الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ألخير أبقى وإن طال الزّمان به
…
والشّرّ أخبث ما أوعيت من زاد
قلت: وهذا الشاعر دخل عليه في هذه الأبيات الإيطاء، فإنّه قد تكرّر قوله: زاد، في موضعين من شعره، وهو من فحول الشعراء.
ذكر لبيد بن ربيعة وطرف من أخباره
هو لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب، ويكنى أبا عقيل، أحد شعراء الجاهليّة المعدودين فيهم، وأدرك الإسلام، فهو من (331) طبقة المخضرمين. فإنّه أسلم، وقدم على سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجر، وحسن إسلامه، وعاش مائة وخمسين سنة، ونزل الكوفة على زمن عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، فأقام بها إلى أن مات، رحمة الله عليه.
وروى الأصمعيّ، قال: وفد عامر بن مالك، عمّ لبيد بن ربيعة، في رهط من بني جعفر بن كلاب، ومعهم لبيد، وهو يوم ذاك صبيّ، على النّعمان بن المنذر، فوجدوا عنده الرّبيع بن زياد العبسيّ، وكان نديما للنّعمان، وكان بينه وبين الجعفريّين وقفة وهناة. فلمّا دخل الجعفريّون على النّعمان، أقبل عليهم، وأمضى حوائجهم، وخرجوا من عنده مسرورون بفعله. فخلا به الرّبيع وذمّهم عنده ووقع فيهم، فتغيّر النّعمان لذلك. ثمّ دخلوا عليه يوما آخر فرأوا منه جفاء. فخرجوا من عنده غضابا، ولبيد متخلّف في رحالهم يحرس متاعهم ويرعى إبله لطفوليّته وصباه.
فأتاهم ليلهم يتذاكرون أمر الرّبيع، فسألهم عن أمرهم، فكتموه. فقال:
والله لا عدت حفظت لكم متاعا ولا رعيت لكم بعيرا أو تخبروني شأنكم معه وما بدا منه. وكانت أمّ لبيد ربيبة في حجر الرّبيع بن زياد، فقالوا: قد غلبنا على النّعمان، وصدّ وجهه عنّا. فقال لبيد: اجمعوا غدا بيني وبينه بحضرة النّعمان حتّى أزجره عنكم بقول مؤلم لا يلتفت النّعمان بعده إليه أبدا. فقالوا: وهل عندك شيء؟ قال: نعم. قالوا: فإنّا نبلوك. قال: بماذا؟ قالوا: تشتم لنا هذه البقلة-وكان بين أيديهم بقلة دقيقة القضبان، قليلة الورق، لاصقة عروقها بالأرض-فقال لبيد (332): هي التي لا تذكي نارا، ولا تؤهّل دارا، ولا تسرّ جارا؛ عودها ضئيل، وفرعها دليل، وخيرها قليل؛ أقبح البقول مرعا، وأقصرها فرعا، وأشدّها قلعا؛ بلدها شاسع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع؛ فالقوا بي أخي عبس، أصدّه عنكم بتعس ونكس. فقالوا: أنت له. فلمّا أصبحوا حلقوا رأسه وتركوا ذؤابته وألبسوه حلّة وغدوا به معهم، فأدخلوا على النّعمان فوجدوه يتغدّا ومعه الرّبيع بن زياد يؤاكله، والدار مملوءة بالوفود. فقال لبيد، ورفع صوته وعلاّه (من الرجز):
مهلا أبيت اللّعن لا تأكل معه
…
إنّ استه من برص ملمّعه
ما زال يفتي فيها إصبعه
يدخلها حتّى يواري أشجعه
…
كأنّما يطلب شيئا ضيّعه
طويلة فلخّصتها، قال: فرفع يده من الطعام النّعمان، وقال: خبّثت والله يا غلام عليّ طعامي؛ ما رأيت كاليوم قطّ. فأقبل الربيع على النّعمان فقال: كذب والله ابن الحمقى، ولقد فعلت بأمّه كذا وكذا. فقال لبيد:
مثلك من فعل ذلك بربيبة حجره والقريبة من أهله. ثمّ قضى النّعمان حوائج الجعفريّين من وقته، وأصرفهم مكرّمين. ومضى الرّبيع إلى منزله وكتب إلى النّعمان يقول: إنّي قد علمت أنّه قد وقع في نفسك ما قاله ابن الحمقاء، وإنّي لست خارجا حتّى تبعث إليّ من يجرّدني فيعلم أنّي لست كما قال. فأرسل إليه النّعمان يقول: إنّك لست قادرا على ردّ ما زلّت به الألسن، فالحق بأهلك وخذ ما رسم (333) لك، وكتب إليه يقول (من البسيط):
شرّد برحلك عنّي حيث شئت ولا
…
تكثر عليّ ودع عنك الأباطيلا
قد قيل ذلك فإن حقّا وإن كذبا
…
فما اعتذارك من شرّ إذا قيلا
وقال أبو عبيدة: لم يقل لبيد في الإسلام إلاّ بيتا واحدا (من البسيط):
ألحمد لله إذ لم يأتني أجلي
…
حتّى تسربلت للإسلام سربالا
وقال: كان لبيد من أجواد العرب، وكان قد آلا على نفسه في الجاهليّة ألاّ تهبّ صبا إلاّ نحر وطعم، وكان له جفنتان يغدوا بهما ويروح في كلّ يوم على ناد قومه، فأنفق جميع ماله على هذه الصّفة. فلمّا كان الوليد بن عقبة على الكوفة من قبل عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، فهبّت الصبا يوما والوليد على المنبر يخطب بالناس، فقال في أثنى كلامه: إنّ أخاكم لبيد بن ربيعة نذر في الجاهليّة ألاّ تهبّ صبا إلاّ نحر وطعم، وهذا يوم من أيّامه، فأعينوه، وأنا أوّل من فعل. ثمّ نزل فأرسل إلى لبيد مائة بكرة برعاتها، وكتب إليه يقول (من الوافر):
أرى الجزّار يشحذ شفرتيه
…
إذا هبّت رياح أبي عقيل
أشمّ الأنف أبيض جعفريّ
…
طويل الباع كالسّيف الصّقيل
وفى ابن الجعفريّ بما لديه
…
على العلاّت والمال القليل
بنحر الكوم إن سحبت عليه
…
ذيول صبا تجاوب كالأصيل
قال: فلمّا بلغ هديّته وأبياته لبيدا قال: أما والله لولا أنّني آليت أن لا
أقول شعرا ولا أصنعه في الإسلام لأجبته. فقالت ابنته: أفا أجيبه يابه؟ فقال: أجيبيه، فلعمري لقد عشت (334) زمانا ولا أعياني جوابا قطّ.
فقالت (من الوافر):
إذا هبّت رياح أبي عقيل
…
دعونا عند هبّتها الوليدا
أشمّ الأنف أروع عبشميّا
…
أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأنّ ركبا
…
عليها من بني حام قعودا
أبا وهب جزاك الله خيرا
…
نحرناها وأطعمنا الثّريدا
فعد إنّ الكريم له معاد
…
وظنّي يا بن أروى أن تعودا
فقال لها لبيد: والله لقد أحسنت يا بنيّة، إلاّ أنّك سألتيه ثانيا.
فقالت: يابه، إنه ملك، والملوك لا يستحيى من سؤالهم. فقال: وأنت يا بنيّة في هذا الكلام أشعر.
وقيل: إنّ أصدق بيتا قالته العرب (من الطويل):
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل
…
وكلّ نعيم لا محالة زائل
ومنها يقول:
وكلّ النّاس سوف تدخل بينهم
…
دويهة تصفرّ منها الأنامل
وكلّ امرئ يوما سيعلم سعيه
…
إذا كشفت عند الإله المحاصل
ومن مليح الشعر قصيدة لبيد التي منها (من الطويل):
يقول الفتى إنّي سأفعل داكم
…
وما للفتى علم بما الله صانع
وما المال والأهلون إلاّ ودائع
…
ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع
وما النّاس إلاّ عاملان فعامل
…
يتبّر بما يبني وآخر رافع
فمنهم سعيدا آخذا بنصيبه
…
ومنهم شقيّ بالمعيشة قانع
ومنها يقول:
أخبّر أخبار القرون الّتي مضت
…
أدبّ كأنّي كلّما فمت راكع
فأصبحت مثل السّيف أخلق غمده
…
تقادم عهد القتر والنّصل قاطع
(335)