الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الخبر الثاني عن بهرام جور
ما ذكر أنّ خافان ملك التّرك ذكرت عنده قوّة بهرام جور وشجاعته، فحسده حسدا شديدا. وكان لخاقان وزيران، فذكر ذلك لأفضلهما، وسأله التّدبير في هلاك بهرام جور غيلة. فقال له الوزير: إن كتم الملك هذا عن كلّ أحد بلغت له مراده فيه. فوعده كتمانه. ثمّ لبث مدّة وسأل الوزير عمّا منعه، فماطله مدّة أخرى. فلمّا رأى الوزير أنّ خاقان غير مقلع عن مطالبته بذلك، قال له: أيّها الملك، ما لي حيلة فيما كلّفتنيه، وإنّما علّلتك بالتّسويف رجاء أن يزول من نفسك. فإذا لم يكن قد زال فاندب إليه غيري. فغضب (201) خاقان عليه، وأحضر وزيره الآخر، فأطلعه على الأمر-وكانت فيه شره-فتكفّل لخاقان بما أراد منه، وندب له فاتكا من فتّاك التّرك لا مثل له عندهم في قوّة النفس والبدن، وضمن له إن ظفر ببهرام ورجع سالما أن يقدّمه على الجيوش، وإن هلك دون ذلك أن يشرّف ولده تشريفا يبقى على الدّهر. فضمن له الفاتك ما أحبّ منه من الفتك ببهرام. وأعطاه مالا كثيرا وجهّزه.
فاستصحب ذلك الفاتك أخاه وانطلقا حتّى أتيا إلى حضرة بهرام.
فاتّجه للفاتك من الحيلة أن يظهر أنّه عبدا لأخيه، ويبيعه أخوه من بعض خدم بهرام. فلم يزل أخوه يتلطّف إلى أن أباعه من حافظ قصر الملك
بهرام، الموكّل بحراسته ليلا. فجعل ذلك الفاتك يتحبّب إلى مشتريه بنصح الخدمة واحتمال المشقّة وحفظ المال حتّى نفق عنده واختصّ به.
ثمّ إنّ الحافظ لقصر بهرام تخلّف عن الحراسة لمرض ناله، فأمر الفاتك بانتيابه عنه. وكانت خزائن سلاح بهرام العامّة الخارجة عن قصره بأزاء القصر. فألقى فيها الفاتك النار، ونيط بالحرّاس عن المبادرة إلى إطفائها، حتّى اشتدّ عملها في الخزائن، فارتفعت الضجّة. فخرج بهرام على فرس له، ولا سلاح معه. فدنا منه الفاتك ومعه خنجر قد سقي سمّا قد أخفاه، فرآه بهرام في ضوء النار، فتفرّس فيه الشرّ. فجمع نفسه على ظهر الفرس ثمّ وثب. فإذا هو على الفاتك والفاتك تحته صريعا، فضمّه ضمّة فاستسلم وأظهر الخنجر من بين أثوابه. فانتزعه منه بهرام، وجمع يديه جميعا في يده ليسرى، وانطلق به يقوده حتّى أدخله القصر. فخلّى عنه، وسأله عن أمره، فصدقه الحديث. فقال بهرام: أمّا أنت، فلك ذمّتنا على نفسك أن تكفّ عنّا ونحسن إليك، إذ كنت فيما قصدته طالبا لمرضاة ملك حرّضك على ذلك، وهو مالك عنقك. (202) فلم يكن لك إلاّ قضاء
حقّه وطاعته، ونحن نشحّ على نفسك إذ يسمح بها ملكك، ونحفظ منها ما أضاعه، ولنا أرب في حبسك مكرّما مدّة، ثمّ نطلقك ونحسن إليك، فادللنا على أخيك ليكون معك. فدلّه عليه. فأرسل من أتا به، فسجنهما معا في قصره، وأمرهما أن لا يتفوّها بشيء من أمرهما، وإن نطقا به فقد أحلاّ دمهما وبرئت ذمّته منهما.
وكان قد رفع إليه بعض عيونه أنّ رجلا من أهل الخراج، له بنت لم يسمع بامرأة تشبهها في حسن الخلق وعظيم الخصائص: طولها ستّة أذرع، وشعرها ينسحب على مواطئ قدمها، وكأنّما كسى جلدها قشور الدّرّ، متناسبة الخلق، بديعة التركيب، دقيقة التّخليط، لا يستطيع من نظر إلى عضو من أعضائها أن يصرف نظره عنه، إلاّ بمجاهدة النفس؛ إذا قابلت عيناها عيني ذي لبّ اضطرب قلبه اضطرابا شديدا، فلا يسكن حتّى يضمّها إلى صدره ويرشف من ريقها، أو تحتجب عنه؛ إذا وجد المحزون ريحها ذهل عن حزنه. فشرهت نفس بهرام إليها.
ثمّ إنّه أقنع نفسه بالأنفة، وتنزّه أن تكون عنده ابنة رجل من رعيّته قد عرفها الناس. فصرف نفسه عنها، ونهى أن تذكر له، ومنع أبيها من إنكاحها، وأمره بحفظها حتّى إذا حدث على بهرام من خاقان ما ذكرنا.
فأرسل إلى ذلك العامل، فأمره أن يضيّق على والد تلك الجارية في المطالبة بالخراج ويحمله منه ما لا يطيق، ويضطرّه إلى بيع ابنته-وهذا شيء تفعله أهل الخراج من عامّة الفرس، يبيعون أولادهم ويؤدّوا ما عليهم من الخراج، وصارت لهم بذلك سنّة وعادة.
قال ابن ظفر: ولقد حدّثني من أثق به أنّه رأى رجلا هنديّا ينهى؟؟؟ <دوابّه> راجلا يحمل ابنه على كتفه إلى السوق، فباعه من رجل يبيع الأرزّ. فأنزل الصبيّ عن كتفه، فسلّمه إلى ذلك الرجل وشرا بثمنه أرزّا واحتمله على دوابّ وذهب ليؤتي خراجه. ولم يبال الأب (203) بفراق الابن، ولا الابن بفراق الأب، وكأنّما كان على أبيه صخرة على كتفه، فألقاها وذهب.
والمقصود من هذه الحكاية، ذكر ما كان من الرجل وابنه من قلّة الاكتراث بالأمر، وإلاّ، فبيعهم أولادهم ما لا خفاء به.
ثمّ إنّ بهرام أحضر رجلا من بطانته، كان داهية مفكرا خبيثا لطيف الحيلة. فندبه للمكيدة بخاقان، وفتح له باب المكر به، وأعطاه من الذهب والفضّة ونفائس ذخائر الملوك ما ظنّ أنّه سيحتاج إلى مثلها. وأمره أن يتزيّا بزيّ التّجّار وينطلق إلى والد الجارية فيشتريها منه، ويستعين بها على ما ندبه له، على ما سنذكره بعد ذلك.
فانطلق الرجل فاشترى الجارية من أبيها بوزنها ذهبا، ثمّ قصد بها بلاد الترك، حتّى انتهى إلى حضرة خاقان.
واعتمد ذلك الوزير الذي كان تولّى المكيدة وضمن لخاقان ما أراده من هلاك بهرام. فخصّه بالهدايا وتنفّق عنده بالتّحف، ولازمه إلى أن خفّ على قلبه واشتدّ أنسه به.
فمكث عنده عاما، فمازحه ممازحة لطيفة، ثمّ قال له يوما: إنّي أحببت الوزير حبّا ما أحببته أحدا قطّ، ولي عام أنازع نفسي في إتحافه
بتحفة لم يظفر بمثلها أحد قطّ. فكانت نفسي تغلبني وتدعوني إلى الاستئثار بها. فلمّا غلبت أهوائي وانقادت نفسي إلى إيثارك، قصدت أطالع علم الوزير بذلك. فسأله الوزير عن ذلك. فوصف له الجارية. فما تمالك أن سمع وصفها إلى أن أمر بتعجيل إحضارها. فأحضره إيّاها. فلمّا وقع بصره عليها، لم يملك نفسه أن وثب إليها فعانقها وقبّلها ورشفها.
ثمّ أقبل على سيّدها، فقال له: احتكم. فقال له: حكمي مودّتك والحظوة عندك. فقال الوزير: هذا مبذول لك، ذلك مع هذا من المال ما شئت. قال: لا حاجة لي في المال. وانطلق من فوره فلقي بعض خدم خاقان-وقد كان تقرّب إليه أيضا قبل ذلك بنفائس الهدايا-فذكر له أنّ عنده (204) نصيحة يخاف فوات الفرصة فيها. فاستأذن له على خاقان.
فلمّا مثل بين يديه، سأله عن نصيحته، فقال: إنّي قصدت الملك بتحفة لا تصلح إلاّ له. فعرضتها على الوزير ليوصلها إلى الملك، فتعدّى واستأثر بها، وبذل لي مالا عظيما على كتمان ذلك، فلم أقبله. فسأله عن التّحفة ما هي، فأخبره بأمر الجارية، ووصفها له.
فأرسل خاقان رجالا من ثقاته وأمرهم بالهجوم على الوزير، وحفظ الحال الذي يشاهدونه والإتّيان به وبالجارية محجوبة. فعادوا إلى خاقان
بالوزير وبالجارية، وأخبروه أنّهم وجدوها مجرّدة بين يديه وهو يتأمّلها.
فسأل الجارية، هل نال منها شيئا؟ فقالت: عانقني وضمّني وقبّلني ورشفني وجرّدني فتأمّلني. فأمر بالوزير فقلعت عيناه وقطع لسانه وشفتاه ويداه. وخلا خاقان بالجارية وقد شغف بها. فسألها: أبكر أنت أم ثيّب؟ فقالت: بكر عذراء. فلم يملك نفسه أن افتضّها مكانه. ولمّا نزع عنها، انتزعت قناعا نفيسا كان على رأسها، فمسحت به الملك. فأحسّ بذكره تنمّلا. ثمّ ابتدأ فيه نفخة وتغيّر لونه. فبادر إلى موسى فخمّ ذكره خوفا على نفسه، ولتحقّقه أنّه مسموم. وأمر بالجارية فنحت عنه. وأحضر من عالجه وداواه. فطلب مولى الجارية أشدّ الطلب، فلم يعلم له خبرا.
ثمّ إنّه أحضر الجارية فسألها عن نفسها وبلدها، فصدقته. وسألها عن مولاها، فلم تعرفه. غير أنّها ذكرت أنّه تاجر اشتراها من أبيها بوزنها ذهبا.
وسألها عن القناع الذي مسحته به، فذكرت له أنّ مولاها كساها إيّاه، وأنّه ذكر لها قبل ذلك أنّها تصير إلى الملك، وأنّ الملوك إذا غشي أحدهم المرأة، فعليها-من خدمتها له-أن تمسح ذكره بقناع رأسها مكرّمة له.
فمتى لم تفعل ذلك فقد تعرّضت لسخط الملك. فعلم خاقان أنّ الجارية مخدوعة (205) وأن لا ذنب لها، مع ما خامره من الإعجاب بها، فاستبقاها، وخفي عنه الوجه الذي دهي منه.
ولمّا رجع صاحب بهرام وأعلمه بما تمّ له من الكيد على خاقان، أحضر بهرام ذلك الفاتك التركيّ وأخاه وأحسن إليهما وسرّحهما إلى خاقان، وأصحبهما كتابا إليه قال فيه: إنّ الحسد والبغي أورداه وأوردا وزيره-وزير السّوء-بوارد النّدم؛ وقد كنّا قبل ذلك-أيّها الملك-ننزلك منازل الأخوّة؛ فلمّا علمنا سوء رأيك فينا وخبث نيّتك لنا، حسدا منك لنا من غير جرم سبق منّا إليك، أردنا بك ما أردته بنا، فقضى الله لنا عليك بنجاح سعينا وخيبة سعيك، لمّا اطّلع الله تعالى على فساد نيّتك وصلاح نيّتنا. وقد كان وزيرك الصالح قضى حقّك ونظر لك نظرا، حجبك الحسد والبغي عن تأمّل صلاحه. وإذا بقّى الله على نفسك فلسنا نعرض لك بسوء