المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر حاتم الطائي ونبذ من أخباره - كنز الدرر وجامع الغرر - جـ ٢

[ابن الدواداري]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المصنف]

- ‌ذكر انقضاء مدّة العالم وابتدائهواختلاف العلماء في ذلك

- ‌ذكر ما لخّص من مقامة لابن الجوزيّ، رحمه اللهوهي الباينة مما يتعلّق بذكر آدم، عليه السلام

- ‌نستفتح الكلام بذكر آدم، عليه السلام

- ‌فصلفي إعلام الله تعالى الملائكة بخلقه

- ‌فصلفي الخليفة

- ‌فصلقوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} الآية

- ‌فصلفي قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ}

- ‌ذكر خلق آدم، عليه السلام

- ‌فصلفي تعليمه الأسماء كلّها

- ‌فصلفي سجود الملائكة، عليهم السلام

- ‌(28) فصلفي قوله تعالى: {إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَاِسْتَكْبَرَ}

- ‌فصل ذكر خلق حوّاء، عليها السلام

- ‌فصل(31)في مقام آدم في الجنّة

- ‌فصل: ذكر الشجرة المنهيّ عنها

- ‌فصل في احتيال إبليس على دخول الجنّة

- ‌فصلقوله تعالى: {وَقُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الآية

- ‌فصلفي ذكر المكان الذي أهبطوا إليه

- ‌فصلفيما تجدّد لآدم بعد هبوطه من الجوار

- ‌(42) فصلفيما نزل مع آدم من الجنّة

- ‌ذكر قابيل بن آدم وما كان من أمره بعد أن قتل أخاه هابيل

- ‌ذكر شيث بن آدم، صلوات الله عليهما،وعدد الكتب والصحف التي أنزلت عليه

- ‌ذكر أنوش بن شيث بن آدم، عليه السلام

- ‌ذكر قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، عليه السلام

- ‌ذكر برد بن قينان بن أنوش بن آدم، عليه السلام

- ‌ذكر أخنوخ، وهو إدريس النبيّ، صلوات الله عليه وسلم

- ‌ذكر متوشلح بن إدريس، عليه السلام

- ‌ذكر لامك، أبو نوح، عليه السلام

- ‌ذكر نوح، عليه السلام، وقصّته مع قومه

- ‌ذكر أولاد نوح، عليه السلام، وهم سام وحام ويافثوما ولد كلّ إنسان منهم من الأمم

- ‌ذكر كنعان بن حام وأولاده وشعوبه والفراعنة منهم

- ‌ذكر ملوك مصر من ولد حام

- ‌ذكر أولاد يافث بن نوح، عليه السلام،وقبائلهم وشعوبهم وأخبارهم

- ‌ذكر يأجوج ومأجوج

- ‌ذكر السدّ الذي سدّه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج

- ‌ذكر الصقالبة

- ‌ذكر اليونانيّون الأوّلون من ولد يافث بن نوح عليه السلام

- ‌ذكر مملكة الروم

- ‌ذكر ملوك الصّين من ولد يافث

- ‌ذكر الإفرنج

- ‌ذكر مملكة الأندلس

- ‌ذكر مملكة الترك

- ‌ذكر مملكة خراسان

- ‌ذكر أولاد سام بن نوح، عليه السلام

- ‌ذكر تفرّق الطوائف من الناس بعد الطوفان

- ‌ذكر عاد

- ‌ذكر الكهّان القديمة بمصر من قبل الطوفان

- ‌ذكر قومة الكاهنة وما صنعت من العجائب في وقتها

- ‌(77) ذكر الأهرام وأوّل بنائها والسبب في ذلكوما فيها من العجائب

- ‌ذكر ملوك من ولد سوريد واتّصال بعضهم ببعض إلى آخر وقت

- ‌ذكر الكهّان من بعد الطوفان إلى حين خراب مصر

- ‌(91) ذكر ملوك مصر بعد الطوفان من وجه آخر

- ‌ذكر الوليد بن دومغ، أوّل الفراعنة بمصر

- ‌أخبار الوليد بن دومغ

- ‌ذكر نهراوس

- ‌ذكر دريوش

- ‌ذكر مقاريوس

- ‌ذكر اقسامين

- ‌ذكر ظلما بن فرمس

- ‌ولنبتدئ بذكر بقيّة الأنبياء، صلوات الله عليهم،بعد نوح عليه السلام

- ‌ذكر هود، عليه السلام

- ‌ذكر صالح، عليه السلام

- ‌ذكر إبراهيم الخليل، صلوات الله عليه

- ‌ذكر لوط، عليه السلام

- ‌ذكر إسماعيل، عليه السلام

- ‌ذكر يعقوب، عليه السلام

- ‌ذكر يوسف، عليه السلام

- ‌ذكر أيّوب، عليه السلام

- ‌ذكر شعيب، عليه السلام

- ‌ذكر الخضر، عليه السلام

- ‌ذكر موسى وهارون، عليهما السلام

- ‌ذكر أشمويل، عليه السلام، وداود، عليه السلام

- ‌ذكر سليمان بن داود، عليه السلام

- ‌ذكر رحبعم

- ‌ذكر أخبار آل داود

- ‌ذكر يونس بن متّا، عليه السلام

- ‌ذكر زكريّا، عليه السلام

- ‌ذكر عيسى ابن مريم، صلوات الله عليه

- ‌ذكر أهل القرية

- ‌ذكر ذو الكفل

- ‌ذكر لقمان الحكيم

- ‌ذكر أصحاب الأخدود

- ‌ذكر أصحاب الكهف

- ‌ذكر سائر ملوك الأرض وأسمائهمومدد تملّكهم إلى آخر وقت

- ‌ذكر الطّبقة الأولى لملوك الفرس

- ‌(177) ذكر الطبقة الثانية من ملوك الفرس وهم الكيسانيّة

- ‌ملحق من الأصل

- ‌ذكر الطبقة الثالثة من ملوك الفرس

- ‌ذكر ملوك الطبقة الرابعة من الفرس وهم الساسانيّة

- ‌ذكر نبذ من أخبارهم

- ‌ذكر الخبر الأوّل عن بهرام جور

- ‌ذكر الخبر الثاني عن بهرام جور

- ‌ذكر شابور ذي الأكتاف

- ‌ذكر ملوك البطالسة، وهم اليونانيّون

- ‌ذكر ملوك رومية، وهم المعروفون بالقياصرة

- ‌ذكر ملوك القسطنطينيّة بحكم الاختلاف

- ‌ذكر من ملك مصر من ملوك بعدما غرّق الله تعالى فرعون

- ‌ذكر بخت نصّر وسنة دخوله مصر وسبي بني إسرائيل

- ‌ذكر سبب انكشاف فارس عن الروم

- ‌ذكر ملوك العرب وأصولها وفروعها وبطونها

- ‌ذكر ملوك اللّخميّين وهم ملوك الحيرة، عرب العراق

- ‌ذكر ملوك العرب من آل جفنة

- ‌(233) ذكر التّبابعة من حمير ملوك اليمن

- ‌ذكر ملوك كندة بحكم التلخيص

- ‌ذكر وقائع العرب وحروبها في أيّامها المشهورة

- ‌ذكر كليب ومهلهل ابنا ربيعة،وهو حرب البسوس المذكور

- ‌(253) ذكر حرب عبس وبنو عامر والسبب فيه

- ‌هذا ذكر حرب داحس والغبراء المشهورة من أيّام حروب العرب

- ‌ذكر حاتم الطّائي ونبذ من أخباره

- ‌ذكر أيضا حاتم من وجه آخر

- ‌ذكر عنترة العبسيّ من وجه آخر

- ‌ذكر عروة بن الورد العبسيّ، جاهليّ

- ‌ذكر دريد بن الصّمّة والخنساء بنت عمر بن الشّريد السّلميّ

- ‌ذكر ذو الإصبع العدوانيّ، جاهليّ

- ‌(305) ذكر تأبّط شرّا وطرفا من خبره

- ‌ذكر الفحول من شعراء الجاهليّة ولمعا من شعرهم

- ‌ذكر امرئ القيس بن حجر

- ‌ذكر النّابغة الذّبيانيّ ولمعا من أخباره وأشعاره

- ‌ذكر زهير بن أبي سلمى وطرفا من شعره

- ‌ذكر طرفة بن العبد، جاهليّ

- ‌ذكر علقمة بن عبدة الفحل، جاهليّ

- ‌ذكر المتلمّس وبعض أخباره وطرف من أشعاره، جاهليّ

- ‌ذكر الأعشى، جاهليّ

- ‌ذكر عبيد بن الأبرص، جاهليّ

- ‌ذكر لبيد بن ربيعة وطرف من أخباره

- ‌ذكر عمرو بن كلثوم، جاهليّ

- ‌(336) ذكر المرقّشان: الأكبر والأصغر، جاهليّين

- ‌ذكر الأسود بن يعفر الدّارميّ، جاهليّ

- ‌ذكر عمرو بن قميئة

- ‌ذكر أبو دؤاد الإياديّ، جاهليّ

- ‌ذكر عديّ بن زيد

- ‌ذكر الأفوه الأوديّ، جاهليّ

- ‌(343) ذكر أبو كبير الهذليّ، جاهليّ

- ‌ذكر من تلا هؤلاء من المبشّرين بظهور سيّد المرسلين

- ‌ذكر زيد بن عمرو بن نفيل، جاهليّ، وفيه حديث

- ‌ذكر مدرج الرّيح، عامر المجنون الجرميّ

- ‌ذكر سعية بن غريض

- ‌ذكر أبو الصّلت، جاهليّ

- ‌ذكر ورقة بن نوفل، جاهليّ، وفيه حديث

- ‌ذكر ما الخّص من كهّان العرب في الجاهليّة

- ‌ذكر عدد الأنبياء والمرسلين والكتب المنزلة عليهم،صلوات الله عليهم أجمعين

- ‌ذكر التواريخ من لدن، آدم عليه السلام، إلى آخر وقت

- ‌ملحق

- ‌سرد المصادر والمراجع

الفصل: ‌ذكر حاتم الطائي ونبذ من أخباره

‌ذكر حاتم الطّائي ونبذ من أخباره

قال الأصمعيّ وأبو عبيدة: إنّه جرى بمجلس كسرى ذكر لحاتم الطائيّ، فسأل من النّعمان بن المنذر عنه، فقال: أيّها الملك! أجمع الناس أنّه لم يكن أحدا بلغ في الكرم ما فعله حاتم، حتّى بلغ به الأمر إلى بيع نفسه، وأقرى ضيوفه. فقال كسرى: وكيف كان ذلك؟ فقال: نعم أيّها الملك، هذا حاتم تعلّم الكرم من أمّه غنيّة بيت عفيف. وكان أبوها قد مات وخلّف لها أموالا جمّة لا تدرك، فأنفذت أكثرها في الجود على الناس. وإنّ إخوتها أزوجوها لرجل يقال له: سعد بن عبد الله الجلهميّ، واقتصدوا ذلك لعلمهم أنّه لم يكن في العرب أشحّ منه، وقالوا: هذا يضرب على يدها ولا يمكّنها من بذرقة مالها.

فلمّا ولدت حاتم، انتشأ أكرم أهل زمانه. وكانت أمّه تحسّن له ذلك وتقوّيه على مراده. ومات أبوه، ونفذ جميع ما كان لهما حتّى بلغ بهما الجهد إلى أن باتا بلا عشاء، ولم يكن عندهما ما يتقوّتاه، ونزل بهما أضيافا على ما كانوا يعلمون من حاتم. فدخل على أمّه وقال: ألا تري إلى أضيافنا؟ وكيف لا يملك شيئا من المدنيا. فقالت له أمّه: يا حاتم، خذ بيدي وأخرجني إلى القافلة، (279) وقل: من يشتري هذه الخادم البازلة؟

ص: 419

وبعني بما تضيف به أضيافك الليلة، ولا تحزن على قلّة ما بيدك. فقال حاتم: معاذ الله يا أمّاه أن أبيعك وأنت امرأة ضعيفة عن ما يراد منك من الخدمة! وإنّما، وحقّ البيت الحرام، وزمزم والمقام، متى لم تفعلي أنتي بي هذا وتبيعيني بما تقري به هؤلاء القوم، وإلاّ قتلت نفسي بيدي. فلمّا تحقّقت من ذلك، قامت به إلى القافلة الواردين عليهما وأباعته بناقتين، ونحرتهما للأضياف.

ولمّا كان عند الصباح، توجّه حاتم مع مولاه الذي شراه، بعدما ودّع أمّه وأخته، وسار يسوق جمال مولاه ونياقه إلى دياره. ثمّ سلّم إليه مولاه سائر أمواله وجماله، وبقي على مثل ذلك ثلاث شهور. وفي الشهر الرابع نزل على سيّده رجل من طيء-وكان اسم مولاه لائم بن خارقة. فلمّا كان عند المساء جلس الطائيّ للعشاء، فرفع رأسه فرأى حاتم واقف من جملة العبيد في الخدمة، فعرفه، وما خفا عليه أحواله. فقال لمولاه: من اين لك هذا العبد النجيب البازل؟ فقال: هذا شريته من بني طيء بناقتين. واليوم، لو طلب منّي بعشرين ناقة ما بعته. لما بان لي منه من الأمانة وعدم الخيانة. فضحك الطائيّ من كلامه، وقال: يا أمير، لقد اشتريت عبدا ما عرفت له قيمة، ووقعت والله بالدّرّة اليتيمة. ولو عرفته ما كنت استخدمته، بل كنت خدمته وأكرمته. فلمّا سمع مولاه هذا الكلام، رفع يده عن الطعام، وقال: يا وجه العرب، ما معنى هذا المقال؟ فقال الطائيّ: والله ما بعبد ولا ابن أمة، ولكن ابن حرّة مكرّمة. هذا حاتم طيء الذي بلغ من الكرم ما لا بلغه أحدا من الخلق، وما أظنّه أباع نفسه إلاّ لقضيّة عجيبة

ص: 420

وأمور غريبة. قال: وكان هذا لائم سيّد مذكور بالسخاء والجود مع الحال المتّبع. فلمّا تذكر حاتم، مع ما تواردت عليه من أخباره، طاش عقله وقام على قدميه وأعتق (280) حاتم وأجلسه وغيّر عليه أثوابه، وسأله عن سبب بيعه نفسه، فقصّ عليه حديثه وسببه. فعظم ذلك على لائم. ثمّ إنّه قطع ماله نصفين وشطره شطرين، وأعطى حاتم الشطر الواحد، فكان ألف ناقة وجمل، وخيل وإماء وعبيد، وقماش وأثاث بجملة كبيرة، وعاد إلى أهله.

وكانوا أهل الحيّ إذا سألوا من غنيّة أمّ حاتم عن ولدها، تقول: غدا يتكسّب. وكان لائم قد أعطى حاتم بعد ذلك مولّدتين وتخت قماش وطيب ومائة ناقة، وقال: أوصل هذا لأمّك، حقّ دلالتها عليك، لأنّها باعت بيع السّماح. فشكره حاتم على ذلك. ولمّا وصل إلى الحيّ خرجت بنو طيء إلى ملتقاه، وهم يظنوا أنّه كسب جميع ذلك.

فلمّا سمع كسرا ذلك، قال: ثمّ ماذا فعل حاتم بالمال؟ فقال: لم يصل إلى الحيّ حتّى فرّق أكثره على أهل الحيّ وفقراه وصعاليكه، وأبقى منه ما يسدّ به خلله ولإقامة رسمه لنزّاله وضيوفه. فقال كسرى: والله لا بدّ لي من امتحان هذا الرجل. وأمر بعض حجّابه أن يمضي إلى حاتم ويقول له: إنّ الملك كسرى قد احتاج إلى جمال يشيل عليها بعض أشغاله، وقد سيّرني الملك قاصدا. فامتثل الحاجب ذلك، ولم يزال حتّى قدم على

ص: 421

حاتم فاستنزله وأحسن ضيافته وقراه، وبلّغه الحاجب ذلك فقال: السّمع والطّاعة، والله للملك العادل بتّ الليلة على خير إلى غد. ولم يكن يملك حاتم غير ناقة واحدة يشيل عليها أمّه وأخته إذا انتقلت العرب من دار إلى دار.

فلمّا كان عند الصبح طلع حاتم على تلّ عال فصاح: يا لطيء! يا لطيء! فتبادروا إليه وجوه العشيرة وشيوخها. فقال: يا بني عمّي، الملك العادل قد نفّذ يطلب منّي ظهر يحمل عليه أشغاله، ولم يكن عند ابن عمّكم غير ناقة واحدة. فقالوا أبشر يا حاتم ببلوغ المنا! ثمّ جمعوا له عشرة آلاف جمل وسلّمها للحاجب واعتذر. وكان الحاجب لمّا وصل إلى أحياء طيء بلغته كلاب حاتم وعادوا يبصبصوا بأذنابهم ويدلّونهم على بيوت حاتم، لكثرة ترداد الأضياف.

(281)

فلمّا عاد الحاجب بالجمال إلى كسرى وأخبره بما عاين وبما رأى استعظم كسرى أمره، وأمر أن توسق سائر تلك الرواحل من سائر الأصناف من خيرات العراق، ومن الثياب الديباج الملّونة، وأن توسق ناقة حاتم ذهب وفضّة ويعادوا إلى حاتم مع ثقة من جهة كسرى، ويأخذ خطّ حاتم بجميع ما وصل إليه. وأمره أن ينظر ما يفعل حاتم بتلك الأحمال المسيّرة إليه.

قال: فلمّا وصلت الجمال موسقة من تلك الأنعام صاح حاتم على أربابها، ففرقها بما عليها. كلّ من عرف جماله أعطاه <أيّاها> بما عليها، ولم يعلم ما هو. ولن يأخذ غير ناقته. فلمّا وصل بها إلى أبياته أتته

ص: 422

الفقراء والصعاليك من الحيّ، وقالوا: يا حاتم، نحن لم يكن لنا جمال ولا نوق نعيرك حتّى تردّها إلينا بأحمالها. فقال: على رسلكم. وفتح الغرائر التي كانت على ناقته وعاد يعطي من ذلك الذهب والفضّة حتّى فرّقها، ونفض الأعدال فوقع من أحدهما درهم واحد، فأخذه بيده وحلقه إلى خادمه طريفة، وقال: خذي، هذا سهمك. فقالت: يا مولاي، نحن لا تألفنا دراهم ولا ذهب، ولا تصاحبنا من دون العرب. فأنشأ عند ذلك يقول (من البسيط):

قالت طريفة: ما تبقا دراهمنا

ولا لها عندنا عهد به نثق

تفرّ من عندنا والله يرزقنا

ممّن سوانا ولسنا نحن نرتفق

ما يألف الدّرهم الطّاغي لصحبتنا

إلاّ يمرّ علينا ثمّ ينطلق

إنّا إذا اجتمعت يوما دراهمنا

ظلّت إلى طرق المعروف تستبق

قال أبو عبيدة: وكان حاتم بعد سير الرسول من عنده افتكر فعل كسرى، فقصد التوجّه للنّعمان ليعلم موجب ذلك. فتأهّب وسار طالب النّعمان بأرض الحيرة، فنزل على عرب يقال لهم: بني فهم. وكان فيهم امرأة برزة يقال لها: ماويّة ابنة الضّحّاك، ذات حسن وجمال وثروة ومال، قد خطبها (282) سادات العرب، أهل المعالي والرّتب، وهي قد آلت على نفسها لا تزوّجت إلاّ من تختبره وتعلم صحّة حسبه وكرمه. وكانت لها

ص: 423

أبياتا خارجة عن الحلّة لأجل الضّيفان. فما زالت كذلك حتّى طرق ديارها حاتم ونزل في تلك الأبيات. فوجد بها ثلاث نفر من شعراء الجاهليّة، وهم: زهير بن أبي سلما والنّابغة الذّبيانيّ وأوس النّبيتيّ، وهم قد أتوا لخطبتها. فلمّا استقرّ بهم المكان أتتهم جارية مبرقعة وسلّمت عليهم بلسان فصيح، وقالت: مولاتي تسألكم: هل لكم من حاجة غير القرا؟ فقال لها زهير: نعم يا مولّدة العرب، نحن ثلاث أتينا في خطبة سيّدة العرب، وهذا القادم ما نعلم هل هو على ما نحن فيه أم لا. فسألته الجارية، فقال: أمّا أنا فعابر سبيل، وإن قسم لي ذلك كنت على الخيار فيه.

قال فلمّا ردّت الجارية قول الأقوام، أنفذت لكلّ واحد منهم جزور، وقالت: ليتحكّم كلّ واحد في جزوره بما يريد. فوثب كلّ واحد من خباه ونحر جزوره وكشطه وعرّاه من جلده، وأضرم النار وجلس يصنع له صنيعا. وعلمت ماويّة بذلك، فتنكّرت وغيّرت حلاها، وأتت في زيّ سائلة. فأوّل ما وقعت بمضرب أوس النّبيتيّ، واستطعمته فأعاطها زور المبرك، وهو أخس ما في البعير، فأخذته وعدلت إلى النّابغة، فاستعطمته فأعطاها مبرك الفخذين، وهو أيضا خسيسا في البعير، ثمّ أتت إلى زهير

ص: 424

فقطع لها كارع الجمل. وهذه الأشياء لا تعمل فيها النار ولا تنضجها.

فحملت الجميع وأتت إلى عند حاتم، فرأته وقد أكثر من إضرام النار، ونصب القدر لإصلاح الطعام. فلمّا رأته تعجبت من علوّ همّته، وسألته، فقال: على المعل يا سيّدة حتّى ينضج ما سوّيناه، ولعلّكي تعرفين من صعاليك الحيّ من تحضرينه للعشاء. فقالت: وراي أطفال لا يصبرون حتّى ينضج طعامك، بل أوصل لهم ممّا تنعم وأعود إليك بمن (283) وجدته من صعاليك الحلّة. فأعطاها الملجا والحدش والعجز وحشى النحارك وقطعة كبيرة من السنام، وهذا ألذّ ما في الجزور، وقال لها: يا سيّدة، تردّدي إلينا ما دمنا هاهنا. فدعت له ماوية، وعادت وقد سلبها بطيّب كلامه. فلمّا وصلت إلى مضاربها سلّمت الجميع لجارتها، وقالت:

احتفظي به إلا نهار الغد.

ثمّ أمهلت ماويّة ساعة وقدحت همّتها أن أخرجت شيء من الطّيب وقسمته على عددهم، وقالت للخادم: اذهبي بهذا الطّيب لكلّ واحد ولا يعلم به رفيقه، وقولي له: يا مولاي، مولاتي تقول لك: تطيّب بهذا الطّيب، ولا تعلم أصحابك، فإنّها تنغّصت لك به دونهم لأجل مكانتك من قلبها. ففعلت ما أمرتها به، ودارت على القوم، فكان كلّ أحد يخفي ما وصل إليه إلاّ حاتم. فإنّه لمّا أتته بالطيب، وقالت له مثل ذلك، قال: هذا

ص: 425

والله هو البخل بعينه! كيف أتطيّب دون رفقتي؟ ثمّ قسّم الطيب على أربعة أقسام، وآثر كلّ أحد منهم بقسمه. فعادت الخادم وعرّفت مولاتها بذلك، فازدادت فيه رغبة.

ثمّ أمهلت قليل وأنفذت لكلّ واحد قصعة من فضّة وهي ملأ تمر العراق، وقالت: اذهبي بهذه القصاع إلى كلّ واحد على حدة، وقولي:

مولاتي قد تنغّصت لك بهذا التمر ليطيب به فمك من زفر اللّحم، فتنقّل به، ولكن ادفن نواه في الأرض لئلاّ ينظروه بقيّة رفقتك فيلومنها كيف خصّصتك بشيء دونهم. فجعلت الخادم تقصد واحد واحد وتقول له ما أوصتها به مولاتها، فتراهم يأكلون التمر، ثمّ يقوم <كلّ منهم> ويحفر بيده مثل الكلب ويدفن النوا. ولم يبق إلاّ حاتم، فإنّه لمّا قالت له ذلك تغير أحواله وتنمّر غيظا وقال لها: يا مولّدة العرب، ليس لي حاجة بتمرك على هذا الوجه؛ أتنسبني مولاتك إلا البخل وفعل اللئام؟ وأنشأ يقول (من الطويل):

أتحسبني ماوي الخير أنّني

بخيل وكفّي بالعطا غير سامح

(284)

وتطلب منّي أن أحيل طبائع

من الجود قد كنّت عليها جوانحي

خذي ما أتيتي من طعامك واذهبي

ولا تفضحيني بين غاد ورائح

ألا إنّ أكل التّمر يا ميّ طيّب و

دفن النّوايا ميّ إحدى الفضائح

ص: 426

وكان اسم الخادم الذي أتته بالتمر: ميّ، فخاطبها بذلك الخطاب.

فلمّا سمعت الخادم ذلك خجلت، وقالت: يا سيّد الكرم، إنّما أنا رسول وليس عليّ ملام. وهذا التمر بين يديك، اصنع به ما أحببت. قال: فقسّم التمر أربعة أقسام، ودار على قومه، أي رفقاه. فعادت الجارية وأخبرت مولاتها بما عاينت وبما قال حاتم من الشّعر. فقالت ماويّة: أحسنت والله يا حاتم، وعلى مثلك كنت أدوّر.

فلمّا كان عند الصباح أخضرتهم إلى مضربها، وجلست لهم من وراء حجاب، وقالت: يا سادات العرب، ليقل كلّ منكم حاجته. فقالوا الثلاث النفر: نحن أتينا خطّاب، وهذا ما نعلم قصده-يعنون عن حاتم. فقال:

أمّا أنا، فعابر سبيل، طالب النّعمان بسبب كيت وكيت. فقالت: ليذكر لي كلّ واحد حسبه ونسبه وعيشته ومسكنه حتّى أدري أخباركم، وليكن الجواب منضوما لأعلم فصاحته من مقالته.

فابتدر النّابغة الذّبيانيّ وقال (من البسيط):

هل لا تسألي بني ذبيان ما حسبي

عند الطّعان إذا ما احمرّت الحدق

وجالت الخيل مبتلا حوافرها

بالماء يقطر عن لبّاتها العرق

ص: 427

وأطعن الفارس الحامي لحوزته

بعالي الرّمح والهيجاء تحترق

ولي لسان إذا زرت الملوك به

أمسا عليّ سحاب المال يندفق

والخلق تعلم أنّي لا أقاس بها

حتّى تقاس بثوب الجدّة الخلق

فقالت: أنت رجل مدّعي بنفسك، متكسّب بلسانك.

ثمّ ابتدر أوس النّبيتيّ (285، من الطويل):

أماويّ لم يخطبك من حيّ مدحج

كأوس بن سلما أو كزيد وحاتم

فإن تطلبي زيد ففارس قومه

إذا الحرب قامت أقعدت كلّ قائم

وإن تطلبي الطّائي فما مثله فتى

يفاخره فينا ولا في الأعاجم

فتى لا يزال الدّهر أكبر همّه

إغاثة ملهوف وفرحة قادم

يجود بما تحوي يداه طبيعة

ولم يك عند المكرمات بنادم

وإن تطلبيني تظفري بمسدّد

مكارمه تنسيك كلّ المكارم

ص: 428

ونحن أناس من أناس أفاضل

لهم شرف فوق السّها والنّعائم

فلمّا فرغ قالت له ماويّة: أحسنت والله يا أوس، فإنّك لم تنفرد بدعواك، بل أجملت رفقاءك.

وكان زهير بن أبي سلما يسمع، فتأخّر. فقالت ماويّة: لم تأخّرت يا وجه العرب؟ فقال زهير: والله يا سيّدة لست من القوم، ولا من أمس ولا من اليوم، ولا قصدت سماع فصاحتك، مع كمال رجاحتك، فدونك إلى من هو في زواجك قاصد، وخاطبيهم واحد بعد واحده فلمّا يأست منه، استنطقت حاتم، فقال: يا سيّدة العرب، اعلمي أنّ للأمور أسباب، ولست كنت في شيء من هذا الحساب، والأرزاق، فهي بيد الخلاّق. وأنشأ يقول (من الطويل):

أماويّ طال التّفكّر والأمر

قد قام لي فيما قلته عذر

أماويّ إنّ المال غاد ورائح

ويبقى منه الأحاديث والذّكر

أماويّ إنّي لا أقول لسائل

إذا جاء يوما: إنّ في حالنا عسر

ص: 429

إماويّ مال الأرض ما ينفع الفتى

إذا نفسه ضاقت وضاق به الصّدر

أفكّ أسيرا ثمّ أقري نازلا

وأحفظ عرضي منه هذا هو الفخر

وكلّ يقيني أنّني بعد مدّة

أصير إلى قبر جوانبه قفر

ويرجع من خلفي الّذين أحبّهم

يقولون قد أدما أناملنا الحفر

(286)

أماويّ إن يصبح صداي بقفرة

من الأرض لا مال لديّ ولا وفر

أرى أنّما أنفقت ليس بضائري

وأنّ يدي ممّا بخلت به صفر

وقد علموا الأقوام لو أنّ حاتم

أراد لجمع المال كان له ذخر

ص: 430

وما ضرّ جاري يا ابنة العمّ أنّه

يجاورني أن لا يكون له ستر

وعينيّ عن جارات بيتي كليلة

وفي الأذن منّي عن حديثهم وقر

ولا زادنا بغيا على ذي قرابة

غنانا ولا أزرى بأحبابنا الفقر

قال: وكان حاتم ينشد وماويّة تتمايل طربا من وراء الحجاب. ثمّ أصرفت بقيّة الأقوام بعدما قدّمت لهم ما كانوا أعطوها من جزورهم، وجعلت قدّام كلّ واحد ما أعطاه. فعلموا القوم أنّها كانت تلك السائلة، فانصرفوا وقد كثر تأسّفهم. وتزوّجت ماويّة بحاتم واستقلّت معه إلى أهله وحمّلته في جميع أموالها ونعمها. وهذا من رواية أبو عبيدة والأصمعيّ.

وقيل لحاتم: هل رأيت أكرم منك؟ فقال: نعم؛ ليس لأحد أن يدلّ بنفسه، ولا يفتخر على أبناء جنسه، ولمن نزل الأرض ولادة، والخلق بينهم تفاوت وزيادة. فقيل له: فكيف كان ذاك؟ فقال: خرجت في بعض الكرّات أطلب المكتسب، فانتهى بي السير إلى مرج وغدير، ورأيت عليه رجل جالس وحصانه في يده ورمحه مركوز إلى جانبه وقدّامه زاد، وهو

ص: 431

يأكل. فلمّا رآني بادأني السلام وعزم: لتنزلنّ! فنزلت عن جوادي. فأجد قدامه من الزاد ما يكفي جماعة من الناس، فأكلنا. ولمّا اكتفينا نفض جميع ذلك الزاد على الرمل وركب وركبت. وسألني بعد ذلك عن توجّهي، فعرّفته. فقال: وأنا كذلك. فقلت: يا وجه قومه، لم نفضت المزود ونحن في هذه المفاوز، ونحن محتاجون إليه؟ فتبسّم وقال: لا تفكّر في رزق غد، فكلّ غد له رزق جديد، ما دام لك عمر مديد. ثمّ أنشأ يقول (287 من الطويل):

رحلنا وخلّينا على الرّمل زادنا

وللطّير في زاد الكرام نصيب

ورزق غدا يأتي غدا يسوقه

إلى العبد جبّار عليه رقيب

فيا نفس لا تبقي على قوت ليلة

فإنّ مرار الموت منك قريب

قال حاتم: ثمّ سرنا، فلمّا كان الغد فتح بيده مزودي وفرشه وأكلنا على جانب غدير. ثمّ إنّه نفض المزود على ذلك الغدير وعوّلنا على المسير، وإذا بكلب قد أقبل من صدر البيداء يطلب الغدير. فلمّا وصل ورأى الزاد فتقدّم وأكل حتّى اكتفى، وشرب من الغدير وترك باقي الزاد.

فقال لي رفيقي: ألا تنظر يا فتى إلا هذا الحيوان كيف أكل كفايته-ما لا كان له في حساب-وترك باقي الزاد ولا عن عليه ولا حمله؟! أيكون الكلب أقوى يقين منا؟ فقلت، وقد هالني أمره: لم تفعل إلاّ خيرا. ثمّ قطعنا البرّ حتّى تعالا النهار، واتّسع في وجهنا القفار، وبدا بنا الجوع،

ص: 432

وعمل فينا الخوى، فقلت في نفسي: ترى من أين يكون غذانا؟ وأنا، فقد هنيته أن أكلّمه في ذلك، فو الله لم أتمّ ما في نفسي حتّى انطلق الكلب في عرض البرّ حتّى ظننت أنّه قارب قومه، وإذا به قد ثوّر عانة من الوحش، وصار يردّها إلينا، حتّى تخيّل لنا أنّه يقول: دونكم وهذه العانة. فبادرنا إليها وأخذنا منها كفايتنا، ونزلنا وذبحنا وشوينا وأكلنا، نحن والكلب.

ولمّا كان من الغد أشرفنا على أحياء عرب، فرينا حلّة كبيرة، فسقنا منها ما قدرنا من النّياق والجمال، ولدغناها برؤوس الرماح، فمدّت خطاها قدّامنا، وبعدنا عن الأحياء، ونظرنا إلى خلفنا، وإذا بفرسان الحلّة يتسابقون إلينا، وطلع الغبار ورانا مثل قطع الليل، فعدنا نلتقي القوم.

فلمّا رآني رفيقي قد عزمت على لقاء القوم معه تبسّم في وجهي، وقال:

يا فتى، بحقّ الّلات والعزّى، قف في هذا المكان واحفظ الغنيمة أن تشرد، ودعني (288) فإنّي إذا علمت أنّ مثلك خلفي قوي عزمي، وإذا رأيتني قد قهرت فاستعدني. قال: فوقفت مع الغنيمة أنظر فعاله ساعة، وإذا بالخيل الذي أقبلت إلينا قد ولّت، وهو في ظهورها يزعق زعقات الأبطال الذين لا تزيغهم كثرة الرجال، وقد سطح على الأرض منهم عدّة كثيرة ما بين قتيلا وجريحا، وعاد إليّ كأنّه الأسد الكاسر، وهو ينشد ويقول (من الرمل):

يا سنان الرّمح لا تشكوا الصّما

فأنا اليوم أرويك دما

وأخلّي الوحش خلفي رتعا

في رجال فارقوا أرض الحما

ص: 433

صاحبي شرائنا في دعة

فحسامي في يدي ما يثلما

وحياتي، لو بدا الموت له

ورأى صورته ما انهزما

فقال حاتم: ثمّ سقنا الغنيمة إلى المكان الذي ترافقنا فيه، والكلب لا يفارقنا. فعندها قسّم النّياق والغنيمة أثلاث، وأنا أنظر إلى ما يفعل.

وقال: يا فتى، أيّهم اخترت فهو سهمك، فخذه واطلب أهلك. فقلت:

والله يا مولاي إذا عدنا إلى الإنصاف فما أستحقّ من هذه الغنيمة حبة واحدة؛ وقد رأيتك قسّمتها ثلاث، فمن هو ثالثنا؟ فقال، وقد تبسّم: هذا الكلب. فقلت: وما يفعل الكلب بنوق وجمال؟ فقال: يفعل بها ما يريد، لأنّه صار رفيقنا وساعدنا في ردّ العانة <من> الوحش علينا، وأكل من زادنا، على أنّني ما أدعه ضايع وإنّما خذ قسمك واذهب إلى أهلك، وأنا كذلك، فمن تبعه الكلب يتسلّم قسمه، يفعل فيه معه بمروته.

فلمّا سمعت ذلك تعجّبت كلّ العجب، وداخلني والله من فعله الطرب. فلمّا توجّه كلّ أحد بقسمه تبعني الكلب. فقال: يا فتى، خذ قسم الكلب إليك. فأضفته إلى قسمي. ولمّا بعدنا عاد إليّ يركض، فقلت: والله لقد ندم على ما فعل وعاد يأخذ غنيمته. فتنحّيت عنها وقلت: ها أنت وغنيمتك، باركت لها (289) الأصنام. فقال: دع يا فتى هذا الخاطر عنك، ولا تنسبني إلى البخل وقلّة الإنصاف. فو الله ما عدت إليك إلاّ حتّى أسألك عن اسمك ونسبك، فقد عاد بيننا صحبة وحرمة وذمام، ولا علمت اسمك، وكذا أنت من كرمك ما سألتني عن ذلك. فأمّا أنا فاسمي عطّاف

ص: 434