الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
ختام الكتاب الأول:
قال المؤلف في (ص 41): "ولكني بعدت عن الموضوع فيما يظهر، فلأعد إليه لأقول ما كنت أقول منذ حين، وهو أن من الحق علينا لأنفسنا وللعلم أن نسأل: أليس هذا الشعر الجاهلي الذي ثبت أنه لا يمثل حياة العرب الجاهليين، ولا عقليتهم، ولا ديانتهم، ولا حضارتهم، بل لا يمثل لغتهم، أليس هذا الشعر قد وضع وضعاً، وحمل على أصحابه حملًا بعد الإسلام؟ أمّا أنا، فلا كاد أشك الآن في هذا. ولكننا محتاجون بعد أن ثبتت لنا هذه النظرية أن نتبين الأسباب المختلفة التي حملت الناس على وضع الشعر وانتحاله بعد الإسلام".
ختم المؤلف الكتاب الأول بهذه الفقرات، وكأنه آنس في نفسه الفوز على "أنصار القديم"، فدارت في رأسه نشوة، وانطلق يمزح معك بقوله:"ولكني بعدت عن الموضوع فيما يظهر". يقول هذا، وهو لا يشعر بما تصنع الأقلام فيما تركه خلفه من آراء منهوبة، ومعان لا توجد إلا في خياله.
يقول المؤلف: إن من الحق علينا أن نسال: أليس هذا الشعر الجاهلي الذي ثبت أنه لا يمثل حياة العرب الجاهليين، ولا عقليتهم، ولا ديانتهم، ولا حضارتهم، بل لا يمثل لغتهم.
ادعى المؤلف فيما سلف أن الجاهليين كانوا في علم وذكاء وقوة عقل فوق ما يمثله هذا الشعر الجاهلي، ولم يفرغ على هذه الدعوى دليلاً غير الآيات الدالة على أنهم كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم، ويحاورونه في الدين، وفيما يتصل بالدين من تلك المسائل المعضلة، التي ينفق فيها فلاسفة أمثال المؤلف حياتهم دون أن يوفّقوا إلى حلها. وقد جاذبناه أطراف المناقشة
هنالك، وأريناك رأي العين أن هذا الشعر الجاهلي أنفس بضاعة تفاخر بها أمة ذات ذكاء فطري، وتفكير لا يستمد من دراسة أو تعليم.
وقد تساءل قبل المؤلف (مرغليوث)، وجرجي زيدان عن هذا الشعر الجاهلي: لماذا لم يمثل ديانة العرب؟. أما (مرغليوث)، فقد اتخذ قلة اشتمال الشعر الجاهلي على الآثار الدينية؛ كما اتخذه المؤلف شاهداً على أن هذا الشعر ليس من الجاهلية في شيء، وأما جرجي زيدان، فلكونه أصبر على البحث من المؤلف، وأعرفُ بحال الشرق من (مرغليوث) أجاب عن هذا السؤال بما قصصناه عليكم، وخلاصته: أن حال العرب لذلك العهد ليست كحال من يعنى في شعره بكثرة التعلق بالمعاني الدينية، وأن المسلمين لم يكونوا ممن يرغب في نقل شعر يحتوي على آثار ديانات يرونها غير مستقيمة، وليس بمستنكر عليهم أن يحيدوا بروايتهم عن بيت أو أبيات يظهر فيها أثر نحلة أو ديانة قاموا بالدعوة إلى شرع يريد الظهور عليها، وعلى الرغم من عدم احتفالهم برواية هذا النوع من الشعر، فقد بقي له أثر في بعض الكتب الأدبية أو التاريخية.
يقول المؤلف: إن هذا الشعر لا يمثل حضارتهم، ولم يبحث في هذا الموضع، ولا فيما سلف عن هذه الحضارة حتى يظهر أمرها، ويوازن بينها وبين هذا الشعر ليعلم: هل هو ملائم لتلك الحضارة، أم غير ملائم لها؟ ولم يكن منه فيما سبق سوى أنه كان يدخل هذا المعنى في أثناء حديثه عن قوة عقليتهم، واستنارتهم، وعلمهم بالسياسة؛ كقوله: كانوا أصحاب عيش فيه لين ونعمة، وقوله: وإذا كانوا أصحاب علم ودين وسياسة، فما أخلقَهم أن يكونوا أمة راقية! وكذلك كان يدخل في أثناء الحديث اسم الثروة دون أن
يدل على أسبابها، أو يأتي على شيء من آثارها.
والصواب: أن من ينظر في هذا الشعر الجاهلي بشيء من التدبر، وينظر في حضارة القبائل التي عاش فيها أولئك الشعراء بأي مرآة شاء، وعلى أي مطلع تسنى له، لا يستطيع أن يدرك تفاوتًا بين هذا الشعر وتلك الحضارة، إلا إذا اشتد حرصه على أن يقول: إن هذا الشعر ليس من الجاهلية في شيء.
فهذا الشعر الجاهلي يمثل من الحضارة ما يمثله شعر الإسلاميين قبل أن تلبس البلاد العربية ثوب الحضارة الذي نسجه فاتحو بلاد قيصر وكسرى، ولا ينبغي لأحد أن يزعم أن الحضارة في الجاهلية كانت أجلى مظاهر، وأوفى وسائل من حضارة العرب لعهد ظهور الإسلام.
يقول المؤلف: إن هذا الشعر لا يمثل لغتهم، وهو إنما يبني هذا القول على نظرية العزلة العربية، ونظرية جهلهم وغباوتهم وتوحشهم، ولو نظر إلى أن في الأمة العربية علماً وذكاء، ونظر إلى أنها كانت ترتبط بصلة التعارف، وتعقد مجامع تشهدها القبائل على اختلاف أوطانها، لسهل عليه أن يفهم كيف تكوّنت على طول الأيام لغة أدبية تتناولها ألسنة البلغاء حين تنطلق في شعر أو خطابة.
فالشعر الجاهلي يمثل اللهجة التي يتحراها الشعراء لتضرب قصائدهم في اليمين واليسار، وتسير مسير المثل، لا تقف في واد، ولا يختص بها قوم دون آخرين. وقد يظهر على لسان الشاعر أثر من لهجته الخاصة، وربما غيّره الرواة إلى اللهجة الأدبية من غير أن يخسر وزن القصيدة حرفاً.
يقول المؤلف: ولكننا محتاجون بعد أن ثبتت هذه النظرية أن نتبين
الأسباب التي حملت على وضع الشعر، وهذا صريح في أنه انتهى من تقرير النظرية، وأنه نثل كنانته وكنانة (مرغليوث) في الاستشهاد عليها، وإنما يريد بعد هذا أن يبحث في الأسباب الحاملة على الانتحال، ونحن محتاجون بعد أن سقطت هذه النظرية أن نناقشه في بحث هذه الأسباب؛ لأنه رمى فيه عن القوس التي رمى عنها في هذه النظرية البائسة، وليس من اللائق أن ندعه يضرب في غير مفصل، ويمشي في غير طريق، وإنه ليعزّ علينا أن تضع هذه الطائفة القليلة من المستنيرين أقدامها على أثره، فتستبدل بالصالح من مألوفها جديداً لا خير فيه.