الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(253) ذكر حرب عبس وبنو عامر والسبب فيه
قال الأصمعيّ وأبو عبيدة، كلاّ يروي عن أيّام العرب ووقائعها وحروبها: إنّه لمّا قتل الملك زهير بن جذيمة، ملك بني عبس-وقتله خالد بن جعفر العامريّ، لمّا رجعا من الحجّ، بسبب ما وقع بينهما من الكلام في البيت الحرام.
وكان سبب ذلك، أنّ النّعمان بن المنذر، لمّا خطب المتجرّدة بنت الملك زهير وسيّرها إليه مع أخيها شأس بن الملك زهير، وعاد من حضرة النّعمان بن المنذر، ولم يتبعه غير عبد واحد يسوق ناقة قد أوقرت طيبا وعبيرا إلى بني عبس من جهة النّعمان. فمر شأس بن زهير على أحياء بني عامر ليلا، ولم يعلموا به، فاجتاز بصيّاد قد نصب حبائله للوحش، فلمّا مرّ على تلك الحبائل شأس، نفر الوحش الذي كان تجمّع لذلك الصيّاد، فحصل منه كلاما عبثا في حقّ شأس. فقال شأس، لعزّة نفس الملك وشجاعة القلب: والله يا قرنان، لولا أنّك ضعيف الحال، ولا يقتلك فجرة، لكنت مكّنت هذا الحسام من رأسك. فاجتذب الصيّاد
نبلة من كنانته ورمى شأس على حسّ كلامه فلن تخطئ قلبه، فانجدل صريعا، وهرب العبد الذي كان معه إلى بني عبس. وقام الصيّاد فوجد شأس يخور في دمه وقد قضى نحبه. ونظر إلى مركبه وما عليه من الحلّى الفاخر، فعلم أنّه من بيت ملك، فندم على ما فعل. ثمّ إنّه نزع ما كان عليه، وحفر له حفيرة ودفنه فيها. وقاد الناقة، وعاد إلى أهله، فأخفا ذلك الطيب في حفيرة في الخباء، وكذلك سائر سلبه، ونحر الناقة، وأخفى حميع أثره.
ووصل ذلك العبد إلى أحياء بني عبس، ونعى شأسا، وأخبرهم أنّه قتل في أرض بني عامر. فركب أبوه الملك زهير في أبطال بني عبس، في أربعة آلاف فارس، وأتا إلى منازل (254) بني عامر، وكان خالد بن جعفر، سيّد بني عامر وملكها، غائب عند الأسود، أخو النّعمان بن المنذر، بأرض الحيرة فلمّا شعروا بني عامر بقدوم الملك زهير في بني عبس، خرج إليه كبار العشيرة ومشايخها، يقدمهم عامر بن مالك، المعروف بملاعب الأسنّة، وتلقّوه بالإجلال والتعظيم، وسألوه النزول عندهم ليضيّفوه، فأبا ذلك، وعرّفهم أنّه لم يأت إلاّ في طلب دم ولده شأس، وقصّ عليهم القصّة. فحلفوا له بالأيمان العظيمة التي كانت تحلف بها العرب في ذلك الوقت، أنّه لم يكن عندهم من ذلك علم ولا خبر:
وها نحن بين يديك، إن بانت علينا بيّنة ذلك وعلمت حقيقته، فهذه دمانا وأموالنا وحريمنا لك وبين يديك. فانخدع لذلك الملك زهير، وعاد طالبا لأهله، ولم يأثر شيئا من السرّ.
وأقام هو وأولاده في أسوء الأحوال. وكان هذا الملك زهير أبو عشرة وأخو عشرة وخال عشرة. وكان ولده الأكبر يسمّى قيسا، وكان ذو خبرة ونظر ورأي، حتّى كانت العرب تسمّيه: قيس الرأي. فقال لأبيه: أنا أظهر لك حقيقة هذا الأمر.
وكانت تلك السنة سنة مجدبة على العرب، حتّى نشف الضرع ويبس اللحم. فأخذ راحلتين وأوسقهما دقيقا وسمنا وشحما، وطلب عجوز من عقلاء الحلّة تسمّى: ماهرة. وقال: يا خالة، تأخذي هذه الراحلتين مع هذين العبدين وتتوصّلي إلى ديار بني عامر وتزعمي أنّك من أرض اليمن، وأن لكي بنت، وهي على وجه عرس، وتقصدي مشترى طيبا جيّدا، فلعلّ تعلمي بحال أخي شأس من الأحياء.
ففعلت ذلك، وتوصلت إلى أحياء بني عامر. ودارت على مشترى طيبا جيّدا، حتّى وقعت ببيت ذلك الصيّاد، ولم يكن حاضرا، وقد أعوز أهله ما يموّنهم لغيبته، فاستخبرتها زوجة الصيّاد عن (255) حالها، فأخبرتها بما أوصاها به قيس، وتلطّفت في القضيّة، حتّى أظهرت لها ذلك
الطّيب الذي كان بصحبة شأس، وقصّته. فتبالهت العجوز وقالت: وا عجباه من هذا الأمر! ومن ترى يكون بني عبس أو بني عامر، وإنّما أنا امرأة من ضواحي اليمن.
فلمّا قضت شغلها وعادت فقصّت الحال على قيس، عند ذلك حمي الملك زهير، واستعدّ لقتال بني عامر وحضّر إليه. وسباهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، وتحصّنوا منه في رؤوس الجبال، وعاد إلى أهله.
هذا كلّه جرا، وخالد بن جعفر غائبا عن أهله. فلمّا أتاهم أخبروه بما فعل بهم الملك زهير بن جذيمة. فقال: وا ذلاّه! يجري عليّ وعلى عشيرتي من ابن جذيمة هذا، من غير جرم منّا إليهم، وا عاراه من العرب!
وكان شهر رجب قد دخل، وكانت العرب لا تحمل فيه سلاح، ولا تتعرّض فيه لقتال. وإنّ الملك زهير ألزم نفسه أنّه لا يعود إلى أهله حتّى يقلع شأفة بني عامر. وطلب البيت الحرام، هو وبنيه وإخوته وبني أخته.
وقصد خالد أيضا البيت الحرام، وإنّهما تلاقيا في الطّواف، وحصل بينهما منازعة وكلام. فرفع خالد يديه إلى السماء وقال: اللهمّ، ربّ هذا البيت الحرام، وزمزم والمقام، وهذا الرّكن اليمان، طلبت منك النّصرة والإعانة على هذا الباغي علينا، زهير بن جذيمة. وكان الملك زهير كبير النفس شديد التجبّر، فقال: اللهمّ إنّي ما أطلب منك نصرة على أنذال بني عامر، وإنّما أنا آخذ ثأري بقوّة ساعدي وحدّ سيفي. قال: فقالت العرب عند ذلك القول: خذل زهير، وربّ الكعبة!
وافترقا على ذلك. وخرج خالد من فوره وترصّد لزهير في عودته، وكان قد بقي أيّام قلائل من شهر رجب. فلمّا عاد الملك زهير، ونزل في طريقه. (256) فقال له ولده قيس: يابه، ارحل بنا من قرب ديار الأعداء،
وألحق بنا أهلنا ما دام قد بقيت هذه الأيّام اليسيرة من هذا الشهر. قال خالد: والله ما فارقنا إلاّ وقد توجّه إلى أهله يجمع علينا بني عامر وغنيّ وكلاب. فقال الملك زهير: أوقد ذلّيت يا قيس من أنذال العرب؟ وحقّ من قد أتينا من بيته، لا برحت من هذه المنزلة أو تمضي الأيّام الحرام وأبصر ما في قدرة الأسّ: خالد بن جعفر. قال: فعلم أنّ أجله قد اقترب، فتركه ولم يعاوده.
وكان لمّا قال هذا القول، دخل قيس على أمّه تماضر وعرّفها أنّ أبوه مقتول لا محالة. وكان زهير شديد السّطوة والحرمة، لا يعاود في كلام.
وكان لتماضر أخ، وهو خال أولاد الملك زهير، وكان الملك زهير قد نفاه عن حيّ عبس في حديث طويل، وكان نازل في بني عامر. وإنّ خالد، لمّا رجع إلى دياره استصرخ بقومه، فأجابوه في ثلاثة آلاف فارس.
ففرّق كلّ ألف على محجّة من الطرق، خوفا لا يفوته الملك زهير. وجعل على الألف الواحدة ملاعب الأسنّة، وعلى الآخرة الأخوص، أخوه، وبقي هو في ألف. ونزل قريب من المحجّة الكبيرة، لعلمه بجبروت الملك زهير، وأنّه لا يستأشن منهم بشأن، وأنّه لا يأخذ على تلك المحجّة. فقال لقومه: يا قوم، من يتوجّه ويكشف لنا بالمناهل وإن كان زهير على العين،
ويأتيني بالخبر اليقين؟ فقالوا: والله يا خالد، ما لها إلاّ خال بنية. فطلبه واستوثق منه ونفّذه. فلم يزل يسير حتّى نزل بزهير والأولاد ومعهم أخته تماضر. فسلّم عليهم. فقال له زهير: ما الذي أتا بك يا مذلول؟ فقال:
والله جئت مسلّم على أختي وناصح لكم. فقال: وما نصيحتك؟ فقال: إنّ خالد بن جعفر قد جمع عليكم قبائل بني عامر وغنيّ وكلاب، وهو (257) قادم بهم عليكم يحطّمكم في دياركم عن قريب. وأبا أن يقول: إنّهم بالقرب منكم وقد نفّدوني لكشف أخباركم، لما كان في نفسه من الملك زهير. وكان لمّا نفّده خالد قد اشترط عليه أنّه إن ظفر بهم لا يكن له غريم إلاّ الملك زهير وحده، ولا يسبي أخته ولا يتعرّض لأحد من أولادها، واستوثق منه بذلك. فلمّا قال للملك زهير هذا الكلام قال له: يا مذلول! أوتخيفني من كلام بني عامر وغنيّ وكلاب؟ وحقّ البيت الحرام، وما عليه من الأصنام العظام، لأخرّبنّ ديار بني عامر إلى آخر الأبد، ولأجعلنّها عبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن افتكر. قم من حيث أتيت، لا أمّ لك! فنهض وهو مكسور القلب.
فلمّا عوّل على ركوب راحلته، قال قيس: يابه، بحقّ الإله العظيم، وبربّ زمزم والحطيم، قد خالفتني في الأوّل فلا تخالفني في الثاني، ودعني أفعل ما أراه. فقال: دونك وما تختار. فنهض قيس ومسك خاله وأوثقه كتاف، وقال: وحقّ الربّ القديم، ما جئت أنت إلى تكشف أحوالنا
لأعدائنا، ولا عدت السّبيل إلاّ عند أهلنا. وكان ذلك اليوم قد هلّ شهر شعبان وهم عازمين على المسير من الغد إلى الدّيار. فلمّا نظرت أمّه تماضر إلى أخيها مشدود لطمت خدّها وقالت: وا ذلاّه منك يا قيس! تفعل بخالك فعال الأعداء؟ فقال أبوه: أطلقه يا بنيّ، لأجل أمّك فقال قيس:
وحقّ فالق الأصباح، ومنشئ الرياح، لا أطلقته أو آخذ عليه المواثيق المغلّظة: لا يذكرنا لأحد من الناس، ولا يدلّ علينا الأعداء. فقال أمّه:
افعل لهم هذا يا أخي. فحلف بالأيمان الماكرة على ذلك. ثمّ إنّ أخته زوّدته بشيء من الزاد، وجلبت له في سكوته ناقة لبون. وعاد من فوره إلى بني عامر.
فلمّا رأوه، قال له خالد: ما وراءك؟ فلم يجبه، حتّى أتا إلى شجرة، فقال (258): يا شجرة، أنت في الأجناس، لست من الناس، قد وردت العين، ورأيت الشّين، وزوّدت الطّرموس واللّبن، من تلك المنازل والدّمن، فإن كان بعد حليب، فالقوم عن قريب.
فلمّا سمعت العرب كلامه، قالوا: قد جنّ، وربّ الكعبة. فقال خالد: إن صدق حزري فقد لقي القوم وحلّفوه أن لا يذكرهم لأحد من الناس، فهو لذلك يخاطب الشجرة. عليّ بالشّكوة. فلمّا أحضرت، وجدوها حليبا بفوّارها. فصاح في قومه، ولم يزالوا حتّى لحقوا بالملك زهير ضحى، وهو سائرا إلى دياره، فأدركه خالد بن جعفر، وجرى بينهما من الحرب ما يبلبل الخواطر، ويذهل النّواظر. وكان الملك زهير أشجع
وأصبر، وفي أبواب الحرب أخبر. لكنّه خذل بتجبّره، وبقوله عند البيت الحرام ذلك المقال. فانتصر عليه خالد، وقتل الملك زهير، وتفرّقت بنو عامر عن بنيه بشرط خالهم في ذلك، وأدركوه بنوه وهو في آخر نفس، فأوصى بملك بني عبس لقيس ولده، ودفن في مكانه. وأتوا بنوه ينعوه في بني عبس، وقام العزاء عندهم أيّام.
ثمّ إنّ قيس ولده جمع القبائل والعشائر والحلفاء والأصحاب وتوجّه لبني عامر، يقدمهم عنتر بن شدّاد العبسيّ. وكذلك جمع خالد من قدر عليه من العربان، وكانوا أضعاف بني عبس في العدد. لكن كانوا بنو عبس أشدّ وأصبر، بحاميتهم عنتر. فإنّه كان أعجوبة الزمان، في موقف الطّعان، فكسروا بنو عامر كسرة عظيمة، وقتلوا منهم مقتلة عامّة، حتّى تحصّنوا منهم بروس الجبال، واستأسروا خالد بن جعفر، وأرادوا قتله بالملك زهير. فوجدوا <أنّه> قد أسر منهم مالك بن الملك زهير وعمارة بن زياد، أبو الرّبيع بن زياد. وقد تحصّنوا بني عامر في أماكن حصينة، فتفادوا بينهم بالأسرى، وأخذوا على خالد العهود بإطلاق الأسيرين: مالك وعمارة. فلمّا وصل خالد إلى قومه أراد أن يطلق مالك وعمارة،259) فلم يوافقوه أصحابه حتّى أخذوا عليهم المواثيق أن يرحلوا أصحابهم عنهم
ويهادنوهم بقيّة ذلك العام، واستوثقوا منهم بذلك، وأطلقوهم. فلمّا وصلوا إلى قومهم عرّفوهم ذلك فرحلوا عنهم وتهادنوا بقيّة ذلك العام، بعدما كادت بني عامر تقتل عن آخرها.
ثمّ كان بينهم بعد ذلك حروب ومغايرات يطول تعدادها. وآخر الأمر أن خالد توجّه إلى النّعمان وطلب الصلح مع بني عبس، فإنّ النّعمان كان ملك العرب كلّها من قبل كسرى. وكان الحارث بن ظالم المرّيّ أيضا في خدمة النّعمان، وقد عرفه ملك الحروب التي جرت بين العربان. ولمّا وصل خالد بن جعفر استجار بالأسود بن المنذر، أخي النّعمان، فقرّبه لأخيه وعرّفه أنّه يريد الصلح، فإنّ العرب كادت أن تتفانا بين القبيلتين.
فأنعم له في ذلك وأبرّ له في حواره مع الحارث بن ظالم المرّيّ. فلمّا عرف الحارث أنّ النّعمان يقصد بصلح بين بني عبس وبني عامر، لحقه الحنق، لأنّه كان من فرسان العرب المدلورة، وشجعانهم المشهورة. وكان خبيث الباطن، لا يبقي على عدوّ ولا صاحب. وكان له ببني فزارة صلة.
وكانوا بنو فزارة وبنو عبس بطن واحد حتّى وقع بينهما الحرب في سباق الخيل، وهو حرب داحس المشهور، كما يأتي ماته في موضعه، إن شاء الله تعالى. فاغتال الحارث بن ظالم لخالد بن جعفر وهو سكران نائم، وضربه بالسيف الذي كان يسمّيه ذو الحيّات، فقدّه نصفين.
ثمّ إنّه افكر أنّ النّعمان يطلبه،. . كونه قتل خالد وهو في حرمه وذمامه،
وعلم أنّه مقتول لا محالة. وكان للنّعمان ولد صغير، وكان عند أخت الحارث. فإنّها كانت ربّته وهو في حضانتها، وكان من غير المتجرّدة بنت زهير. فأتا الحارث إلى أخته وقصّ عليها ما فعل. فاستعظمته وقالت: وماذا عوّلت أن تفعل؟ فقال: تعطيني ولد النّعمان، آخذه (260) وأضعه على كفّيّ وأدخل به على النّعمان، مع سفارة المتجرّدة لي في ذلك، فإنّني قتلت قاتل أباها، فينصلح الحال في ذلك. فظنّت أخته أنّ ذلك صحيح منه.
فأخذ الطفل على كتفه وخرج به من باب مدينة الحيرة أوّل ما فتح، وصاح: يا أهل الحيرة، أنا الحارث بن ظالم المرّيّ، قد قتلت خالد بن جعفر في حرم النّعمان، وهذا ولد النّعمان أنا قاتله أيضا، فإن قتلني النّعمان أكون قد أخذت منه ثأري قبل موتي بقتل ولده هذا. ثمّ حذف ذلك الطفل والتقاه بسيفه في الهوى فقدّه أي قطعه قطعتين، وصاح وهجّ على وجهه.
فتبعوه الناس وقد جرّدوا وراءه سيوفهم، وطلبوه من كلّ مكان. فلمّا علم أنّه مأخوذ خاف على سيفه المسمّى بذي الحيّات أن يملكه غيره من بعده، فضرب به صخرة ليكسره، فقدّها ذلك السّيف نصفين. فلمّا رأوا القوم الذي كانوا خلفه يتبعونه، تلك الضربة في الصخرة، لم يتبعه بعدها أحد، وكانت سبب نجاته.
ثمّ إنّه بعد ذلك توصّل إلى بني عبس، واستجار بقيس ابن الملك زهير وعنتر بن شدّاد. فأجاراه من النّعمان، لمّا علم قيس أنّه قتل خالد بن جعفر وأخذ بثأر الملك زهير.