الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجاهلي، وما عليه إلا أن يقول لتلك الطائفة القليلة المستنيرة: اعتقدوا أن هذا شعر أمية بقلوبكم حتى تتنكر للقرآن، وأنكروه بعقولكم حتى ينتظم شمل نظرية الشك في الشعر الجاهلي! وإذا وجد في أبناء الأربعين من تقبّل منه مثل هذا الهذيان، وتحدث به في مجلس ينبغي ألّا تسمع فيه لاغية، أفلا يقبله الأطفال الذين يخرج لهم المنكر من طريق الحق، فيضربون أيمانهم على شمائلهم، ويرجّون له الهواء بالتصدية رجّا؟!.
*
شبهة أن للقرآن مصادر من اليهودية والنصرانية:
ما يقوله المستشرقون، ويحكيه عنهم المؤلف؛ من أن للقرآن مصادر، هي: اليهودية، والنصرانية، ومذاهب بين بين، ليس بشبهة جديدة، ولا هو "من النتائج العلمية القيمة" التي انتهوا إليها على مناهج النظر الصحيح.
لا نزدري الغربيين وعلومهم الغزيرة، وإجادتهم النظر في الماديات، وما تنتظم به مرافق الحياة ووسائل العمران الذي نشهده بأبصارنا، ونلمسه بأيدينا، ولكنهم لم يبلغوا أن يمتازوا بالثقافة في كل علم حتى المباحث التي لا يتوقف إدراك حقائقها إلا على ذكاء الباحث، وصفاء بصيرته.
فإن كان المؤلف يضع قلبه بين أصابع المستشرقين، ويملأ جرابه من حقائب المستشرقين، ويستهوي تلك الطائفة باسم المستشرقين، فإن للناس بصائر تأبى لهُم أن يُقلدوهم في الفرق بين الحق والباطل، والفصل في أسباب السعادة والشقاء، ولا سيما بعد أن رأوا فيهم صفواً وكدراً، ونظاماً وخللاً، وأدباً وسفهاً، وذكاءً وبلهًا، وسلاسة وتعسفاً.
من درس حال الثقات من علماء الحديث والآثار، لا يمتري في أنهم يروون الأحاديث والآثار بأمانة، ولا يخطر على بالهم أن يكتموا من السيرة
النبوية صغيراً أو كبيراً. دخل في الرواية الوضع لأسباب بسطناها في مقدمة "المغني عن الحفظ"، أما أن يعمد الرواة إلى أن يحذفوا من السيرة النبوية ما وقع إلى أسماعهم، فذلك ما لا يتصوره العارف بحقيقة الرواية.
فمن توجه قصده إلى شيء يتصل بالسيرة النبوية، فليبحث عنه في كتب الآثار، وتاريخ عهد النبوة، فإنه يجد فيها الموثوق بروايته ما أمكن للجاهلين والمنافقين إلصاقه بأكمل الخليقة، ويرى قواعد أهل الحديث كيف تعمل في الروايات، فتدفع هذه الرواية إلى اليمين، والأخرى إلى الشمال.
ليس في الروايات صحيحها وأساطيرها أثر يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام بارح مكة قبل البعثة، وغاب عن قومه، إلا ما روي من خروجه مع عمه أبي طالب إلى الشام خطرة، وسفره في تجارة لخديجة بنت خويلد خطرة أخرى. فلا يستقيم لأحد ادعاء أنه تعفم القراءة، ودرس التوراة والإنجيل مدة مغيبه عن مكة وقومُه لا يشعرون، فإن لسفر التجارة أياماً معدودة لا تكفي لدرس ديانة أو ديانتين، لا سيما بعد أن تطّرح منها أوقات الاشتغال بشأن التجارة، وما حال المسافرين للتجارة منا ببعيد.
ولا يصح لأحد أن يدعي أنه عليه الصلاة والسلام تعلم كتب اليهود والنصارى، ومذاهب بين بين في مكة، وعلى مرأى من قومه، إذ لو وقع شيء من هذا، لم يجيء في القرآن آيات تصفه بعدم القراءة والتلقي من البشر، ولو جاءت هذه الآيات، وكان قد تعلم من يهودي أو نصراني، لم يجد من قومه وعشيرته الذين رأوه يقرأ ويتعلم أنصاراً إلى الله يؤمنون به، ويجلسون بين يديه كأنما على رؤوسهم الطير.
ولا يصح أن يكون عليه الصلاة والسلام قد تعلَّم كتب اليهود والنصارى، ومذاهب بين بين في خلوة، وعلى حين غفلة من قومه، فإن تلقي بعض الكتب في خفاء قد يمكن للرجل الغريب في مدينة لا يعرفه فيها إلا بضعة أشخاص يلاقونه في الشهر، أو في الأسبوع، أو في اليوم مرة أو مرتين، أما رجل ذو عشيرة، وذو مزايا تلفت له الأنظار، وتجذب له القلوب؛ كمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ينشأ في بلدة لها طرق محدودة، وبيوت معدودة كمكة، فليس من المقبول أن يتمكن من التردد على مواطن يختلي فيه بيهودي أو نصراني دون أن يشعر به أحد من قومه أو عشيرته الأقربين.
وليس من المعقول أن يقال: قد وقعت إلى يده نسخة من التوراة، وأخرى من الإنجيل؛ لأنهما لم يخرجا إلى لسان العرب بعد، ولا يقرؤهما إلا من درس اللغة العبرية، ولو درس النبي عليه الصلاة والسلام تلك اللغة، وعرف كيف يقرأ حروفها الهجائية، لما عرج القرآن على وصفه بالأمية، ولما ظل النبي - صلوات الله عليه - يتلو آياتها، والناس يشهدون ويؤمنون.
إن رجلاً له أولو قربى يجاورونه، وطائفة من غيرهم يعرفونه أو يصادقونه،
لا يمكنه أن يتعلم علماً أو لساناً دون أن يشعر له أحد منهم، ولو اجتهد في
أن يكتم أمره، ويسد في وجوههم كل سبيل.
هذا شأنه قبل البعثة، أما زعمُ تعلّمه لما في التوراة والإنجيل، ومذاهب بين بين بعد قيامه بالدعوة، فبطلانه أشد بداهة، إذ لا يلائم حكمه القائم بتلك الدعوة المؤزّرة بكل جد وحزم أن يجادل اليهود والنصارى، ويشتد بينه وبينهم الخصام، ثم يطلب لديهم علم التوراة والإنجيل، ولو طلب لديهم ذلك، لأقام في سبيل دعوته عقبة كؤوداً، فقد أصبح بعد ظهوره
بالدعوة مرموقاً بكل لحظ، مشاراً إليه بكل كان، ولا سيما بعد أن استجاب له طائفة يجلسون إليه بالعشيّ والإبكار.
ومن الباطل على البداهة أن يأخذ علوم هذه الأديان عمّن أسلم من أهلها، ثم يجيء بها في القرآن على أنها وحي يوحى، ولو جرى شيء من هذا، لكان سبباً لارتداد الطائفة التي أخذ عنها، أو الطائفة التي سمعته يحاورها، ولو وقع ارتداد على هذا الوجه، لوجدنا له في الرواية أثراً.
قصّ علينا القرآن قول بعض الذين أشركوا: إنه ساحر، وقول آخرين: إنه مجنون، وقول طائفة ثالثة: إنه شاعبر، وأضاف إلى هذا قول بعضهم [إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ] [النحل: 103]، وأورد هذه المزاعم استخفافاً بأقوال يعلم العارفون بنشأة النبي عليه الصلاة والسلام وأطوار حياته أنها إفك مفترى، كما يعلم الذين أوتوا الحكمة والروية أن صاحب هذه الآيات الباهرات، والسيرة التي تتمخض الأيام بما يشبهها، بريء من أن يقول على شيء: هو من عند الله، وما هو من عند الله. ولو كان المقام للبحث عن دلائل النبوة، لأتيناك بالحقال في تتسلل من ساحته هذه المطاعن والمغامز لواذاً.
ولو سلمنا أن ما جاء في القرآن من الأحكام والأنباء المتصلة بالتوراة والإنجيل قد يكفي فيه لقاء الصدفة، أو الاستماع إلى من يتحدث به على قارعة الطريق، لكان في دلائل النبوة ما يصدع بأن تلقّي النبي عليه الصلاة والسلام بعْض هذا القرآن من لدن بشر، غير واقع، وغير محتمل لأن يكون.
قد يجيء القرآن على وجه التذكرة والموعظة بنبأ يعلمه الناس من قبل، ولكنه لا يقول إلا حقاً، ولا يحكي إلا واقعاً، ومن زعم أنه يعظ بالقصص