الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما ألزمت حسن النظر لنفسك بمسالمتنا، والسلام.
فلمّا انتهى إليه الكتاب عرف وجه الأمر، فتنجّز وتجهّز لغزو الفرس وجمع من الجيوش ما لم يجتمع مثله لملك. وبلغ ذلك بهرام، فانتخب له ذوي البأس والنجدة من الفرس، فلقيه بهم. فلم تغن عن خاقان جيوشه، وفضحه بهرام واستباح عسكره. وهذا كان سبب حرب التّرك للفرس، والله أعلم.
قلت: قد تقدّم الكلام في أنّ الفرس ملّكوا شابور، ذو الأكتاف، وهو في بطن أمّه. ولم نشرح الحال في ذلك. فاقتضى الحال أن نذكر من ذلك طرفا منه يردّ تشوّق النفس عن مطلوبها لذلك.
<
ذكر شابور ذي الأكتاف
>
زعم الفرس أنّ شابور، ذا الأكتاف، عزي إليه الملك وهو في بطن أمّه جنينا. وذلك أنّ أباه هرمز كان حسن السيرة فيهم، عدل القضيّة بينهم، متحنّنا عليهم. فلمّا هلك ولم يخلّف ولدا ينهض بأمور الملك، شقّ عليهم ذلك. فدخل على نسائه موبدان موبد، فقال: هل تحسّ منكم امرأة بحمل؟ فذكرت إحداهنّ أنّها تحسّ حملا. فقال لها: إنّ المرأة تفطن
(206)
لكون جنينها ذكرا أو أنثى. فقالت المرأة: إنّي أرى من نضارة لوني، وخفّة حملي، وقوّة حركة الجنين في بطني، وميله إلى شقّي الأيمن ما يدلّني على أنّه ذكر. فبشّر موبدان موبد أهل المملكة بذلك وأحضر التّاج، فعقده على بطن أمّه-تلك المرأة الحامل-وأخذ على الرعيّة مواثيق الطاعة لجنينها، وجعلوا ينتظرون ما يكون منها، إلى أن ولدت ذكرا سويّ البنية، جميل الصورة مفحم الخلق، تامّ القامة، فسمّي شابور.
فجدّد له عقد الطاعة، وأخذ الوزراء في تدبير المملكة وتنفيذ الأمور وسدّ الثغور. واحتذوا أمثال سيرة هرمز، إلاّ أنّ أمرهم ضعف، لعدم تدبير الرأس الضابط. وطمع في مملكتهم من جاورهم من الأمم، وعادوا ينتقصونهم من أطرافهم. وافتتحت الأعراب ما يلي بلادهم منها، فعاثوا، ولم يكن عند الوزراء دفع ذلك. ولمّا بلغ شابور من السنين ستّ سنين نام
نهارا، فأيقظه ضجّة الناس. فقال لمن حضره من خدمه: ما هذه الضجّة؟ فقيل له: هذه أصوات الناس على الجسر، يستوقف بعضهم بعضا لكثرتهم وازدحامهم، ويضجّ المقبل منهم بالمدبر. فقال شابور: أيّ شيء يدعوا إلى تكلّفهم هذه المشقّة؟ ليعقد لهم جسرا آخر، يكون أحد الجسرين للذاهبين والآخر للجائين. فنما ذلك إلى أهل المملكة، فعظم سرورهم به، وتباشروا بجودة فطنته لمصلحة رعيّته، ورأفته <بها>. وكان الوزراء بعد ذلك يعرضوا عليه بعض الأمور ليندرج في السياسة، ويتدرّب على النّظر للرّعيّة.
ومن عجيب ما حكي عنه، أنّ رجلا من الأساورة غضب لأمر ناله، فضمّ إلى نفسه جماعة من الفسّاد، فكان يقطع بهم السّبل. وطلب أشدّ طلب، فلم يظفر به. ثمّ إنّه أتا مستسلما، فعرضت على شابور قصّته.
فقال: يعفى عنه ويحسن إليه. فقيل له: إنّا لو قتلناه ليزدجر من يتشرّف إلى مثل (207) فعله من المفسدين. فقال: بئس الرأي هذا؛ إنّ الجاني إذا يئس من العفو أصرّ على الجناية، وإذا طمع في العفو أسرع المراجعة.
وقال يوما لخواصّه من حواضنه: إذا كنتنّ عندي فلا تنظر إحداكنّ إلى الأخرى، ولا تتحدّث معها إلاّ فيما أمرتنّ به من مراعاة أحوالي والمساررة بحضرتي ما دمتنّ بين يديّ.
وذكر أنّ موبدان موبد دخل إليه يوما، فقال له: أيّها الملك، عشت الدهر وملكت الأقاليم السبعة. إنّ العقل عقلان: عقل مولود وعقل مستفاد. وإنّ الربّ قد أفاض على الملك المولود من العقل ما لا أفاضه على غيره. والعقل المستفاد إنّما ينال بصحبة الحكماء، وإنّ الموسومين بخدمة الملك من الفلاسفة شكوا إعراضا وسآمة من الملك. فقال شابور:
الحمد لواهب العقل المولود، وأمّا السآمة فلم تكن منّا، وأمّا الإعراض
فإنّهم قصّروا لنا في بعض المحاضرة بحكم السنّ، فنبّهناهم على غلطهم ببعض الإعراض. ولذلك ظنّوا سآمتنا، ولسنا لها. فسجد موبدان موبد وخرج من عنده. فأمر أن يكتب في هيكل الحكمة: إنّ الملوك متميّزة بعقولها وأخلاقها عن مشاكلة من سواها من الناس. فمن نصحها بغير ما يلائمها وقصّر عن توفيتها ما يجب لأقدارها، عطب.
قيل: ولم يزل أهل مملكته يتعرّفون منه سموّ الهمّة، ولطف الفطنة، وسعة الصّدر، واستنباط المصالح، واعتماد العدل، إلى أن بلغ سنّة ستّة عشر سنة. فأمر أن ينتخب له ألف فارس من الأساورة، ذوي القوّة والنّجدة والبأس، وأن تزاح عللهم، وتبسط آمالهم. فامتثل أمره. فجعلهم خاصّته.
وخرج في عشرة آلاف من جيوشه إلى الأعراب الذين كانوا أعاثوا في أطراف مملكته، فأوقع بهم، فنال منهم، وأوغل في آثارهم طلبا، وغوّر مياههم وخلع أكتافهم، فسمّي: ذو الأكتاف. ولم يتعرّض لشيء من
أموالهم وسلبهم. ثمّ (208) نازعته نفسه إلى دخول أرض الروم متنكّرا، ليرا قوّتهم، ويطّلع على عورات ثغورهم، ويخبر كنه هممهم، لما كان يؤمّله من غزوهم. فأمر من كان معه من الأساورة والجيوش بالرجوع إلى أرضهم، واستصحب وزيرا كان أفضل وزرائه، فدخل معه أرض الروم متنكّرا.
وقد ذكر خبره ابن ظفر في كتابه المسمّى بسلوان المطاع، ما يغني عن استيعاب جملته ها هنا، وذكر مسيره إلى بلاد الروم وتطوافه، وقبض ملك الروم عليه، بدلالة المتفرّسين، وسجنه في تمثال بقرة، وخروج ملك الروم بجيوشه إلى بلاد فارس وشابور معه مسجونا في ذلك التمثال، وما دبّره وزير شابور في صحبته لوزير ملك الروم، وما جرى بينهما من المحاورات، وسعيه في خلاصه، وعوده إلى بلاد ملكه، وتدبيره في القبض على قيصر ملك الروم وظفره به، واستبقائه إيّاه، وأخذه بصلاح جميع ما أفسده من بلاده.
وهذه الواقعة أيضا أثبتّها بجملتها في كتابي المسمّى بأعيان الأمثال وأمثال الأعيان في المحاضرة الملوكيّة، إذ هو مشتمل على اثنتي عشر محاضرة. وهو كتاب نفيس، يحتوي على زبد أخبار العالم، ألّفته قبل وضعي لهذا التاريخ. فلذلك لم أذكر في هذا التاريخ شيء ممّا أثبتّه في ذلك الكتاب، حفظا منّا لبهجة مطالع ذلك الكتاب، وتوقّيا لما أودعنا فيه في كلّ فصل وباب.