الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان كلما انخرب شيئا من البربا لن يجدون من يقوم بإصلاحه إلاّ تلك العجوز وولدها وولد ولدها. وكانوا أهل (219) بيت، لا يعرف ذلك غيرهم، فانقطعوا. وانهدم من البرباء موضعا في زمان ايناس بن مرنيوس، فلم يقدر أحدا على إصلاحه ومعرفة علمه. وانقطع ما كان يقهرون به الناس، واستقرّوا كغيرهم، إلاّ أنّ الجمع كثير والمال ياسر.
ذكر بخت نصّر وسنة دخوله مصر وسبي بني إسرائيل
قلت: ثمّ توفي لغاس بن مرنيوس واستخلف ابنه قومين بن لغاس، فملكهم ستّين سنة.
فلمّا كان بختنصّر، ودخل بيت المقدّس، حسبما تقدّم من الكلام، قال: حدثنا عليّ بن الحسن بن خلف بن وزير، قال: ثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم، قال: ثنا. . . بن موسى وغيره عن ظهور بختنصّر على مصر، أنّه لمّا ظهر على بني إسرائيل وسباهم وخرج إلى أرض بابل، أقام إرميا على إيليا، ينوح ويبكي وهي خراب. فاجتمع إلى إرميا بقايا من بني إسرائيل، وكانوا متفرّقين، حتّى بلغهم مقامه بإيليا، فقال لهم إرميا:
أقيموا بنا في أرضنا، تستغفرون الله وتتوبون إليه، فلعلّه يتوب عليكم ويخلّصكم من ظفر عدوّكم البختنصّر. فقالوا: إنّا نخاف أن يسمع بنا بختنصّر فيبعث إلينا، ونحن في شرذمة قليلة. ولكنّا نذهب إلى ملك مصر فنستجير به وندخل في ذمّته. فقال إرميا: ذمّة الله خير وأوفى الذّمم لكم، ولكنّي أخافكم.
فانطلقوا أولئك النفر من بني إسرائيل إلى قومين الملك يومئذ بمصر، فاعتصموا به، لما يعلمون من منعته، وشكوا إليه شأنهم. فقال:
أنتم في ذمّتي. فأرسل إليه بختنصّر: إنّ لي قبلك عبيدا أبقوا منّي، فابعث بهم إليّ. فكتب إليه قومين: ما هم عبيدك، وهم أهل بيت النبوّة والكتاب وأبناء الأحرار؛ اعتديت عليهم وظلمتهم. فحلف بختنصّر: لأغزونّك ما لم تبعثهم والجا جميعا.
وأوحى الله تعالى إلى إرميا: إنّي مظهر بختنصّر على ملك مصر الذي اتّخذوه حرزا لهم من دوني؛ وإنّهم لو أطاعوك وأمرك، ثمّ أطبقت عليهم السماء والأرض، لجعلت لهم مخرجا. وإنّي أقسم (220) بعزّتي، لأعلّمهم أنّهم ليس لهم محتصر ولا ملجأ إلاّ طاعتي واتّباع أمري. فلمّا سمع إرميا ذلك، رحمهم وبادر إليهم، فقال: إن لم تطيعوني أسركم بختنصّر وقتلكم؛ وآية ذلك أنّي رأيت موضع سريره الذي يضعه بعدما يظفر بمصر ويملكها.
ثمّ قذف حجارة، قذفها من أربعة أركان، في المواضع التي يضع فيها بختنصّر سريره. وقال: ستقع كلّ قائمة من قوائم سريره على حجر منها.
فاختلفوا عليه بني إسرائيل.
فسار بختنصّر إلى قومين بن لغاس ملك مصر فقاتله سنة، ثمّ ظفّر
الله تعالى بختنصّر بمصر فقتل قومين. وقيل: بل اسمه قومس بن لغاس.
وسبا جميع أهل مصر، وقتل من قتل. فلمّا أراد قتل من أسر من بني إسرائيل وأهل مصر، وضع له سرير في الموضع الذي وصف إرميا.
ووضعت كلّ قائمة من سريره على حجر من تلك الحجارة التي دفنها إرميا. وقدم الأسارى، فأتا معهم إرميا. فقال له بختنصّر: ألا أراك مع أعدائي بعد أن أمّنتك وأكرمتك؟ فقال له إرميا: إنّما جئتهم وأخبرتهم خبرك؛ ومصداق قولي أنّي وضعت لهم علامة ذلك تحت سريرك، وهي أربعة حجارة دفنتها تحت أربع قوائم سريرك الذي أنت جالس عليه. فرفع سريره، فوجد ما قال إرميا حقّا. فقال بختنصّر لإرميا: لو نعلم أنّ فيهم خيرا لوهبتهم لك. ثمّ أمر بقتلهم، فقتلوا؛ وأخرب مدائن مصر وقراها وسبا جميع أهلها ولم يترك بها أحدا، حتّى بقيت أربعين سنة خرابا ليس فيها ساكن؛ يجري نيلها ويذهب ولا ينتفع به. فأقام إرميا بمصر، واتّخذ له بها زرعا يعيش به أربعين سنة. فأوحى الله إليه: إنّ لك عن الزرع والمقام بمصر شغلا، فكيف تشغلك أرض وأنت تعلم سخطي على قومك؟ فالحق بإيليا حتّى تبلّغ كتابي أجله. فخرج منها أرميا حتّى أتا (221) بيت المقدّس.
ثمّ إنّ بختنصّر ردّ أهل مصر إليها بعد أربعين سنة، فعمّروها، فعادت مصر مقهورة بعد القهر.
قال: حدّثنا عليّ بن الحسن، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن عبد الحكم وأبو الأسود، قالا: ثنا ابن لهيعة عن. . . عن عبد
الرحمن بن غنم الأشعريّ، أنّه قدم من الشام إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال له عبد الله بن عمرو: ما أقدمك على بلادي؟ قال: أنت.
قال: لماذا؟ قال: كنت تحدّثنا أنّ مصر أسرع الأرضين خرابا؛ ثمّ أريك قد اتّخذت فيها الرّباع وبنيت فيها القصور واطمأننت فيها. قال: إنّ مصر قد أوفت خرابها: حطّمها بختنصّر فلم يدع فيها إلاّ السّباع والضّباع؛ وقد مضى فيها الخراب. فهي اليوم أطيب الأرضين ترابا، وأبعده خرابا؛ ولم يزل فيها بركة، ما دام في شيء بركة.
قال: حدّثنا عليّ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: وحدّثني اللّيث بن سعد، قال: يزعم بعض مشايخ أهل مصر أنّ الذي كان يعمل به لمصر على عهد ملوكها أنّهم كانوا يقرّون القرا في أيدي أهلها: كلّ قرية بكراء معلوم، لا ينقّص عليهم إلاّ في كلّ أربع سنين من أجل الظّمأ. فإذا مضت أربع سنين نقّص ذلك وعدّل تعديلا جديدا، ثمّ يزداد على من يحتمل الزيادة. وكان إذا جني الخراج وجمع، يكون للملك ذلك الربع خالصا لنفسه، والربع الثاني لجنده ولمن يتقوّى به على حربه، والربع الثالث في مصلحة الأرض وما يحتاج إليه من جسورها وعمارة ترعها وحفر خلجها وبناء قناطرها ولقوّة مزارعين أرضها. والرّبع الرابع يخرج من خراج كلّ قرية، فيدفن في أرضها لنائبة تنوب تلك القرية أو جائحة تنزل بتلك الناحية. وكلّ قرية فيها مكان مبنيّ مجبّص مدبّر لدفن ذلك المال فيها، وهي كنوز فرعون التي يتحدّث الناس بها، أنّها (222)
ستظهر فيتطلّبها الذين يتتبّعون الكنوز، والله أعلم.
قال: أخبرنا عليّ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: وحدّثني أبو الأسود نصر بن عبد الجبّار <عن> عبد الله بن عمرو، قال: ثنا ابن لهيعة، قال:
خرج وردان من عند مسلمة بن مخلّد-وهو أمير على مصر-فمرّ على عبد الله بن عمرو بن العاص مستعجلا، فناداه عبد الله بن يزيد: يا با عبيد، قال: أرسلني الأمير مسلمة، أن آتي له من يحفر عن كنز فرعون. قال:
فارجع إليه، وأدّه منّي السلام، وقل له: إنّ كنز فرعون ليس لك ولا لأصحابك؛ إنّما هو للحبشة. إنّهم يأتون في سفنهم يريدون الفسطاط، فيسيرون حتّى ينزلوا منفا، فيظهر لهم كنز فرعون، فيأخذون منه ما يشاؤون، فيقولون: ما إن نبتغي غنيمة أفضل من هذه. فيرجعون، ويخرج المسلمون في آثارهم، فيدركونهم. فيقتلون وينهزمون ويأسرهم المسلمون، حتّى إنّ الحبش لتباع بالكساء.
قال: حدّثنا عثمان بن صالح وغيره، قال: ظهرت الروم وفارس على سائر الملوك الذين في الأرض. فقابلت الروم أهل مصر ثلاث سنين، يحاصرونهم ويصابرونهم القتال في البرّ والبحر. فلمّا رأى ذلك أهل مصر، صالحوا الروم على أن يدفعوا لهم شيئا معلوم منهم في كلّ عام، على أن يمنعوهم، ويكونوا في ذمّتهم.
ثمّ ظهرت الفرس؛ فلمّا غلبوا الروم على الشام، رغبوا في مصر وطمعوا فيها. فامّتنع أهل مصر، وأعانتهم الروم وقامت دونهم. وألحّت عليهم الفرس. فلمّا خشوا ظهورهم عليهم، صالحوا فارسا، على أن يكون
ما صالحوا به الروم، بين الروم وفارس. فرضيت فارس بذلك، وكذلك الروم، حتّى ظهرت فارس على الروم. وأقامت مصر بين الروم وفارس نصفين سبع سنين. ثمّ استجاشت الروم على فارس وألحت بالقتال والردّ، حتّى ظهروا عليهم، (223) وخرّبوا مصانعهم أجمع، وديارهم التي بالشام ومصر. وكان ذلك في عهد سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل وفاته وبعد ظهور الإسلام. فصارت الشام ومصر كلّها صلحا للروم، وخالصا لهم، ليس لفارس فيه شيئا، إلى حين فتحها عمرو بن العاص في خلافة عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، كما سيأتي ذكر ذلك في ذكر سنة عشرين، إن شاء الله.
قال: حدّثنا عليّ، قال: ثنا اللّيث بن سعد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب، وقال: كان المشركون يجادلون المسلمون بمكّة قبل الفتح، فيقولون: الروم أهل كتاب، وقد غلبتهم المجوس؛ وأنتم تزعمون أنّكم ستغلبون بالكتاب الذي معكم، الذي أنزل على نبيّكم. فستغلبكم كما غلب فارس الروم. فأنزل الله عز وجل:{الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الله بن عتبة بن مسعود أنّه قال: لمّا أنزلت هاتان الآياتان، ناظر أبو بكر، رضي الله عنه، بعض المشركين، قبل أن يحرّم ذلك على شيء، أن لن تغلب الروم فارس في سبع سنين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لم فعلت؟ فكلّما دون العشر: بضع» . وكان ظهور فارس