الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في أمانته، قال ابن معين: كان ببغداد قوم كذابون يضعون الحديث، منهم: محمد بن زياد، وقال أحمد بن حنبل بعد أن وصفه بوضع الحديث-: ما كان أجرأه! يقول: حدّثنا ميمون بن مهران في كل شيء.
وروى الطبراني في "معجمه الكبير" قطعة منها على طريق جويبر عن الضحّاك بن مزاحم، والضحّاك بن مزاحم لم يلق ابن عباس، وهو في نفسه موثوق به عند قوم، مضعف عند آخرين، وأما جويبر، فمعدود من الضعفاء، سئل عنه علي بن المديني، فضعفه جداً، وقال: جويبر أكثرَ على الضحاك، روى عنه أشياء مناكير.
وروى هذه المسائل الجلال السيوطي في كتاب "الاتقان" بسند يبتدئ بشيخه ابن هبة الله محمد بن علي الصالحي، وينتهي إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وفي هذا السند رجال يوثق بروايتهم، ولكنك تجد من بينهم آخرين نقدهم علماء الحديث، وطرحوهم إلى طائفة وضّاع الأحاديث؛ كمحمد بن أسعد العراقي المعروف بابن الحكم، وعيسى بن يزيد بن دأب الليثي.
ومتى لم نجد في طريق رواية القصة ما يثبت على النقد، أصبحت القصة من قبيل ما يروي لفائدته الأدبية، وضعفت عن أن تستقل بالدلالة على معنى تاريخي لا شبهة فيه.
*
قصتا البنات السبع:
ادعى المؤلف أن التكلف والانتحال للأغراض التعليمية الصرفة كان شائعاً معروفاً في العصر العباسي، وقال: لا أطيل، ولا أتعمق في إثبات هذا، إنما أحيلك إلى كتاب "الأمالي" لأبي علي القالي، وإلى ما يشبهه من الكتب.
ثم قال في (ص 41): "سترى -مثلاً- بناتاً (1) سبعاً اجتمعن، وتواصفن أفراس آبائهن، فتقول كل واحدة منهن في فرس أبيها كلاماً عربياً ومسجوعاً يأخذه أهل السذاجة على أنه قد قيل حقاً، في حين أنه لم يقل، وإنما كتبه معلم يريد أن يحفظ تلاميذه أوصاف الخيل، وما يقال فيها، أو عالم يريد أن يتفيهق، ويظهر كثرة ما وعى من العلم. وقل مثل ذلك في سبع (2) بنات اجتمعن وتواصفن المثل الأعلى للزوج الذي تطمع فيه كل واحدة منهن، فأخذن يقلن كلاماً غريباً مسجوعاً في وصف الرجولة والفتوة، والتعريض والتلميح إلى ما تحب المرأة من الرجل".
لا يعنينا أن تبقى قصتا البنات السبع في هذا الأدب القديم، أو تطرحا من حسابه، وتذهبا كما ذهب أولئك البنات عيناً وأثراً، والذي يعنينا نقده هنا: أن المؤلف يكاد يذهب إلى أن ما يذكر في تاريخ الأدب قسمان: ما هو ثابت قطعاً، وما هو مكذوب لا محالة، والمعروف أن من بين هذين القسمين قسمًا يقف فيه المؤرخ المحقق، فلا يستطيع أن يقول عليه: إنه موثوق بصحته، ولا يستطيع أن يصفه بالكذب الذي لا مرية فيه، وشأنه فيما يقضي عليه بالكذب قضاء فاصلًا أن يذكر الطريق الذي وصل منه إلى معرفة اصطناعه، والمؤلف حكم على حديث البنات، ولم يأت بدليل أو أمارة على اختلاقه، ما عدا وصفه له بأنه كلام غريب مسجوع، إذاً، لم ينكره المؤلف إلا لأنه
(1) كذا في كتاب الشعر الجاهلي، وفي "الأمالي" لأبي علي القالي (ج 1 ص 187): "اجتمع خمس جوار من العرب، فقلن: هلممن نصف خيل آبائنا
…
".
(2)
كذا في كتاب الشعر الجاهلي، وفي "أمالي القالي" (ج 1 ص 16): "قالت عجوز من العرب لثلاث بنات لها: صفن ما تحببن من الأزواج
…
".
غريب مسجوع، واشتمال الكلام على الغرابة والسجع غير كاف في الحكم عليه بالاختلاق.
أما الغرابة، فإن المعزوّ إليهن هذا الحديث عرب، والألفاظ من نوع اللغة المستعملة في محاوراتهم ومسامراتهم، وقد تكون غريبة بالنسبة إلى الناشئ في غير عهدهم؛ حيث لا تلاقيه هذه الكلمات في كلام فصحائهم إلا قليلاً.
وأما السجع، فنحن نعلم أنه أقرب منالاً، وأيسر من صناعة الشعر، بل هو أدنى مأخذًا من الرجز. والتواتر شاهد بأن في الناس من يقول الشعر أو الرجز على البداهة، ومتى صحّ ارتجال الكلام الموزون، لم يكن في الحديث الجاري على أسلوب السجع غرابة تدعو إلى الحكم عليه بالاصطناع، ومن المحتمل أن يكون الفتيات كالفتيان يتدربن لذلك العهد على طريقة السجع حتى ينقاد لهن، ويجري على ألسنتهن كما يجري عليها المرسل من القول، ونحن لا نذهب إلى أن مثل هذه القصة داخل في التاريخ الموثوق بصحته؛ لأن طريق روايتها لا يكفي في الدلالة على أنها وقعت حقاً، ونرى -مع هذا- أن الباحث الحكيم، وهو الذي يفصل الحكم على قدر البحث، لا يقول على حديث:"إنه لم يُقل" إلا أن يأتي في بحثه بما يستدعي هذا الحكم القاطع، وقد عرفتم أن المؤلف إنما وضع حكمه على غرابة الكلام وسجعه، وهما جائزان على العربي القح، فلا تدخل هذه القصة وأمثالها في قبيل ما يحكم عليه بأنه كذب لا محالة، ولا تتعدى في نظر المؤرخ المحقق موقع الظن الذي يسوغ له تدوينها لينتفع بما فيها من أدب، وليتألف من مجموع أخبارها ما يكون كالمرآة ينظر فيه كيف كان حال المرأة في الجاهلية.