الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معتزلين"، و"إذا كانوا أصحاب علم ودين، وأصحاب ثروة وقوة وبأس، وأصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة، متأثرة بها، مؤثرة فيها، فما أخلقهم أن يكونوا" على أتصال فيما بينهم، وأن تتربى على ألسنتهم لغة ينطق بها فصحاؤهم إذا ألقوا خطبة، أو نظموا شعراً.
*
تعدد القراءات في القرآن واختلافها:
قال المؤلف في (ص 33): "وهناك شيء بعيد الأثر لو أن لدينا أو لدى غيرنا من الوقت ما يمكننا من استقصائه، وتفصيل القول فيه، وهو أن القرآن الذي تلي بلغة واحدة، ولهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة، حتى كثرت قراءاته، وتعددت اللهجات فيه، وتباينت تبايناً كثيراً".
ثم قال: "ولسنا نشير هنا إلى هذه القراءات التي تختلف فيما بينها اختلافاً كثيراً في ضبط الحركات، سواء كانت حركات بنية، أو حركات إعراب. لسنا نشير إلى اختلاف القراء في نصب "الطير" في الآية:
{يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10].
أو رفعها، ولا إلى اختلافهم في ضم الفاء أو كسرها في الآية:
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128].
ولا إلى اختلافهم في ضم الحاء أو كسرها في الآية:
{وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22].
ولا إلى اختلافهم في بناء الفعل للمجهول أو للمعلوم في الآية:
{غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:
2 -
3].
لا نشير إلى هذا النحو من اختلاف الروايات في القرآن، فتلك مسألة معضلة نعرض لها ولما ينشأ عنها من النتائج إذا أتيح لنا أن ندرس تاريخ القرآن".
الكتاب عنوانه "في الشعر الجاهلي"، ولكن مؤلفه أولع كثيراً بوثبات فجائية يقع بها على الطعن في القرآن، فيضاهي قول الذين تساقطوا على عدائه، والصد عن سبيله من قبل. هل من أدب الدرس أن يسوق المعلم بنفسه مسألة لم يضطره البحث إلى ذكرها، ثم يقول لطلابه: تلك مسكلة معضلة نعرض لها من بعد؟! وهل يليق بذي علم يؤلف في الشعر الجاهلي، أن يكب على كتب الدعاة إلى غير الإسلام، وينبشها ليستخرج من شبهها ما يلصقه بأذهان هذه الناشئة قبل أن تشتد في الدفاع عن الحقائق قناتها؟!.
إنك لتجد أولئك الدعاة يتوسلون باختلاف القراءات إلى قذف القرآن بالاختلاف أو التحريف، وكذلك فعل المؤلف؛ حيث نقرّ في القراءات، ولم يبال أن تكون شاذة، والتقط منها بعض آيات بدًا له أن في اختلاف قراعتها ما يلبس حقائق الإسلام بالريبة، فأوردها في نسق، ورماها بالإعضال، وما هي بمعضلة على أحد، ولكن المؤلف يعجب بالشبهة أكثر من الحجة، ويؤثر لهوالحديث على الحكمة، والمسألة بحثها العلماء وقرروها على وجه خالص من كل شائبة، وهو إذا عرض لها ولما ينشأ عنها من النتائج، لا يقول فيها إلا كما قال في الشعر الجاهلي. وأنتم تعلمون أنه لم يزد على أن نهب واضطرب، ثم افتخر وهجا.
جاء في السنّة الصحيحة ما يثبت تعدد القراءات لعهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويشهد بأن تلك الوجوه كانت تتلقى بطريق الرواية عنه، ومن هذه الدلائل حديث
"الجامع الصحيح" للإمام البخاري عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يُقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال صلى الله عليه وسلم:"أرسله، اقرأ يا هشام"، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال صلى الله عليه وسلم:"كذلك أنزلت"، ثم قال:"اقرأ يا عمر"، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال صلى الله عليه وسلم:"كذلك أنزلت"، ثم قال:"إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه". وفي "الجامع الصحيح" للإمام البخاري أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف".
فالحديث ناطق بتعدد القراءات، وصريح في أن هذه القراءات المختلفة متلقاة من النبي صلى الله عليه وسلم، وموقوفة على السماع. وليس في هذا ما يعثر في قانون المنطق، أو يضايق العقل في شبر من مجاله الفسيح، وهل يصعب على الذي يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، أن يفهم أن أحد أولئك الملائكة نزل على أحد هؤلاء الرسل بكتاب من تلك الكتب، وبلّغه بعض آياته على وجهين أو وجوه مختلفة في أوقات متعددة؟! واختلاف القراءات على نوعين:
أولهما: اختلاف القراءتين في اللفظ مع اتفاقهما في المعنى، ومن هذا
النوع ما يرجع إلى اختلاف اللغات؛ كقراءتي {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] بالصاد، و (السراط) بالسين، إلى ما يشاكل هذا من نحو الإظهار والإدغام، والمد والقصر، وتحقيق الهمز وتخفيفه. والحكمة في هذا تيسير تلاوته على ذوي لغات مختلفة، "فلو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته، وما جرى عليه اعتياده طفلاً وناشئاً وكهلاً، اشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ثم لم يمكنه ذلك إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للبيان وقطع للعادة، فأراد الله عز وجل بلطفه ورحمته أن يجعل لهم متسعاً في اللغات ومتصرفاً في الحركات"(1).
ومن هذا النوع ما لا تختلف فيه اللغات، وإنما هما وجهان، أو هي وجوه تجري في الفصيح من الكلام؛ نحو:(وما عملت أيديهم)، و {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس: 35] وهذا النوع وارد على سنة العرب من صرف عنايتها إلى المعاني، ونظرها إلى الألفاظ نظر الوسائل، فلا ترى بأساً في إيراد اللفظ على وجهين أو وجوه، ما دام المعنى الذي يقصد بالخطاب باقياً في نظمه، ومأخوذاً من جميع أطرافه، وفي هذا توسعة على القارئ، وعدم قصره على حرف، ولا سيما حيث كان محجوراً عليه أن يغير الكلمة عن القرآن، ويحيد بها عن وجهها المسموع (2).
ثانيهما: اختلاف في اللفظ والمعنى، مع صحة المعنيين كليهما، وحكمة هذا: أن تكون الآية بمنزلة آيتين وردتا لإفادة المعنيين جميعاً؛
(1)"مشكل القرآن" لابن قتيبة.
(2)
من أثر تعدد القراءات حفظ كثير من طرق البيان وضروب اللهجات، وإن لم يكن القصد من القرآن تعليم اللغة، وتقرير أساليب خطابها وفنون بيانها.