الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شعره بالسهولة تارة، وبالغرابة أخرى، ففي شعر علقمة السهل اللين، وفيه ما لا يفهمه المؤلف إلا أن يستعين عليه بالمعاجم.
*
أبيات طرفة في وصف الناقة:
قال المؤلف في (ص 175): "وانظر في هذه الأبيات التي يصف بها الناقة:
وإني لأمضي الهمّ عند احتضاره
…
بعوجاءَ مِرْقالٍ تروح وتغتدي
وسرد ستة أبيات بعدها.
ثم قال: "وهو يمضي على هذا النحو في وصف ناقته، فيضطرنا إلى أن نفكر فيما قلناه من قبل من أن أكثر هذه الأوصاف أقرب إلى أن يكون من صنعة العلماء باللغة منه إلى أي شيء آخر".
دعوى أن هذا الشعر من صنع علماء اللغة ليس بالمستحيل الذي يأباه العقل في كل حال، ولكنه لا يزال في رأينا بعيداً، ولا سيما حيث لم يشده المؤلف برواية، أو رأي يجعل نظم طرفة لهذا الشعر شيئاً نكراً.
اللفظ والأسلوب عربي فصيح، ووصف العرب للناقة والفرس في أشعارهم سنّة جارية، وتفاوت أبيات القصيدة في السهولة والغرابة معروف في كثير من أشعار الجاهليين والإسلاميين. إذاً لا غرابة في أن تكون هذه الأبيات الواردة في وصف الناقة لطرفة بن العبد.
*
الحديث عن اللهو واللذة والإلحاد:
قال المؤلف في (ص 176): "ولكن دع وصفه للناقة، واقرأ:
ولست بحلال التلاع مخافة
…
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
وسرد بعده ثمانية أبيات من القصيدة، وأثنى على هذه الأبيات من ناحية نسجها.
وقال: "وامض في قراءة القصيدة، فستظهر لك شخصية قوية ومذهب في الحياة واضح جلي: مذهب اللهو واللذة يعمد إليهما من لا يؤمن بشيء بعد الموت، ولا يطمع في الحياة إلا فيما تتيح له من نعيم بريء من الإثم والعار على ما كان يفهمها عليه هؤلاء الناس:
وما زال تشرابي الخمور ولذتي
…
وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي"
وتلا بعد هذا البيت ثمانية أبيات من القصيدة، ونفى عن هذه الأبيات أن تكون متكلفة، أو منتحلة، أو مستعارة، وأخذ يتحدث عنها في هيئة الطائر فرحاً من وقوعه عليها، وذكر أن فيها شخصية "ظاهرة البداوة، واضحة الإلحاد، بينّة الحزن واليأس، والميل إلى الإباحة في قصد واعتدال"، وانثنى يتحدث عن صاحب هذه الشخصية، ووصفه بالصدق في يأسه وحزنه وميله إلى هذه اللذات.
ثم قال: "وإنما الذي يعنيني: أن هذا الشعر صحيح، لا تكلّف فيه ولا انتحال، وأن هذا الشعر لا يشبه ما قدمنا في وصف الناقة، ولا يمكن أن يتصل به، وأن هذا الشعر من الشعر النادر الذي نعثر به من حين إلى حين في تضاعيف هذا الكلام الكثير الذي يضاف إلى الجاهليين، فنحس حين نقرؤه أنا نقرأ شعراً حقاً فيه قوة وحياة وروح".
أخذت المؤلف لوقوعه على هذا الشعر هزة ارتياح، فأطلق قلمه في وصفه وتقريظه، كأنه المثل الأعلى لما تجود به القرائح، ويبدع تنسيقه البيان.
المعروف في سنّة البحث: أن الكاتب إذا دعاه الموضوع إلى التعرض لمنثور أو منظوم، وجدته يتناول الحديث عنه من الناحية الملائمة لهذا الموضوع، ويملك نفسه عن أن يأتيه من ناحية لا تلتقي مع البحث في سبيل. والمؤلف لا يأخذ بهذه السنّة، على الرغم من استنارتها، ودلالتها على رسوخ الكاتب في العلم الذي يبحث فيه.
يفاتحك هذا المؤلف بالحديث عن الشعر الجاهلي في هيئة الباحث المخلص، فتظن به خيراً، وتلقي إليه سمعك وأنت شهيد، ثم لا يلبث في البحث بضعة أسطر حتى يخرج بك إلى أن يقضي حاجة أخرى، وما هي إلا طعن في هداية، أو تشويه حقيقة، أو ارتياح للخروج عن فضيلة.
يتحدث المؤلف في هذا الفصل عن شعر طرفة من ناحية نسبة هذا الشعر إليه، حتى وصل إلى أبيات:"فما زال تشرابي الخمور ولذتي"، وكان نظام البحث يقضي عليه أن يخوض في هذه الأبيات من الجهة المتصلة بإضافتها إلى طرفة، ولكنه لم يتمالك أن نبذ الموضوع وراء ظهره، وأقبل يحدثك عن مذهب اللهو واللذة، وعما في هذا الشعر من شخصية واضحة الإلحاد، وما فيه من إباحة قال عنها: إنها مقتصدة معتدلة، وجعل يصف صاحب هذه الشخصية بأنه صادق في ميله إلى هذه اللذات التي يؤثرها، وأسف إذ لم يعثر على مثل هذا الشعر فيما يضاف إلى الجاهليين إلا نادراً، ولإعجابه بمعاني هذا الشعر، أخذ يحثو عليه المدح بملء فمه، ويقول لك: إنه شعر حق، فيه قوة وحياة وروح. ولم يكفه أن يتسلل من مقام البحث إلى الحديث عن اللهو واللذة والإلحاد، فصاح قائلاً لك وهو في نشوة من هذا الحديث:"وليس يعنيني أن يكون طرفة قائل هذا الشعر"، يقول هذا، وهو لم يسق الأبيات إلا بمناسبة البحث في أن طرفة قال هذا الشعر، أو لم يقله.