ففعلوا ذلك، وعملت الصورة من ذهب، وكلّلت بأنواع الجواهر، وجعلوا عينيه من عنبر أسود، وبياضه من جوهر شفّاف. وحرزوا جسد الثور في حرز من مرمر، في الأوقات التي ذكرها لهم، ونصبوهما في الهيكل، وأوقدت عليه الشموع ليلا ونهارا، وبخّر بأنواع الطيب، ونذرت إليه النذور، وقرّبت إليه القرابين، وقصده الناس من سائر الآفاق، من جميع أعمال مصر.

وأقام مناوش ملكا تسعا وثلاثين سنة، وهلك بالعلّة التي كان أصيب بها أوّلا. وأوصا بالملك إلى ابنه مرنيس.

فملك مرنيس الملك عشرة سنين، وكان ضعيفا منهوك البدن. فلم يبن بنيانا، ولا نصب علما ولا منارا. ثمّ هلك بعد هذه المدّة، وأوصى إلى ابنه.

وقيل: إنّ هذا الملك لم يعقب، وأن الملك عاد من هذا البيت إلى ولد أشمن بن قبطيم؛ ووجدت مكان اسمه بياضا، فلم أعلمه. وقيل: إنّ هذا الملك أقام دهرا طويلا، وأنّه أوّل من صنع الدّرياقات من لحوم الأفاعي، وأنّه أوّل من أمر بالنيروز في مصر. وكان الناس يقيمون سبعة

ص: 150

أيّام، لا يصنعون صنعة ولا يفتحون لمعيشة. وكان هذا الملك يكفيهم في هذه المدّة سائر ما يحتاجون إليه من أكل وشرب. وكان يزعم أنّ هذه السبعة أيّام خدمة للسبع كواكب. وإذا انقضت أخلع على سائر الناس أجمعين، وغيّر جميع لباسهم على أقدار منازلهم ومراتبهم عنده.

وفي زمانه بنيت البهنسا. وكانت له زوجة مغري يحبّها تسمّى بهاء النساء؛ فبنا هذه المدينة لها، وسمّيت باسمها. وأقام بها أسطوانات، وجعل فوقها مجلسا من زجاج أصفر محكم، وعليه قبّة من ذهب إبريز، فكانت الشمس إذا طلعت ألقت القبّة شعاعها على المدينة، فتكون المدينة كلّها صفراء.

ويقال: إنّه ملك ثمان مائة وثلاثين سنة، ودفن في إحدى الأهرام الصغار القبليّة، ودفن معه من المال (104) والجوهر والعجائب شيء كثير.

ويقال: إنّ هذا الملك بنا في شرقيّ الصحراء مدينتين ونسبهما إلى هرمس، أي: عطارد. وجعل فيهما من العجائب ما يطول شرحه، أضربت عنه لطوله.

وقرأت في تاريخ عتيق أنّ رجلا أتا عبد العزيز بن مروان، وهو أميرا

ص: 151

بمصر، فعرّفه أنّه تاه في صحراء الشرق، وأنّه وقع بمدينة خراب وأنّه وجد فيها شجرة تحمل كلّ صنف من أصناف الفاكهة، وأنّه أكل منها وتزوّد، وأتا معه بشيء من فاكهة لم تكن في أوانها. فقال له رجل من قبط مصر:

هذه إحدى مدينتي هرمس، وفيها كنوز عظيمة. فوجّه عبد العزيز صحبة ذلك الرجل أقواما وزادا وماء، وأقاموا يطوفون تلك الصحارى شهرا كاملا، فما وقعوا لها على أثر.

ولمّا هلك هذا الملك قام بالأمر بعده ولده الشاد. وولي الشاد الملك وهو غلام وله من العمر خمسة وأربعين سنة. وكان جبّارا معجبا طمّاع العين، فافتتن بامرأة من نساء أبيه، وانكشف أمره معها. وكان أكثر همّه اللهو واللعب، وجعل تدبير ملكه إلى وزير كان له، واشتغل بلهوه.

ورفض العلوم والهياكل والنظر في مصالح الناس. وصنع له قصور من خشب مموّهة بالذهب، وجعلها على أطراف النيل، وكان يتنزّه عليها.

وولّد من الشجر والفواكه شيء كثير. وأنفد أكثر الأموال والذخائر جوائز لأرباب اللهو. وكان الخاصّة به متسلّطون على أموال الناس وحريمهم.

وقتل من الناس خلقا كثيرا في شرح طويل، فاحتالوا عليه حتّى سمّوه في طعامه، فهلك وهو ابن مائة وعشرين سنة، وكان ملكه خمسة وسبعين سنة.

وأوصى بالملك بعده لولده صا، وهذا الاسم على اسم عمّ جدّه

ص: 152

أوّلا. وأكثر القبط تزعم أنّه صا بن مرقويس، وهو أخو الشاد الملك، ليس ولده. فملك وهنّأه الناس بالملك، فوعدهم بالإحسان إليهم والنظر في حالهم. وسكن مدينة. . .، وأظهر العدل والإحسان، وعمل العجائب، وقرّب العلماء والكهنة ونفى الملهبيّين، (105) ونصب العقاب الذي كان أبوه عمله، وشرّف هيكله. وعمل في منف مرآة يرا منها الأوقات التي تخصب فيها بلده، والأوقات التي فيها تجدب. وبنا بداخل الواحات مدينة عظيمة، يقال لها: طرطورة. وجعل فيها من العجائب ما يضيق حصره. وصنع خلف الجبل المقطّم صنما يقال له: صنم الحيلة.

وكان كلّ من تعذّر عليه أمرا يأتيه فيبخّره ببخوره، فيبيّن له أمره.

ويقال: إنّه الذي بنا المدينة النحاس التي وقع عليها موسى بن نصير في زمان بني أميّة لمّا قلّد المغرب، فلمّا دخل مصر أخذ على الواح الأقصى بالنجوم. وقد كان وقع عندهم علم منها، فأقام سبعة أيّام في مهامه ورمال وصحاري بين سمت الغرب والجنوب. وظهرت لهم مدينة فيها حصن، وأسوارها من نحاس وأبوابها كذلك. فأقصد إليها الرجال ليقفوا على ما فيها، وتسوّروا بالحيلة العظيمة على سورها لمّا أعيا فتح أبوابها.

فكان من على على سورها ورآها صفّق بيديه وأهوى بنفسه إليه، ثمّ لم

ص: 153

يعود له خبر، فهلك خلق من الرجال على هذه الصورة. فلمّا أعياه أمرها، تركها ومضى.

ولم يسمع أنّ أحدا غير موسى بن نصير وقع بها، لا من قبله ولا من بعده. وهذا الأمر ذكر وشهر، فلا ينبغي أن ينكر. وكان القوم ذو استطاعة وقدرة على سائر الأعمال العجيبة.

وكان الغالب على مدنهم التي كانوا يبنونها بالغرب من الواحات، قوّة تسليط الرمل. فكان كلّ ملك يقوم، لا بدّ أن يصنع عملا لدفع الرمل عن تلك المدن التي بنيت، وإنّ في هذا الوقت أكثرها تحت آكام من الرمل الغالب عليها، والله أعلم.

وقرأت في مجموع أنّ قوما من فلاّحين الواحات الخارجة، تغلّب عليهم عاملهم، وعنّف بهم، فهربوا ودخلوا في صحراء الغرب، وحملوا معهم زادا، إلى أن تصلح أمورهم ويعودوا. فكانوا على يوم وبعض آخر، فلجؤوا إلى جبل، فوجدوه غير أهل، فدخلوا تحت شعابه.

فوجدوا مساكن طيّبة، وأشجار باسقة، (106) وأنهر متفجّرة، وأرض لم يروا أطيب منها، ولا أللد نسيم، وبها قوم يسكنونها ويزرعون ويرفعون.

فخاطبوهم، فلم يعرفون بكلامهم، فأتوهم برجال عندهم، ففهموا كلامهم وقالوا: يا قوم، نحن أيضا كنّا مثلكم فلاحون، خارجا عن هذه الأرض،

ص: 154

جار علينا العمّال، فدخلنا هذه الأرض، وجميع من بها يزرعون ويرفعون، ولا لهم من يظلمهم بخراج، ولا يعرفون لهم مالك. فإن شئتم تكونوا عنها، فعلى الرحب والسعة. فعزموا تلك الناس أن يعودوا ويأخذوا أهلهم وأولادهم ويرجعوا يسكنون عندهم.

فلمّا عادوا بأهاليهم وأولادهم ومواشيهم، فأقاموا مدّة أيّام يطلبون تلك الأرض، فلم يجدونها وضلّوا عن الطريق، ولا تاتا لهم الوصول إليها، فعادوا إلى بلادهم، وقد ندموا على مفارقة تلك الأرض. ولم يزالوا يهذون بما عاينوا وبما رأوا منها.

وقيل أيضا عن آخرين ضلّوا في الطريق بالغرب من هذه النواحي، فوقفوا على مدينة كثيرة الناس والمواشي والنخل والشجر والأمياه، فأضافوهم وأكلوا عندهم وشربوا، وأباتوهم في معصرة خمر عندهم، فسكروا من خمرهم، وناموا، فلم ينتبهوا إلى طلوع الشمس، فوجدوا أنفسهم في مدينة خراب، ليس بها أحد ولا عامر. فارتاعوا لذلك، وخرجوا على وجوههم كالهاربين. وساروا يومهم على غير سمت طريق، حتّى قرب المساء. فظهرت لهم مدينة عظيمة، أكبر من الأولى وأعمر، وأكثر أهلا ودوابا ونخلا وشجرا. وأنسوا بهم وأخبروهم بخبر المدينة الأولى، فجعلوا يعجبون منهم ويضّاحكون، وإذا لبعض أهل تلك المدينة، وليمة، فانطلقوا بهم معهم إليها، وأكلوا من أفخر طعام تلك الوليمة،

ص: 155

وشربوا من نبيذهم، وغنّوهم بأصناف الملاهي، وسألوهم، فأخبروهم أنّهم ضالّون عن الطريق. فقالوا لهم: الطريق بين أيديكم، ليس ببعيد منكم؛ فإن أحببتكم <أن> تتوجّهوا نفّذنا معكم من يدلّكم، وإن أحببتم الإقامة عندنا، فعلى الرحب والسعة. فسرّوا (107) بقولهم سرورا كثيرا، وأجمعوا على المقام عندهم، لما رأوا من كثرة الخير عندهم وأجمع من كان له أهل أو ولد أن يتوجّه فيحضر بأهله وولده ويأتوا عندهم على أحسن مبيت وأهناه.

فلمّا كان من الغد، انتبهوا فوجدوا أنفسهم في مدينة ليس فيها أنيس، وقد تشعتث حصنها ودورها، إلاّ أنّ حولها نخلا، وقد تساقط ثمره وانكدس حولها. قالوا: فلحقنا من الخوف ما لحقنا بالأمس وأزيد؛ وخرجوا منها هاربين متوجّمين مفكّرين فيما عاينّاه من أهلها. وإنّا لنجد بقيّة رائحة الشراب معنا، ومعاني الخمار فينا ظاهر. فلم نزل نسير يومنا أجمع، وليس بنا جوع ولا عطش، حتّى إذا كان المساء، وافينا راعيا يرعا غنما، فسألناه عن العمارة والطريق، فأوقفنا عليه. وإذا بنقّار من المطر، فشربنا منه وبتنا عليه. فإذا نحن في خلاف موضعنا الذي كنّا فيه، وإذا بالعمارة والناس. وما سرنا إلاّ بعض يومنا حتّى دخلنا مدينة الأشمونين بالصعيد. فكنّا نحدّث الناس، ولا يقبلوا منا، ومنهم من يصدّق ويتعجّب لذلك.

وهذه مدائن القوم الداخلة؛ ربّما غلب على سكّانها الجنّ. ومنها ما هو مستتر عن العيون، والله أعلم.

ص: 156

ولنعود إلى <ما> ساقه التاريخ من <ما> يفيد <عن> ملوك مصر، إن شاء الله تعالى.

ثمّ تملّك تدارس الملك. وكان تدارس الملك جبّارا محنّكا، ذو بطش وقوة ومعرفة بالأمور. فأظهر العدل، وساس الأمور أحسن سياسة، وأقام الهياكل، وزبر العلوم، وبنا غربيّ مدينة منف بنيانا عظيما للزّهرة، من لازورد محكم مذهّب، وصورة سواري زبرجد أخضر. وكان الصورة امرأة لها ظفيرتان في ذهب أسود مصنوع مدبّر في رجليها خلخالان من حجر أحمر شفّاف ونعلان من ذهب إبريز في يدها قضيب مرجان مكلّل، وهي تشير بسبّابتها كالمسلّمة على من في الهيكل.

وصنع من الصور والتماثيل ما فاق به على من تقدّمه من آبائه وجدوده. وكانت هذه الصورة يستشفى بها من كلّ داء يعرض. (108) وفرش الهيكل بحشيشة الزهرة، يبدّلونها في كلّ سبعة أيّام، وقرّب إليها القرابين من الضأن والمعز والوحش والطير. وكان في قبّة الهيكل صورة رجل راكب على فرس له جناحان وبيده حربة، في سنانها رأس إنسان

ص: 157

معلّق. واستمرّ هذا الهيكل إلى زمان بخت نصر الفارسيّ، وهو الذي هدمه، والله أعلم.

وقيل: إنّ تدارس <هو> الذي حفر خليج سنحار، وارتفع خراج مصر على يديه: ألف ألف وخمسون ألف دينارا.

وقصده بعض عمالقة الشام فخرج إليه واستباحه ودخل فلسطين، فقتل منها خلقا كثيرا وسبى بعض حكمائها وأسكنهم مصر.

وهو الذي غزا السودان وقتل منهم مقتلة عظيمة، وتبعهم إلى أرض الفيلة، وكانوا في زهاء ألف ألف مقاتل. وعمّر مكان وصل منارا، وزبر عليها اسمه وظهوره على السودان.

ولمّا عاد إلى مصر رأى رؤيا يدلّ بها على موته، فعمل لنفسه ناؤوسا ونقل إليه شيئا كثيرا من الأموال والجواهر وأصنام الكواكب، وزبر عليه اسمه، وجعل عليه موانع تحفظه، وعهد إلى ابنه ماليك.

وكان ماليك ولده عاقلا أديبا كريما حسن الوجه، مخالفا لأمّه ولأهل ملكه في عبادة الكواكب والبقر، وكان موحّدا على دين قبطيم ومصريم وكانت القبط تذمّه لذلك.

وكان سببه ما ذكره المسعوديّ في روايته: أنّه رأى، فيما يرا النائم،

ص: 158

كأنّه أتاه رجلان، ولهما أجنحة، فاختطفاه وحملاه إلى الفلك السابع.

فأوقفاه بين يدي شيخ أسود اللون، أبيض الرأس واللحية، فقال: هل تعرفني؟ فدخلته فزعة الحداثة، وكان سنّه نيّفا وثلاثين سنة، فقال: ما أعرفك. فقال: أنا فورس-يعني: رجلا. فقال: قد عرفتك؛ أنت إلهي.

فقال: إنّي لست بإلهك ولا إله أحد من الناس، وأنا مربوب مثلك، وإلهي وإلهك الذي خلق السموات والأرض، وخلقني وخلقك. فقال: فأين هو؟ فقال: في العلوّ الأعلى، (109) لا تراه العيون، ولا يحويه مكان، ولا تدركه الأوهام، حيّ لا ينام، وهو جعلنا سببا لتدبير العالم الأرضيّ. فقال الملك: فبماذا تأمرني أن أفعل؟ قال: تضمر في نفسك ربوبيّته علينا وعلى الخلق الجميع، وتخلص في وحدانيّته، وتعترف بأزليّته. ثمّ أمر تلك الرجلين فأنزلاني، فانتبهت مذعورا وأنا على فراشي.

فدعي برأس الكهنة، وقصّ عليه ذلك. فقال: قد نهاك أن تتّخذ الأصنام معبودا، فإنّها <لا> تضرّ ولا تنفع. فقال: من أعبد أيّها الحكيم الفاضل؟ قال: الذي دلّك عليه، وهو الذي خلق السموات والأرض والكواكب والفلك، الذي هم به، والأرض ومن عليها.

فعاد ذلك الملك إذا حضر إلى بيت الأصنام، انحرف عن الصنم، ونوى سجوده لخالق السموات والأرض، وخالق الكواكب السبع. ثمّ إن الله تعالى أيّده بملائكة تعضده وتحرسه وترشده إلى مصالح أحواله. وكان يأتيه في نومه من يرشده إلى سائر مصالح ملكه.

ص: 159

وأمر الناس باتّخاذ الفارة من الجندل. وجيّش الجيوش، وصنع الفلك في البحر، ولقي جموع البربر، فقتلهم وهزمهم واستأصل أكرهم، وبلغ إلى إفريقيا وإلى ناحية الأندلس، ووقع بصاحب إفرنجة، فحاربه شهرا، ثمّ طلب صلحه، وأهدا إليه هدايا عظيمة <تليق> بملك عظيم، حتّى رجع عنه. ووصل بالأمم المتّصلة بالبحر الأخضر، ودخل في طاعته أكثرها. ووصل إلى أمّة لهم أنياب بارزة من أفواههم، وحوافر كالخيل، وقرون في رؤوسهم، فقالتهم وهزمهم إلى التخوم المظلمة.

والقبط تذكر: أنّه رأى سبعين أعجوبة من مخلوقات الله، عز وجل، ممّا يطول الشرح في وصفهم، فأضربت عنهم للاختصار، إذ القصد: سياقة التاريخ، ملك بعد ملك من ملوك مصر، منذ بدء الدنيا وإلا آخر ما يقف عليه وعنده هذا المختصر، إن شاء الله تعالى، بمعونة الله وحسن توفيقه.

وأقام ماليك هذا مؤمنا بالله تعالى، لا يشرك به غيره، بريئا من عبادة الكواكب وللأصنام والبقر، لا يعبد إلاّ الله وحده، لا شريك له، موقنا

ص: 160

بالبعث والنشور والحساب، (110) والقصاص والممات، كتب صحيفة بخطّ يده، وأمر أن تكون في ناؤوسه، فيها مكتوب: ها ناؤوس ماليك، ملك مصر؛ مات مؤمنا بالله خالق السموات والأرض، لا يعبد غيره، بريئا من الأصنام وعبادتها، موقنا بالبعث والحساب والمجازاة على الأعمال، عاش أربع مائة سنة وثلاثين سنة ومات على ذلك؛ فمن أحبّ النجاة فليدن بما دان به.

وأوصى أن لا يدفن معه في ناؤوسه أحدا من أهل بيته. وقد كان كنز كنوزا عظيمة، وزبر عليها ألاّ يخرجها إلاّ أمّة النبيّ المبعوث في آخر الزمان. فمن وقع منها بشيء فإنّه سيكون له منها نصيبا، حسبما زبره هذا الملك.

ثمّ إنّه استخلف ابنه جريبا. وكان جريبا هذا ليّنا سهل الخلق. ولم يمت أبوه حتّى شرح له دين التوحيد بالله، عز وجل، وأمره أن يدين به، ونهاه عن عبادة الأصنام. وكان معه في حياته على ذلك، ثمّ رجع عنه إلى دينهم بعد وفاته.

وكان سبب رجوعه إلى ذلك أنّه هوي بنت أحد الكهّان، وهو كان الرمم، فنقلته إلى دينها لغلبة الهوى عليه ودرك الشقاوة. وأمرت بتجديد الهياكل، وشدّدت في عبادة الأصنام.

ص: 161

ثمّ إنّ هذا الملك غزا بلاد الهند بسبب فيه كلام كثير ليس به فائدة، فأضربت عنه لذلك. وبلغ سرنديب، وأوقع بأهلها، وكسب جواهرا عظيمة، وحمل معه حكيما منهم. وبلغ جزيرة بين الهند والصين، فرأى قوما طوال جدّا، سمر يجرّون شعورهم جرّا. وأقام في سفره سبع عشر سنة، ورجع بعدما يئس منه أهل مصر. وكان قد استخلف ولده كلكن، فوجده مستمرّا على أحسن ما تركه، فسرّ بذلك. وجدّد عشرة هياكل، وزاد في ذلك.

وحمل معه من تلك البلاد أشياء يطول تعدادها من الأموال والجواهر وذخائر الملوك الذين قهرهم واستأصل ممالكهم.

ثمّ أقام سنينا وغزا <بعدها> ممالك الشام إلى أن وصل في الشرق إلى أولاد يافث بن نوح. وملك بعد ذلك خمسمائة وسبعين (111) سنة، وعمل لنفسه في صحراء الغرب ناؤوسا، وبنا إلى جانبه مدينة برفود. وصنع فيها من العجائب والحكم، وادّخر فيها جميع ما أحضره معه من الأموال والجواهر والأمتعة والأواني والآلات، ممّا يحيّر السامع في بعضه، وممّا لو شرحته لكان كراريسا بذاتها، فأضربت عنه لكثرته. وأقام بتلك المدينة إلى أن هلك، وابنه المذكور على المملكة بمنف.

فلمّا هلك أبوه، ضمّد جسده بالموميا والكافور والمرّ، وجعل في تابوت من ذهب، وحمل إلى ناؤوسه. ودفن معه أموال كثيرة وجوهر

ص: 162

نفيس، ما لا يعدّ ولا يحدّ، ومصاحف الحكمة، ومصاحف زبر فيها سيرته وغزواته وحروبه وشدّة قوّته وبطشه، وإقامته في مملكته، ومدّة حياته إلى حين وفاته.

وجلس بالملك ولده كلكن، وعقد التاج على رأسه بعد موت أبيه بالإسكندريّة، وأقام بها شهرا، ثمّ رجع إلى مدينة منف. وكان حكيما فاضلا كاهنا عالما، وعظّم العلماء من الكهنة والحكماء، وألزم أصحاب علم الكيمياء بعمل ذلك. فخزن أموالا عظيمة، لا يحصيها إلاّ الله تعالى.

وهو أوّل من أظهر عملها بمصر بعد أولئك الملوك الأوّل؛ فإنّ أبوه وجدّه وغيره ممّن تقدّمه، كانوا منعوا عملها، أبطلوها جملة كافية، خوفا <من> أن تنتقل عنهم إلى ملوك غيرهم. فعملها كلكن هذا، واجتهد في كثرة عملها، حتّى لم يكن أكثر من الذهب في أيّامه بمصر.

ويحكي عنه القبطيّين أنّهم أظهر في زمانه حكما لا يعرفونها، مما يذهل العقول، حتّى إنّهم يسمّونه حكيم الملوك. وغلب جميع الكهنة في كهانتهم وعلومهم، وكان يعرّفهم بالمغيّب عنهم فيما سيأتي، فخافوه خوفا شديدا.

وكان في أيّامه نمرود إبراهيم، صلوات الله عليه. ويقال: إنّه لمّا اتّصل بنمرود خيره وسحره وحكمته، استزاره. وكان نمرود جبّارا مشوّه الخلق، يسكن العراق من الأرض. وكان الله تعالى آتاه قوّة وقدرة وبطشا، فغلب على كثير من الأرض.

ص: 163

فتقول القبط، فيما يزيدون (112) في تعظيمه: إنّ النّمرود لمّا استزاره وجّه إليه أن يلقاه منفردا من أهله وحشمه بموضع كذا. وكان ملتقاه له بأصناف السحر. فلمّا التقاه النمرود، أقبل كلكن الملك على أربعة أفراس تحمله، ذوات أجنحة، وقد أحاط به هالة من نور كالنار، وحوله مشوّهة هائلة المنظر، من رآهم لا يملك نفسه فرقا، وهو متوشّح بتنّين محتزم ببعضه، والتنّين فاغر فاه، وبيد الملك قضيب آس أخضر، كلّما رفع التنّين رأسه ضربه بذلك القضيب. فلمّا رآه النمرود في هذه الصورة، هاله أمره وأعظمه، فخاطبه وهو كبير الوجل منه، واعترف بجليل قدره وعظيم حكمته، وسأله أن يكون له ظهيرا.

وتقول القبط: إنّ كلكن كان أعظم الملوك من بعد البودشير، ثمّ إنّه استتر عنهم مدّة، حتّى توهّموا أنّه هلك لكثرة جولانه في سائر بقاع الأرض، حتّى طمع الملوك المجاورة له في ملكه. فقصده ملك من ملوك الغرب، يقال له: ساروم بن بيدوم في جيش عظيم، وأقبل من نحو وادي هيت.

وبلغ أهل مصر ذلك، فخافوا خوفا شديدا لغيبة كلكن عنهم، وليس لهم ملك يرجعون إلى تدبيره. فلم يشعر ذلك الجيش العظيم إلاّ وقد ركبتهم غمامة حمراء شديدة الحرارة، وغشيتهم حتّى عادوا لا يعلمون أين يتوجّهون. ونشف جميع ما كان معهم من ماء، وزاد بهم الحرارة، فهلكوا بأجمعهم مع سائر دوابّهم.

ص: 164

وظهر كلكن بمصر، وعرّفهم أنّه أهلك عدوّهم، من غير أن يعينهم لقتال ولا حرب. وأمرهم بالخروج إليهم ليعرفوا حقيقة أمرهم. فخرجوا، فوجدوهم أموات بأجمعهم ودوابّهم في قاع واحد. فعرف الناس له ذلك وهابوه سائر الملوك وهابته الكهنة هيبة لم تهب قبله ملكا قطّ. وصوّروا صورته في جميع الهياكل.

وملكهم زمانا طويلا، وبنا في آخر عمره هيكلا لزحل من صوّان أسود، في ناحية (113) الغرب. وجعل له عيدا، وجعل فيه ناؤوسا، وحمل إليه من الأموال والجواهر ما أحبّ واختار. وزبره بالطّلّسمات والموانع القاطعة. ثمّ غاب عنهم، فلم يقفوا له على موته.

وأوصا إلى أخيه ماليا. وكان ماليا كثير الأكل والشرب، متفرّدا بالرفاهية، غير ناظر في شيء من الحكمة. وجعل أمر الناس إلى وزير له، فكانت هيبة أيّامه لهيبة أخيه كلكن. وتقديرهم أنّه لم يمت، وإنّما ذكر له موته لينظر ما تجري عليهم من الأحوال.

وكان ماليا معجب بالنساء، فكان له ثمانون امرأة. ثمّ اتّخذ امرأة من بنات ملوك منف وكانت عاقلة سديدة الرأي، وكان بها معجبا. وكان له بنون وبنات، وكان أكبر بنيه يقال له: طوطيس، وكان يستجهل أباه، فأعمل الحيلة في قتله، وحملته على ذلك زوجة أبيه وجماعة من نسائه

ص: 165

ووزرائه. فقحم عليه في رواقه وهو سكران فقتله، وقتل امرأة إلى جانبه وصلبها.

وجلس طوطيس. والملك طوطيس كان جبّارا، شديد البأس مهيبا، فدخلوا عليه أرباب الدولة وهنؤوه ودعوا له. فأمرهم بالإقبال على مصالحهم وأوعدهم بالإحسان إليهم.

والقبط تزعم أنّه أوّل الفراعنة بمصر، وهو فرعون إبراهيم الخليل، صلوات الله عليه وسلم. وقالوا: الفراعنة سبعة، طوطيس هذا أوّلهم.

ثمّ تذاكروا الناس ما فعله بأبيه وصلبه للمرأة، فاستقبحوا ذلك وأنكروه، كونهم لم يعهدوا أحدا من قبله قتل أباه ولا شهّر بامرأة قطّ، فلمّا بلغه ذلك أمر بالامرأة فأنزلها ودفنها.

ثمّ إنّه استخفّ بأمر الهياكل والكهنة.

وكان من خبر إبراهيم، صلوات الله عليه وسلم، ما سيأتي ذكره عند ذكر إبراهيم، عليه السلام، مع ذكر الأنبياء، صلوات الله عليهم أجمعين.

وإنّما قصدنا بسوق ذكر ملوك مصر على التوالي، إذ شرطنا يقتضي أن لا تخرج من حديث إلى ما سواه حتّى ينتهي ما قبله، ليكون ذلك سياقه.

(114)

ثمّ إنّ هذا الملك طوطيس أكثر القتل حتّى قتل قراباته وأهل بيته وبني عمه وخدمه ونسائه وكثيرا من الكهنة والحكماء. وكان حريصا

ص: 166

على الولد، فلم يرزق غير ابنته حوريا، وكانت عاقلة لبيبة فطنة حكيمة، وكانت تأخذ على يده كثيرا وتمنعه من سفك الدماء. وأبغضته وأبغضه الناس: الخاصّ والعامّ. فلمّا رأت أمره كذلك، خافت على زوال ملكهم، فسمّته في طعامه فهلك. وكان مدّة ملكه سبعون سنة.

واختلفوا في أمر الملك، فقالوا: لا نملّك علينا أحدا من أهل بيته.

وأرادوا تمليك بعض ولد بني أتريب، فقام بعض الوزراء ودعا إلى تملّك ابنته حوريا، ووصف عقلها وحكمتها وصنيعها في أبيها ولما كانت تنكره عليه من أمواله، فرضوا القوم بها فتمّ لها الأمر.

وملكت حوريا ابنة طوطيس، وجلست على سرير الملك، وأوعدت الناس حسنا، وأخذت في جمع الأموال وحفضتها، وعمارة المواضع والأماكن، وقدّمت الكهنة والحكماء ورؤساء السحرة ورفعت من أقدارهم.

وصار من لم يرض بأمرها إلى مدينة أتريب، وملّكوا عليهم رجلا من ولد أتريب يقال له: أنداحس. فعقد على رأسه تاجا، وتلفّف إليه جماعة من ولد عمّه وأهل بيته. وكبر سلطانه، فسيّرت إليه جيشا، فلم يكن لهم به طاقة. فدعاها إلى نفسه وخطبها، وذكر لها أنّ الممالك لا تقوم بالنساء، وخوّفها أنّ يزول ملكها. فعملت صنيعا وأمرت أن يحضروا الناس على

ص: 167

منازلهم، فحضروا وأكلوا وشربوا وبذلت لهم الأموال، وعرّفتهم ما جرا من ذلك الرجل انداحس وخطبته لها. فبعض صوّب الرأي وبعض امتنع، وقالوا: لا نولّي علينا غيرها، لمعرفتنا بعقلها، وهي وارثة الملك. ووثبوا على قوم ممّن خالفها وقتلوهم، وخرجوا في جيش كثيف، فلقوا جيش انداحس فهزموه، وقتلوا كثيرا من أصحابه. فهرب إلى أرض الشام، وبها الكنعانيّين من ولد عمليق، فاستغاث (115) بملكهم، وأخبره خبره، وضمن له فتح مصر، فجهّزه في جيش عظيم.

فلمّا بلغ أهل مصر ذلك، اجتمعوا بأسرهم إلى حوريا، ففتحت خزائن أبيها وفرّقت أكثرها، وقوّت أمر السحرة والكهنة، وأوعدتهم بالإحسان العظيم إليهم.

وكان على ذلك الجيش الذي يصحبه انداحس قائدا عظيما قدره عند الملك ابن عمليق. فبعثت إليه حوريا تعرّفه رغبتها في تزويجه، لأنّها لا تختار أحدا من أهل بيتها. وكان اسم القائد حمرون. وإن هو قتل انداحس تزوّجته، وسلّمت إليه ملك مصر. فلمّا بلغ القائد ذلك، فرح به، وأسمّ انداحس بسمّ سيّرته إليه، فقتله.

فسيّرت إليه: إنّه لا يجوز أن أتزوّجك، حتّى تظهر في بلدي قوة

ص: 168

حكمتك، وتبني لي مدينة عجيبة-وكان افتخارهم حينئذ بالبناء العظيم وإقامة الأعلام وعمل العجائب-وقالت: انتقل من موضع أنت به إلى غربيّ بلدي، فثمّ <لنا> آثار كثيرة، فاقتف بتلك الأعمال الغريبة. ففعل ذلك، وبنا مدينة بصحراء الغرب يقال لها: اندوبة حمرون، وجرا إليها من النيل نهرا عجيبا وغرس حولها غروسا كثيرة. وكانت تمدّه بالأموال وتكاتب صاحبه عنه وهو لا يعلم. فلمّا فرغ منها، قالت: ابن لنا مدينة أخرى كانت لأوائلنا وقد خربت. فامض على إصلاحها، حتّى أنتقل إليها سريعا، وأبعد عن أهل مملكتي وأكون أنا وأنت بها. وكانت هذه المدينة الإسكندرية وكانت قد خربت.

قلت: وقد رأيت أنّ أهل التاريخ لا يذكرون شيئا من أمر انداحس ولا هذا حمرون. ويقولون: إنّ الذي قصدها كان الوليد بن دومغ العمليقيّ، وهو ثاني الفراعنة بمصر، وإن كان سبب قصده مصر لعلّة اعتلّها. فوجّه من ينظر له مكانا يصلح لعلّته، فوصفت له مصر، فأتاها في جيش كثيف، وهو الذي خطب حوريا لنفسه وإنّها اشترطت عليه بني

ص: 169

المدينة. ولمّا (116) انتهت المدينة، وأنفذ جميع ما كان معه من الأموال على بنائها-وهي الإسكندريّة الثانية-بعد ما رحلت عنها الصادية وخربت.

وكان كلّما بناها خرجت دوابّ من البحر فيهدمونها. فأقام على ذلك مدّة طويلة وهو لا يوري نفسه عجزا. وكانت حوريا قد نفذت إليه في حملت أقامتها له بألف رأس من المعزى اللبون، تستعمل ألبانها في مطبخه.

فكانت مع راع له يثق به. فكان ذلك الراعي يطوف بها ويرعاها هنالك.

وكان إذا أراد <أن> ينصرف بها وقت العشاء، خرجت إليه من البحر جارية حسناء، تشوّق نفسها إليه. فإذا كلّمها شرّطت عليه أن تصارعه، فإن صرعها كانت له، وإن صرعته أخذت من تلك المعزى رأسين. وكانت على طول الأيّام تصرعه وتأخذ الغنم، حتّى أخذت أكثر من نصفها، وتغيّر باقها لتعلّق الراعي بحبّ الجارية وشغله عن رعيتها.

فمرّ به صاحبها، فسأله عن حاله، وكيف نقص غنمه، وهزالها.

فخبّره بخبره وخبر الغنم والجارية خوفا من سطوته. فقال: أيّ وقت تخرج إليك؟ فقال: قرب المساء. فلبس الملك ثياب الراعي، وتولّى

ص: 170

رعايته إلى المساء، وإذا بالجارية خرجت وكلّمته واشترطت عليه، فرضي وصارعها، فصرعها وقبض عليها فشدها كتافا. فقالت له: إن كان لا بدّ من أخذي فسلّمني إلا صاحبي الأوّل، فإنّه ألطف بي منك، وقد عذّبته مدّة طويلة. فردّها إليه. فقال: سلها عن البنيان الذي نبنيه، من يقتلعه وما الحيلة فيه؟ قالت: نعم، تعملون توابيت من زجاج كثيف ولهم أغطية، وتجعلون فيها قوما حذّاق بالصنعة في التصوير، وتجعلون معهم صحفا وما ينقشون به، وزادا يكفيهم أيّاما، وتدعونهم في الماء بحبال مشدودة إليكم، وألقونهم في البحر. فإنّهم ينظرون تلك الصور التي تخرج وتهدّم البناء، فيصنعون كهيئتهم، واعملوا لهم أشباها من صفر ومن الحجارة والرصاص، وانصبوها قدّام ما تبنونه (117) من جانب البحر.

فإنّ تلك الدوابّ إذا خرجت ورأت صورها، هربت. فعرّف الراعي صاحبه بذلك، ففعله وتمّ أمر البنيان.

وقال قوم من أصحاب التاريخ: إنّ صاحب البنيان هذا، والتي جرت له هذه الحكاية، هو جيرون المؤتفكيّ، كان قصدهم قبل الوليد، وإنّما الوليد قصدهم وأتاهم بعد حوريا، وقهرهم وملك مصر. وذكروا أنّ الأموال التي كانت مع جيرون المؤتفكي نفدت جميعها في عمارة هذه المدينة حسبما تقدّم من الشرح في ذلك.

ص: 171

وقيل: إنّ جيرون-وقيل: بل هو حمرون المقدّم ذكره، وقيل: بل هو الوليد بن دومغ-وجد ملعبا مستديرا وحوله تسعة عمد، على رأس كلّ واحد تمثال. فقرّب لكلّ واحد تمثال. فقرّب لكلّ تمثال ثورا سمينا، وألطخ العمد التي تحتهم بدم الثور، وبخّره بشعرة من ذنبه وشيء من نحاتة فقرونه وأظلافه. وقال له: هذا قربانك، فأطلق لي ما عندك فظهر له لوح من صفر منقوش عليه: إذا أنت فعلت ذلك، فقس من جهة كلّ تمثال مائة ذراع من الجهة التي هو متوجّه إليها، واحفر. وليكن ذلك في اجتلاء القمر واستقامة زحل. فإنّك تنتهي بعد خمسين ذراعا إلى بلاطة عظيمة، فألطخها بمرارة ذلك الثور الذي قرّبته لذلك التمثال، واقلعها. فإنّك تنزل منها إلى سرب طوله خمسون ذراعا، في آخره خزانة مقفلة، ومفتاح القفل تحت عتبة الباب. فخذه وألطخ الباب ببقيّة مرارة ذلك الثور ودمه، وبخّر بنحاتة قرونه وأظلافه وشعره، وادخل الباب، فإنّه يستقبلك صنم في عنقه لوح صفر معلّق، مكتوب فيه جميع ما في الخزانة من مال وجواهر وتمثال وآنية وأعجوبة. فخذ ما شئت، ولا تعرض ميّتا تجده ولا ما عليه. وكذلك فافعل بكلّ عمود منهم وتمثاله. وهؤلاء خزائن نواويس سبعة من (118) الملوك وكنوزهم. فلمّا سمع ذلك وامتثله، فوجد ما لا يدرك وصفه،

ص: 172

ووجد من العجائب شيئا كثيرا، فتمّ بناء الإسكندريّة من ذلك المال. فلمّا بلغ حوريا ذلك ساءها؛ وإنّما أرادت إتعابه في غير بلوغ قصده، وإهلاكه بالحيلة عليه.

وذكر أنّه وجد فيما وجد من العجائب بهذه الخزائن: درج ذهب مختوم، فيه مكحلة زبرجد، فيها ذرور أخضر، ومعها عروق جوهر أحمر.

من اكتحل من ذلك الذّرور وكان أشيب، عاد شابّا واسودّ شعره ولحيته وأضاء بصره حتّى يدرك النظر إلى أصناف الروحانيّات. ووجدوا تمثال نمس من ذهب إذا ظهر من صندوقه تعتّمت الدنيا وأمطرت. وكذلك غراب من حجر أسود إذا سئل عن شيء صوّت وأجاب عنه. وقيل: إنّه كان في كلّ خزانة عشر أعجوبات.

فلمّا فرغ من بناء المدينة، وجّه إلى حوريا يعلمها بذلك ويحثّها على الحضور إليه. فأنفذت إليه فرشا فاخرة وأواني عجيبة، وقالت: افرش هؤلاء الفرش وجهزت هذه الآنية وسير إليّ بثلث جيشك إلى ثلث الطريق والثلث الآخر في نصف الطريق، ليكونا من ورائي لحفض خزائني ومملكتي حتّى أحضر إليك. فإنّي أوافيك في جواريّ، فلا تدع عندك من أحتشم منه.

ففعل ذلك. ولمّا لقيها ثلث جيشه، قدّمت إليه الطعامات المفتخرة

ص: 173

وسمّتهم فيه، فماتوا عن آخرهم، وكذلك فعلت بالثّلث الثاني. ثمّ قدمت إليه وحضرت عنده، فلمّا جلس معها نفخت في وجهه فبهت، ورشّت عليه ماء كان معها، مشحونا بالسحر، فارتعدت مفاصله، ثمّ قالت: من ظنّ أنّه يغلب النساء، فقد كذبته نفسه. ثمّ أفصدت عروقه وأسالت دمه، وقالت:

دم الملوك شفاء. ثمّ هلك، فأخذت رأسه فوجّهت به إلى قصرها، فنصبته على شرافته، ونقلت سائر تلك الأموال والجواهر (119) وبنت منار الإسكندريّة، وزبرت عليه اسمها واسمه وما فعلته معه، وتاريخ ذلك.

وصنعت في المنار مرآة تنتظر سائر الجزائر البحريّة عند حركة أهلها، فتكون على حذر من الأعداء.

قلت: وهذه المنار كانت بها هذه المرآة إلى قريب من هذا العهد، وربّما ذكر أنّ بعض الإفرنج تحيّل حتّى كسرها، ورمى بنفسه من أعلا المنار إلى البحر فهلك. وهذا مشهور لا ينكر.

ولمّا انتقل خبرها إلى الملوك هابوها واحترموها وهادوها. وعملت بمصر عجائب كثيرة، وبنت على آخر ناحية النوبة حصن وقنطرة يجري ماء النيل من تحتها.

ثمّ اعتلّت حوريا، فاجتمع إليها أهل مملكتها، وسألوها أن تقلّد

ص: 174

الملك من تراه-ولم يكن من ولد أبيها أحدا ذكرا.

فقلّدت عليهم ابنة عمّها دليقة ابنة ماموم. فكانت هذه دليقة عذراء عاقلة رزينة. وأخذت لها المواثيق على أهل مملكتها بالسمع والطاعة لها، وأوقفتها على كنوزها. وأمرت <إذا ماتت> أن يضمد جسدها بالكافور والموميا والمرّ، كما كانوا يفعلون بأجساد ملوكهم. ونقلت إلى مدينة بنتها في صحراء الغرب، وجعلت لها بها ناؤوسا، ونقلت إليه أصنام الكواكب وزيّنته بأحسن زينة، ونصبت له قومه يخدمون ذلك الناؤوس، وزبرته بالأسماء والطّلّسمات، بعدما أودعته من الأموال والجواهر والأمتعة ما لا يقع عليه قياس ولا حدّ.

ثمّ جلست دليقة ابنة ماموم على سرير الملك، وأجمعت الكلمة عليها، وأحسنت إلى الناس، ووضعت عنهم خراج سنتهم هاتيك.

ثمّ ظهر عليها رايمين المويسيّ يطلبها بثأر خاله انداحس، واستنصر بملك العمالقة. فوجّه معه قائدا من قوّاده في جيش كثيف، وأخرجت إليه دليقة بعض قوّادها. فالتقوا بالعريش، وفعلت سحرة الفريقين العجائب من

ص: 175

التخاييل (120) الهائلة والعجائب الغريبة والأصوات المفزعة، وأقاموا كذلك يتكافئون الحرب ويتراجعون عدّة أشهر، وهلك منهم عالم عظيم من الناس. ثمّ إنّهم هزموا أصحاب دليقة الملكة، وأتوا إلى منف. وصار أصحاب رايمين في آثارهم، ومضت دليقة في جميع جيوشها إلى ناحية الصعيد ونزلت الأشمونين واستعانت بالكهنة وجمعت الجيوش ووقعت الحرب بينهم، ثمّ انهزموا أصحاب رايمين وخرجوا عن منيف وتبعوهم.

وقد كان معهم ساحر من أهل قفط، فأحال بينهم وبين عسكر دليقة بالنيران ومشاهيبها. ولما زاد الأمر بين الفريقين، اتفقا على أن يجعلوا البلاد بينهما نصفين بالسويّة، وأجاب كلّ منهما إلى الصلح.

ثمّ إنّ دليقة أخرجت الأموال والذخائر، واستخدمت الجيوش وحاربت رايمين، فأقاما في الحروب ثلاثة أشهر. ثمّ ظهر رايمين عليها وهزمها إلى ناحية قوص وتمكّن من المملكة بمصر. فلمّا ظهر لها الغلوبة أسمّت نفسها فهلكت.

واستقرّ رايمين بالملك وتجبّر وقتل الجيش الذي كان قد أتا معه من جهة الوليد بن دومغ. فلمّا بلغ الوليد ذلك سيّر من قبله غلام له يقال له:

ص: 176