الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما ليس بحق حقاً، وأن يسمّي ما ليس بالتاريخ تاريخاً، وأن هذه الطائفة هي التي تتراءى للمؤلف عند كل بحث، فتأخذه لوثة، ويقبل على هذه الخيالات إقبال المشير بسبابته، يريها أنه لا يمتثل أمرها، ولا يبالي نهيها. وشأن الكاتب لإخلاص أن يجيل نظره، ويطلق قلمه، وإذا انتهى به البحث إلى الرأي، حفّه بأدلته، وأذاعه بين الناس، فإما أن يمكث في الأرض، وإما أن يذهب جفاء. ولو لم يكن في نية المؤلف الانحراف عن الأدب إلى غايات مؤذية، لما أنطق كتابه بمثل هذه الجمل التي لا تتقدم بالبحث خطوة، ولا يكون بها عند ذوي العقول الراجحة وجيهاً.
*
القابض على الماء:
قال المؤلف في (ص 125): "وإنما كثرة هذه كلها قصص وأساطير لا تفيد يقيناً، ولا ترجيحاً، وإنما تبعث في النفوس ظنوناً وأوهاماً، وسبيل الباحث المحقق أن يستعرضها في عناية وأناة، وبراءة من الأهواء والأغراض، فيدرسها محللاً ناقداً، مستقصياً في النقد والتحليل".
ليس في هذا شيء زائد على المنهج المقرر لتحقيق ما يرجع إلى الرواية والتاريخ، وليست المزية في تصوير المنهج، وإنما المزية في العمل عليه بجد واستقامة، وقد رأيتم المؤلف كيف يجد الخبر أو الشعر مفصلاً على قدر بغيته، فيغمره بالتصديق من كل وجه، وأنت لو استعرضته بعناية وأناة، لسقط من يدك، ولم يبق فيها من أثره إلا مقدار ما يبقى من الماء في يد القابض على الماء.
*
عناية العرب برواية الشعر وإنشاده:
قال المؤلف في (ص 126): "ذلك أن أخبار الجاهليين وأشعارهم لم
تصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة، وإنما وصلت إلينا من هذه الطريق التي تصل منها القصص والأساطير: طريق الرواية والأحاديث، طريق الفكاهة واللعب".
يعرف القراء ما كان للعرب من العناية برواية الشعر وإنشاده، لا يمتاز بذلك الرجال عن الغلمان، ولا الطبقة المستنيرة عن طبقة العوام، وكانوا يتنافسون في هذا المجال، وكادوا لا يعرفون فناً من فنون العلم سواه.
جاء الإِسلام، فقلت هذه العناية، وضعف أمر هذا التنافس، بمعنى أن قسماً عظيماً ممن شأنهم العناية بالشعر، والتنافس في روايته، شغلوا بالجهاد، أو صرفوا هممهم إلى التفقه في الدين، ولكن الطبقة التي عنيت بالأشعار أيام جاهليتها قد بقي منها عدد وافر إلى العهد الذي راجعت فيه رواية الشعر شبابها.
ترى من هذا القبيل الشعراء الذين عاشوا حيناً في الجاهلية، وحينًا في الإِسلام؛ كلبيد، وسويد بن أبي كأهل، وحسّان، والنابغة، والحطيئة، ومتمم ابن نويرة، والشماخ، ونهشل بن حرّى. وإذا كنا نرى للشعراء الإِسلاميين والمحدثين عناية بحفظ أشعار من تقدمهم، فلا شك أن هؤلاء المخضرمين كانوا يحملون من شعر الجاهليين أوقاراً يتلقاها عنهم الناس إلى أوائل عهد الدولة الأموية.
ومن المستفيض في كتب الأدب: أن للشعراء رواة يصحبونهم، ويروون عنهم أشعارهم، كما كان عبيد راوية للأعشى، وكان الحطيئة راوية زهير وآل زهير. واستمرت هذه العادة في الإِسلام، فكان هدبة راوية الحطيئة، وجميل راوية هدبة.