الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتور القيام قطيع الكلا
…
م تفترّ عن ذي غروب خضر
كأنّ المدام وصوب الغمام
…
وريح الخزامي ونشر القطر
يعلّ به برد أنيابها
…
إذا غرّد الطّائر المستحر
قلت: ما وصف أحد الثّغر فأجاد وأحسن كلّ الإحسان بإجماع الرواة كالنّابغة الذّبيانيّ في قوله (من الكامل):
تجلوا بقادمتي حمامة أيكة
…
بردا أشفّ لثاته بالإثمد
كالأقحوان غداة غبّ سمائه
…
جفّت أعاليه وأسفله ند
ولهذين البيتين شرح حسن، إذا أثبت يزيد على نصف كرّاس ولا يوفيهما حقّهما في شرحهما، فأضربت عن شرحهما للاختصار ومن شعر امرئ القيس قوله (من الوافر):
فبعض اللّوم عاذلتي فإنّي
…
ستكفيني التّجارب وانتسابي
إلى عرق الثّرى وشجت عروقي
…
وهذا الموت يسلبني شبابي
وقد طوّقت في الآفاق حتّى
…
رضيت من الغنيمة بالإياب
ذكر النّابغة الذّبيانيّ ولمعا من أخباره وأشعاره
النّابغة جاهليّ اسمه زياد بن معاوية ويكنى أبا أمامة ولقّب بالنّابغة لقوله (من الوافر):
وقد نبغت لهم منّا شؤون
وهو أحد الأشراف الذين حطّ من قديرهم الشعر وغضّ منهم القريض. وكان ذا رئاسة في قومه وشرف وتسوّد، فلمّا قال الشعر غلب عليه ونسب إليه.
قلت: ولله <درّ> القائل: الشعر يحطّ من قدر الكامل كما يرفع من قدر الجاهل، وقول الآخر: الشعر نقيصة (310) الكامل وحكمة الناقص.
وقول الآخر: الشعر يضع من قدر الشريف كما يرفع من قدر السّخيف.
روى الأصمعيّ: كان يضرب للنّابغة قبّة من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارهم، فأنشدته الخنساء يوما بمحضر حسّان بن ثابت الأنصاريّ تقول (من البسيط):
فإنّ صخرا لمولانا وسيّدنا
…
وإنّ صخرا إذا يشتو لنحّار
وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به
…
كأنّه علم في رأسه نار
فقال: والله لولا أنّ أبا بصير أنشدني آنفا لقلت: إنّك أشعر الإنس والجن. فقام حسّان بن ثابت فقال: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك. فقال له النابغة: يا ابن أخي، أنت لا تحسن <أن> تقول (من الطويل):
فإنّك الّذي هو مدركي
…
وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع
خطاطيف تحجزن في حبال متينة
…
تمدّ بها أيد إليك نوازع
فسكت عند ذلك حسّان.
وأبا النصير الذي عناه النابغة هو عمر بن عبد العزيز مولى لبني إسحاق، وكان شاعرا مفلقا.
قلت: ساق الحصريّ، صاحب كتاب زهر الآداب، أنّ الخنساء بنت عمرو بن الشّريد السّلمي وأخويها صخر ومعاوية، وكان أبوهما يقف بهما في الموسم فيقول: أنا أبو خيري مضر، فمن عيّب فليغيّر، فلا يغيّر عليه أحد. فكان يقول: من أتا بمثلهما من قبيلة فله حكمه! فتقرّ له العرب بذلك.
وأدركت الخنساء أيّام عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، وأحضرها قومها إليه، فقالوا: هذه الخنساء قد قرحت مآقيها في الجاهليّة والإسلام، فلو نهيتها رجونا أن تنته. فقال لها عمر، رضي الله عنه: إتّق الله يا خنساء، وأيقني بالموت. فقالت: إنّي لموقنة بالموت (311) وأبكي خيري مضر:
صخر ومعاوية. قال: أتبكيهما وقد صارا فحمتي في النار؟ قالت: ذلك
أشدّ لبكائي عليهما يا عمر. قال: فكأنّه رقّ لها، فقال: خلّوا عن عجوزكم، لا أبا لكم! نام الخليّ عن بكاء الشّجيّ. وفي سليم شرف كثير ليس هذا مكان ذكره.
قال أبو عبيدة: كان النابغة الذّبيانيّ أوضح شعراء الجاهليّة كلاما وأقلّهم سقطا وحشوا وأجودهم مقاطع وأحسنهم مطالع، ولشعره ديباجة ليست لغيره. إن شئت قلت: ليس بشعر مؤلّف، من تأتّيه ولينه، وإن شئت: هو صخر لو رديت به الجبال لأزالها.
وروي عن عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، أنّه قال ذات يوم: أيّ شعراكم يقول (من الطويل):
فلست بمستبق أخا لا تلمّه
…
على شعث أيّ الرّجال المهذّب
قالوا: النابغة. قال: هو أشعر شعراكم. ثمّ قال يوم آخر: أي شعراكم يقول (من الوافر):
فألفيت الأمانة لا تخنها
…
كذلك كان يوم لا تخون
قالوا: النابغة. قال: هو أشعر شعراكم. ثمّ قال يوم آخر: أي شعراكم يقول (من الطويل):
حلفت فلم أترك لنفسي ريبة
…
وليس وراء الله للمرء مذهب
قالوا: النّابغة. فقال: هو أشعركم. ففضّله في ثلاث مواضع:
روى خلف بن محرز أنّه سمع أهل البادية من بني سعد يروون بيت النابغة للزّبرقان بن بدر السّعديّ، وهو (من البسيط):
تعدوا الذّئاب على من لا كلاب له
…
وتتّقي مربض المستنفر الحامي
وإنهم رووا للنّابغة الذّبيانيّ هذا البيت، وهو (من البسيط):
تلك المكارم لا قعبان من لبن
…
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وقيل إنّه لأميّة بن أبي الصّلت. ومثل هذا الاختلاف قول امرئ القيس (من الطويل):
وقوف بها صحبي عليّ مطيّهم
…
يقولون لا تهلك أسا وتجمّل
وقول طرفة بن العبد أيضا (312، من الطويل):
وقوف بها صحبي عليّ مطيّهم
…
يقولون لا تهلك أسا وتجلّد
ومن مليح قول النّابغة في النّعمان بن المنذر (من الطويل):
ألم ترا أنّ الله أعطاك سورة
…
ترى كلّ ملك دونها يتذبذب
كأنّك شمس والملوك كواكب
…
إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب
قلت: وهذه الأبيات من جملة قصيدة كان النّابغة قد نفذها للنّعمان بن المنذر يعتذر إليه فيها عن شيء بلغه بسبب المتجرّدة بنت زهير، امرأة النّعمان، وسنذكر خبر ذلك بعد ذكر بقيّة هذه الأبيات من جملة قصيدة طويلة، منها يقول:
حلفت فلم أترك لنفسي ريبة
…
وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلّغت عنّي خيانة
…
لمبلغك الواشي أغشّ وأكذب
ولكنّني كنت امرءا لي جانب
…
من الأرض فيه مستزاد ومذهب
ومنها يقول:
ملوك وإخوان إذا ما أتيتهم
…
أحكّم في أموالهم وأقرّب
ومنها يقول:
كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم
…
فلم ترهم في شكر ذلك أذنبوا
فلا تتركنّي بالوعيد كأنّني
…
إلى النّاس مطليّ به القار أجرب
أتاني أبيت اللّعن أنّك لمتني
…
وتلك الّتي أهتمّ منها وأنصب
ولست بمستبق أخا لا تلمّه
…
على شعث أيّ الرّجال المهذّب
فإن أك مظلوما فعبد ظلمته
…
وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب
(313)
وأمّا حديث المتجرّدة فهي زوجة النّعمان بن المنذر ابن ماء السّماء، وكانت من أحسن الناس وجها، وكان يهواها. وقيل: إنّها كانت زوجة أبيه، المنذر بن النّعمان، فتزوّجها بعد موت أبيه، بشريعة الهوى وغلب المقدرة.
قلت: هذا كلام السّلطان، الملك المنصور، ناصر الدّنيا والدين، أبا المعالي محمّد بن الملك المظفّر تقيّ الدين عمر <بن> شاهنشاه بن أيّوب، صاحب حماة يومئذ، كان-رحمه الله تعالى وبرّد؟؟؟ ضريحه وسائر ملوك المسلمين-ساق هذا الحديث في كتابه المسمّى بدرر الآداب ومحاسن ذوي الألباب، في باب: طبقات الشعراء. وهو لعمري من الكتب النفيسة الجامعة لمحاسن الأدب، يدل على أنّه رحمه الله، من الملوك الأكابر المطّلعين على أخبار الناس وتواريخهم.
فالذي أقوله: إنّ هذا النّكاح كان جائزا في أيّام الجاهليّة ولا زال مستمرا حتّى جاء الإسلام، وسمّي: نكاح المقت، وبيان ذلك يأتي في
موضعه عند ذكر الأعياص من قريش ونسبهم، إن شاء الله تعالى.
وكان النّابغة الذّبيانيّ والمنخّل اليشكريّ في منادمة النّعمان بن المنذر، وكان النّابغة مليحا عفيفا والمنخّل اليشكريّ قبيحا فاسقا. وكانت المتجرّدة تهوى المنخّل لفسقه. وكان النّعمان مكرّما للنّابغة مبجّلا له دون المنخّل. فحسده على منزلته وقربه المنخّل اليشكريّ وخاف أن تنظره المتجرّدة فتهواه لجماله وقربه من النّعمان وتتركه. فعمل الحيلة في إبعاده عن النّعمان أو قتله.
واتّفق أنّ النّعمان قال للنّابغة: امدح لي المتجرّدة واذكر جميع محاسنها. ففعل هذه الأبيات الّتي أوّلها يقول (314، من الكامل):
أمن آل ميّة رائح أو مغتدي
…
عجلان ذا زاد وغير مزوّد
إلى أن وصل في صفتها شيئا فشيئا إلى قوله:
وإذا طعنت طعنت في مستهدف
…
رابي المجسّة بالعبير مقرمد
وإذا نزعت نزعت عن مستحصف
…
نزع الحزوّر بالرّشاء المحصد
فتخيّل النّعمان من قوله، وقال له النّعمان: كيف رأيت يا منخّل؟ فقال: لو لم يعاين لم يذكر. فتغيّر النّعمان على النّابغة. وبلغ النّابغة قول المنخّل، فعلم أنّه مقتول إن قعد، فهرب إلى اليمن وقال: يكون المنخّل الخائن وأنا الأمين، وأنسب دونه إلى الخيانة وقد عمل على قتلي.
ثمّ إنّه نفّذ إلى النّعمان القصيدة العينيّة التي منها يقول (من الطويل):
أتاني أبيت اللّعن أنّك لمتني
…
وتلك الّتي تستكّ منها المسامع
فبتّ كأنّي ساورتني ضئيلة
…
من الرّقش في أنيابها السّمّ ناقع
لعمري وما عمري عليّ بهيّن
…
لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع
أقارع عوفا لا أحاول غيرها
…
وجوه قرود تبتغي من تجادع
أتاك امرؤ مستعلن لي بغضه
…
ولم يأت بالحقّ الّذي هو ناصع
أتاك بقول لم أكن لأقوله
…
ولو كبلت من ساعديّ الجوامع
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
…
وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع
ومنها يقول:
وحمّلتني ذنب امرئ وتركته
…
كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع
ومنها يقول:
فإنّك كاللّيل الّذي هو مدركي
…
وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع
(315)
خطاطيف حجن من حبال متينة
…
تمدّ بها أيد إليك نوازع
أتوعد عبدا لم يخنك أمانة
…
وتترك عبدا ظالما وهو ضالع
وأنت ربيع ينعش النّاس سيبه
…
وسيف أعيرته المنيّة قاطع
أبى الله إلاّ عدله ووفائه
…
ولا النّكر معروف ولا العرف ضائع
ولمّا وصلته الأبيات ووقف عليها، علم النّعمان أنّ المنخّل <وهو> الخائن دون النابغة، فقال: يا منخّل، اخلفني في أهلي حتّى أمضي أتصيّد وأعود. قال: نعم، وخرج النّعمان بزعمه للصّيد، ثمّ عاد إلى بيته ليلا فوجد المنخّل والمتجرّدة يشربان الخمر وساقيها في وسطه، وهما قد أمنا ممّن يتجسّس عليهما لغيبة النّعمان. فلمّا رآهما على ذلك هجم عليهما وقال: يا منخّل، ألست القائل: إنّ النّابغة لو لم يعاين لم يقل؟ أنشدني قولك: إن كنت عاذلتي فسيرى (من مجزوء الكامل).
إن كنت عاذلتي فسيري
…
نحو العراق ولا تحوري
لا تسألي عن جلّ ما
…
لي واسألي كرمي وخيري
ولقد دخلت على الفتا
…
ة الخدر في اليوم المطير
ودفعتها فتدافعت
…
مشي القطاة إلى الغدير
ولثمتها فتنفّست
…
كتنفّس الظّبي الغرير
ونأت وقالت يا منخّل
…
ما بجسمك من حروري
ما شفّ جسمي غير حبّك
…
فاهدي عنّي وسيري
وأحبّها وتحبّني
…
ويحبّ ناقتها بعيري
فقال النّعمان: صدقت! لو لم تتحاببا لما كنتما كذي. ثمّ قتلهما جميعا، وكتب إلى النّابغة وأعلمه بذلك وأعاده بالقسم أنّه (316) آمن منه مبرّأ ممّا اتّهم به. فعاد إليه النّابغة، فكان أحبّ الناس إليه وأوفرهم حظّا عنده.
ومن مليح شعر النّابغة قوله (من الطويل):
كليني لهمّ يا أميمة ناصب
…
وليل أقضّيه بطيء الكواكب
وصدر لراع اللّيل عازب همّه
…
تضاعف فيه الهمّ من كلّ جانب
تقاعس حتّى قلت ليس بمنقض
…
وليس الّذي يرعى النّجوم بآئب
عليّ نعم ونعمة بعد نعمة
…
لوالده ليست بذات عقارب
ومنها يقول:
إذا ما غزوا بالجيش حلّق فوقهم
…
عصائب طير تهتدي بعصائب
جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله
…
إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب
وقد جاء في قول النّابغة إقواء في قصيدته التي أوّلها: أمن آل ميّة رائح أو مغتدي، فإنّ قافيتها جميعها مكسورة إلاّ بيت واحد، وهو قوله (من الكامل):
زعم البوارح أنّ رحلتنا غدا
…
وبذاك خبّرنا الغراب الأسود
والإقواء أحد العيوب المستعملة في الشّعر. وقد استشهد بهذا البيت جماعة من العروضيّين. فقيل: إنّه لمّا قدم يثرب قيل له: أقويت. فلم يعرفه. فألقوا الأبيات على لسان قينة فغنّت بها ومدّت في القوافي، فانتبه لها، فأصلحها لوقته، فقال: