الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال آخرون: هذه الأنهار تخرج من أنهار تتكاتف وتذيبها الحرارة، فتسيل إلى هذه الأنهار وتسقي من عليها، لما يريد الله تعالى من تدبير خلقه.
أخبار الوليد بن دومغ
قالوا: إنّ الوليد بن عمليق لمّا بلغ إلى جبل القمر رأى جبلا عاليا، فأعمل الحيلة إلى أن صعد عليه ليرا ما خلفه، فأشرف على البحر الأسود الزّفتيّ المنتن، ونظر إلى النيل يجري عليه كالأنهار الرقاق، وأنّه أتته من تلك النواحي روائح منتنة حتّى أهلكت كثير من أصحابه، فأسرع النزول بعد أن كاد يهلك.
وذكروا قوما أنّهم لم يروا هناك شمسا ولا قمرا إلاّ نورا لا يعلمون ما هو. وزعموا أنّ الوليد أقام في غيبته هذه سبعين سنة وأنّ عونا غلامه، بعد مضيّ سبع سنين من مسير الوليد، ادّعا الملك، وأنكر أن يكون غلاما للوليد، وأنّه أخوه من دومغ، ووثب على الناس وغلب عليهم بالسّحر.
فإنّهم أطاعوه، واستباح نساءهم، ولم يترك امرأة من نساء ملوك مصر حتّى نكحها، ولا مالا إلاّ أخذه وبقتل صاحبه. وكان مع ذلك يكرّم الهياكل
ويعظّم الكهنة، وأطاف به من السحرة ما لم يطوفوا بغيره لكثرة إكرامه لهم وتعظيمه إيّاهم.
ثمّ إنّه رأى في منامه كأنّ الوليد بن دومغ قد عاد، وهو قائم بين يديه، وهو يقول له: من أمرك أن تتسمّى بالملك، وأن تنكح نساء الملوك، وأخذ الأموال لغير (126) واجب؟ ثمّ أمر به أن يضع في قدر قد ملئت زيتا قد غلى عليه حتّى طار لهبه. فأتا طائرا في صورة عقاب فاختطفه من بين يديه وحلّق به في الجوّ حتّى جعله فوق أعلا جبل، وأنّه سقط من الجبل إلى واد فيه كمأة مشنبة. فانتبه مذعورا، وقد كان في فعله ذلك كلّما ذكر الوليد وعودته وخطر بقلبه، يكاد عقله أن يطير فرقا منه، لما يعلمه من فضاضته وقوّة بطشه. فاختلا ببعض من يثق به من السّحرة الكبار، وأظهره على سرّه، وقصّ عليه رؤياه. فقال الساحر: إنّ هذا العقاب روحانيّ قد أوراك صفته، وإنّك إذا عبدته خلّصك من جميع ما يضرّك. قال عون:
أشهد لقد قال لي العقاب وأنا أسمع: اعرف لي هذا المقام ولا تنسه.
فقالوا: قد نبّهك على مصلحتك.
فصنع تمثال عقاب من ذهب، وجعل عينيه من جوهرتين، وكلّله بأنواع اليواقيت، وعمل له هيكلا لطيفا، وأرخى عليه الستور <من> الديباج الملوّن، وأقبل أولئك على سحره وقربانه إلى أن نطق لهم. فأقام
عونا على عبادته ودعا الناس إلى ذلك، فأجابوه من خوفهم من شرّه.
فلمّا مضا لذلك مدّة أمره العقاب أن يبتني له مدينة يحول إليها وتكون له معقلا وحرزا من كلّ أحد. فأمر عند ذلك بكلّ صانع بمصر وأن ينظروا له مكان بالصحارى ويطلبوا له أرضا سهلة صعبة، ذات طرق وعرة، وتكون قريبة من مغيض الماء، وهي التي ابتناها يوسف، عليه السلام، بعد ما صارت مغيض ماء، وهي الفيّوم. فلمّا خرجوا أصحابه ووجدوا هذه الأرض، أمرهم ببنائها وأخرج إليهم سائر ما يحتاجون إليه.
وأخرج السحرة ليكون في معونتهم الروحانيّين الذين في طاعتهم. وأقام يحمل إليهم الزاد على العجل شهورا على الطريق من وراء الأهرام، وهي التي يقصدها أصحاب المطالب، وتسمّى بطريق العبيد. وذلك (127) كون أنّ عبيد عون كانوا يحملون على العجل الزاد للصنّاع في هذه الطريق، فسمّيت بهم.
فلمّا تكامل بنائها، حفروا بها بئرا وجعلوا فيه بيوتا وجعلوا في تلك البيوت تمثال خنزير من نحاس بأخلاط ممنوعة، ونصبوه وجعلوا وجهه في شرقيّة. وأخذوا خنزيرا فذبحوه ولطّخوا وجهه بدمه، وبخّروه بشعره.
وأخذوا أشياء من شعره وعظامه ودمه ولحمه ومرارته، فجعلوه في جوف ذلك الخنزير التمثال ونقشوا عليه آيات زحل. ثمّ شقّوا في البئر أخدودا،
وكان ذلك بطالع زحل واستقامته وسلامته من المضادّين له وهو في شرفه.
ثمّ شقّوا ذلك الأخدود من أربعة أوجه: شرق وغرب وجنوب وشمال.
ومدّوا تلك الأخاديد إلى حيطان المدينة، وعملوا على أفواهها مسارب تجلب الرياح إليها. ثمّ سدّوها وعملوا عليها قبّة على عمد مرتفعة، وجعلوا حول القبّة تماثيل فرسان من نحاس، بأيديهم حراب ووجوهم مقابلة لتلك الأبواب.
وجعلوا أساس المدينة من حجر أسود وفوقه أحمر وفوقه أصفر وفوقه أخضر وأعلا الجميع أبيض، مبنيّة كلّها بالرصاص المصبوب بين الحجارة، وقلوبها أعمدة من حديد، على ترتيب بناء الأهرام، وجعل طول حصنها ثمانين ذراعا. ونصّب على كلّ باب من أبوابها في أعلا الحصن تمثال عقاب كبير من صفر وأخلاط، مجوّف ناشر الجناحين. وعمل كلّ ركن صورة فارس بيده حربة، متوجّه إلى الباب. وقرّب لذلك العقاب عقبانا ذكورا ولطّخه بدمائهم واجتلب الرياح إلى أبواب التماثيل. فكانت الرياح إذا دخلتها سمعت لها أصواتا شديدة، ولا يسمعها أحد إلاّ هالته.
وصفحدها بعفارت تمنع الداخل إليها إلاّ أن يكون من أهلها. ونصب ذلك العقاب الذي كان يتعبّد له تحت قبّته التي صنعها له في وسط المدينة على قاعدة لها أربعة أركان، (128) في كلّ ركن منها وجه شيطان. وجعلها على عمود تدور. وكان العقاب يدور إلى كلّ جهة من الأربع الجهات ويقيم في كلّ جهة ربع السنة.
وصنع له أربعة أعياد، عدد دوراته في السنة. ولمّا فرغ من ذلك كلّه حمل إليها سائر أمواله وذخائره وما كان في خزائن الملوك من الذخائر
النفيسة، وحوّل إليها كبار السحرة والكهنة وسائر أصحاب الصنائع والتجارات وأرباب الزراعات، وقسّم لهم مساكن بحيث لا تختلط طائفة مع غيرها.
وعقد على تلك الجسور قناطر يمشي عليها الداخل إلى المدينة.
وجعل الماء يدور حول الرّبض وعلها أعلاما وحرسا. ثمّ أمر فغرست من وراء تلك المدينة النخيل والأشجار من سائر الأصناف. وجعل من وراء ذلك مزارع الغلاّت من سائر الحبوب. وكان يرتفع منها كلّ سنة ما يكفيه لعشر سنين. كلّ ذلك خوفا من الوليد بن دومغ. وبين هذه المدينة وبين مدينة منف ثلاثة أيّام. وعاد يخرج إليها ويقيم بها الأيّام ثمّ يعود إلى منف.
فلمّا تمّ لعون ذلك اطمأنّ قلبه وسكتت نفسه، إلى أن وافا الوليد إلى ناحية النّوبة، وورد على عون كتابا يأمره <فيه> أن ينفّذ إليه الأزواد وينصف له الأسواق. فوجّه ذلك كلّه في المراكب وعلى الظّهر. ثمّ حول جميع عياله ومن اصطفاه من بنات ملوك مصر وكبرائها إلى المدينة المذكورة، حتّى إذا قرب دخول الوليد إلى مصر تحوّل إلى المدينة وتحصّن بها وخلّف الوليد من بعده خليفة يلقاه ويكون بين يديه.
ودخل الوليد مصر فتلقّاه أهلها وشكوا إليه ما لا قوة من عون وما حلّ بهم منه. قال: فأين عون؟ قالوا: فرّ عون. فاستقرّ هذا الاسم بعد ذلك لمن يلي ملك مصر.