الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
سهولة الألفاظ وغرابتها في الشعر الجاهلي:
قال المؤلف في (ص 174): "وأنت إذا قرأت شعر طرفة، رأيت فيه ما ترى في أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين، ولا سيما المضريين منهم، من متانة اللفظ وغرابته أحياناً، حتى لتقرأ الأبيات المتصلة، فلا تفهم منها شيئاً دون أن تستعين بالمعاجم. ولكنك تلاحظ أن هذا الشعر أشبه بشعر المضريين منه بشعر الربعيين، وذكر أن الربعيين يتفقون في السهولة التي تبلغ الإسفاف، وأنه لا يستثنى من شعرهم إلا قصيدة الحارث ابن حلزة، ثم قال: دافكيف شذ طرفة عن شعراء ربيعة جميعاً، فقوي متنه، واشتد أسره، وآثر من الإغراب ما لم يؤثر أصحابه، ودنا شعره من شعر المضريين؟! ".
الألفاظ التي يتألف منها شعر طرفة واردة في كلام غيره من منظوم العرب ومنثورهم، وورودها في غير شعر طرفة دليل على أنها مألوفة الاستعمال لذلك العهد، وإذا كانت حروفاً عربية، وكانت من قبيل ما يأخذ به الفصحاء أشعارهم وخطبهم، لم يكن دخولها في شعر طرفة بمستنكر، كما أن أخذها في القصيدة مواقع متقاربة، وهي من الألفاظ العربية الصريحة، لا يثير في نفس الناظر ريبة، وإن لم يكثر استعمالها في المخاطبات أو المنشآت الأدبية كثرة استعمال السيف والرمح، والعلم والجهل، والقلب واللسان، والسماء والأرض، فما يجئ في شعر طرفة من هذه الأبيات التي نستعين على فهم بعض كلماتها بالمعاجم كقوله:
أمون كألواح الأران نصأتها
…
على لاحب كأنه ظهر برجد
قد كان خطابها موجهاً إلى قوم يفهمونها لأول ما يسمعونها، كما
يفهم الناس اليوم قوله:
إذا القوم قالوا مَن فتى خلت أنني
…
عُنيت فلم أكسل ولم أتبلّدِ
ولا ننكر مع هذا أن توصف الكلمة في عهدهم بالغرابة حيث لا تكون كثيرة الدوران في محاوراتهم، أو حيث تكون لغة قبيلة لم تتناولها الفصحاء من سائر القبائل، فيخفى فهمها على كثير من العرب أنفسهم.
ولا يبقى بعد هذا سوى النظر في اختلاف شعراء الجاهلية، حيث يذهب بعضهم في شعره إلى السهولة، فيصوغه من الكلمات الكثيرة الدوران في منشآت الفصحاء ومحاوراتهم، ويذهب آخرون إلى أن يدخلوا في نسجه شيئاً من هذه الكلمات الغريبة قليلاً أو كثيراً.
لا ننظر إلى الشعر في صدر الإسلام، أو في عهد الدولة الأموية، أو حين أخذت اللغة هيئة غير هيئتها الفطرية؛ فإن اختلاف الشعراء لهذه العصور في سهولة الألفاظ وغرابتها غني عن إقامة الشاهد والمثال، بل لا نذهب بالقارئ مذهب الإسهاب، فنسوق إليه شواهد من الشعر الجاهلي الذي قال عنه المؤلف: إنه منتحل انتحالاً. وإنما ننظر في الشعر الجاهلي الذي عفا عنه المؤلف، ولم يجعل على الناس من حرج في أن يضيفوه إلى قائله الجاهلي الصريح.
قد كف المؤلف يده في فصل سلف عن قصيدتين لعلقمة، ورفع من قلبه الشك فيهما، وأنت حين تقرؤهما تجد فيهما سهولة شعر مهلهل، وامرأة أخيه جليلة، وعمر بن كلثوم، وتجده يقول في البائية:
منعمة ما يستطاع كلامها
…
على بابها من أن تزار رقيبُ
إذا غاب عنها البعل لم تفش سره
…
وترضى إياب البعل حين يؤوب
فإن تسألوني بالنساء فإنني
…
بصير بأدواء النساء طبيب
يردن ثراء المال حيث علمنه
…
وشرخ الشباب عندهن عجيب
ولو كنا نتحدث إلى غير ذي أذواق سليمة، ونستطيع الإغضاء عن الحقيقة، لرمينا القول كما يرميه المؤلف، وقلنا: في هذه الأبيات مع السهولة إسفاف.
وتجد في هاتين القصيدتين الأبيات أو الأشطار المشبّعة بالغرابة؛ كقوله في الميمية:
سقى مذانب قد زالت عصيفتها
…
حَدورها من أتيّ الماء مطموم
وقوله:
يظلّ بالحنظل الخطبان ينقفه
…
وما استطف من التنوم مخذوم
وقوله:
إذا تزغم من حافاتها ربع
…
حنت شغاميم في حافاتها كوم
وقوله:
"جلذية كافان الضحل علكوم"
وقوله في البائية:
"له فوق أصواء المتان علوب"
فإن كان الجاهلي لا ينظم الشعر سهلاً، ففي شعر علقمة ما يفهمه السوقة حين يجري على لسان المارّ في قارعة الطريق. وإن كان الجاهلي لا ينظمه غريباً، ففي شعر علقمة ما لا يفهمه طالب العلم إلا أن يستعين عليه بمثل "لسان العرب"، أو "القاموس". وإن كان الجاهلي لا يأخذ في