الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول ابن قتيبة في التأويل: "وفسروا القرآن بأعجب تفسير، يريدون أن يردوه إلى مذاهبهم، ويحملوا التأويل على نحلهم، فقال فريق منهم في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} [البقرة: 255]؛ أي: علمه، وجاؤوا على ذلك بشاهد لا يعرف، وهو قول الشاعر: "ولا يكرسئ علم الله مخلوق".
وقال الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتاب "تاريخ آداب اللغة العربية": "وهنا ضرب ثالث من الشواهد نشأ في القرن الثالث، وهو ما يولده بعض المعتزلة والمتكلمين للاستشهاد به على مذاهبهم، وكانت رواية الشعر فيهم يومئذ عامة"، وساق على هذا كلام ابن قتيبة الملقى إليك آنفاً، وأضاف إليه مثالاً آخر من كتاب الحيوان للجاحظ.
لا نريد أن نقول: إن هذا مما نقده أهل العلم قبل المؤلف، ولا نريد أن نبحث في أن المؤلف يعرف لهذا الغرض مثالاً غير هذا الذي ذكره الأستاذ الرافعي، أم لا يعرف، وإنما أريد أن أقول: إن المؤلف يدعي أن المعتزلة يعتمدون على آراء الجاهليين، ثم يسوق الشاهد، ويصف قائله بأنه "المجهول طبعًا" كما قال ابن قتيبة:"بشاهد لا يعرف". وإذا لم يذكروا القائل باسمه، وكانت عادتهم الاستشهاد بالشعر العربي، جاهليًا كان أو إسلاميًا، فمن أين علم المؤلف أنهم نسبوا هذا الشاهد إلى الجاهليين؟.
*
رواية الجاحظ للشعر:
تحدث المؤلف بأن كذب أصحاب العلم على الجاهليين كثير.
ثم قال في (ص 79): "لأمر ما كان البدع في العصر العباسي عند فريق
من الناس أن يرد كل شيء إلى العرب، حتى الأشياء التي استحدثت، أو جاء بها المغلوبون من الفرس والروم وغيرهم. وإذا كان الأمر كذلك، فليس لانتحال الشعر على الجاهليين حد. وأنت إذا نظرت في "كتاب الحيوان" للجاحظ، رأيت من هذا الانتحال ما يقنعك ويرضيك".
لم يكن أهل العلم يأخذون الشعر على أنه جاهلي من كل من يكتبه في كتاب، أو ينشده في مجلس، بل كانوا يفرقون بين هذا الذي يرويه الثقات، أو تتعدد مآخذه؛ كالمفضّليات والمعلّقات، وبين ما يرويه أناس نقدوهم، فلم يجدوهم على ثقة، ومن هذا النوع ما ينفرد بروايته الجاحظ؛ فإنهم كانوا يعدون أحاديثه وأدبه مما يستعان به على السمر، قال أبو منصور الأزهري في مقدمة "تهذيبه" يصف الجاحظ:"وكان أوتي بسطة في لسانه، وبيانًا عذبًا في خطابه، ومجالًا واسعاً في فنونه، غير أن أهل المعرفة بلغات العرب ذمّوه، وعن الصدق دفعوه، وأخبر أبو عمرو الزاهد: أنه جرى ذكره في مجلس أحمد بن يحمى، فقال: "اعزبوا عن ذكر الجاحظ؛ فإنه غير ثقة، ولا مأمون"، وينبئك بن من هذه الأشعار العربية ما لا يثقون بروايته، ويعدونه فيما يسمر به عند الملوك ونحوهم: قول ابن سلام -بعد أن ساق بيتين ينسبان إلى لبيد-: "ولا اختلاف في هذا أنه مصنوع، تكثر به الأحاديث، ويستعان بها على السمر عند الملوك، والملوك لا تستقصي".
فيما يرويه الجاحظ في نحو "كتاب الحيوان" من الشعر، وينفرد بروايته، لا يثق به أهل العلم، ولا يبنون عليه تاريخاً، ولا يعولون عليه في تقرير حكم، أو قاعدة لغوية، وإنما يقرؤونه من حيث إنه أدب، وهو من أدب اللسان، وإن كان معزوّاً إلى غير قائله.