الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا ليثبت أن للإسلام في بلاد العرب قدمة وسابقة".
شأن الباحث بجد ألا يكتفي في إنكار رواية أو روايات بدعوى أنها وضعت وضعاً، وحملت حملاً، ثم يسمّي هذه الدعوى تفسيراً لها من الوجهة العلمية. والمؤلف يفعل هذا؛ لأن العلم في نظر هذه الطائفة القليلة التي تدق له الهواء بالتصدية إنما هو أن يقول فيتهكم، والتهكم في نظر هؤلاء السذج خير من العلم؛ وأشد وقعًا على أذواقهم من سبعين برهاناً.
إنكار المؤلف لأن يبقى أثر لدين إبراهيم عليه السلام في بلاد العرب، مبني على إنكار وجود إبراهيم، أو هجرته وهجرة إسماعيل إلى مكة، وقد عرفت أن هذا الإنكار لم يقم على بحث واستدلال، وإنما هو وليد نزعة لست أعلم بنشأتها وصابغ قلب المؤلف بعصفرها من هؤلاء القراء.
أما الذين يريدون أن يكونوا في البحث على بينة، فإنهم يضعون هذه الأشعار وما يتصل بها من الأخبار موضع النقد، فما وجدوا في رواته، أو في ألفاظه، أو في معانيه ما يدل على وضعه، أو يجر إلى ريبة، اطّرحوه، أو ارتابوا في أمره، وما وجدوه سليماً من كل جانب، قبلوه، وتناقلوه.
*
المعاني الدينية في الشعر الجاهلي:
قال المؤلف في (ص 80): "وعلى هذا النحو تستطيع أن تحمل كل ما تجد من هذه الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلى الجاهليين، والتي يظهر بينها وبين ما في القرآن من الحديث شبه قوي أو ضعيف".
من شاء أن ينظر إلى قاعدة تمتد إلى غير نهاية، ولا تتصل بما يمسكها أن تزول إلا إرادة هذا المؤلف، فلينظر إلى هذه الفقرة التي تمثل قلماً يشتهي أن يكتب، فينتكس، ويرمي بالحديث في غير قياس.
كل شعر أو خبر أو حديث يضاف إلى الجاهليين، ويكون بينه وبين آية من القرآن شبه قوي أو ضعيف، فهو مصنوع!.
أليس من الجائز أن ينطق العرب بحكمة، فيأتي القرآن بهذه الحكمة على وجه أبلغ وأرقى؟!.
أمن الحق أن ننكر أن العرب قالوا مثلاً: "القتل أنفى للقتل" لمجرد شبهه بقول القرآن: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]؟!. أو من الحق أن ننكر أن زهيراً قال:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
…
ولو رام أسباب السماء بسلَّم
لأن له شبهاً قوياً أو ضعيفاً بقول القرآن: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]؟!.
فإن أراد المؤلف من الشبه: المعاني الدينية، قلنا: هو إذاً يحدثنا برأي (مرغليوث) كأنه يأبى أن يبقي له في ذلك المقال باقية.
أورد (مرغليوث) شبهة خلو الأشعار المعزوّة إلى الجاهليين من الصبغة الدينية، وقد سقناها إليكم مع ما يدفعها، ثم قال: نعم، نجد شعراء الجاهليين يقسمون كثيراً في أشعارهم، ولكن كل أيمانهم الواردة في دواوينهم هي بالله، وذكر أن كثيراً من هذه الأشعار تشتمل على عقيدة التوحيد التي تنسب التصرف إلى الله، وعلى أشياء إنما يذكرها القرآن، وأورد شواهد شتى.
وقد تعرض المستشرق (إدور براونلش) في مقاله الصادر في "مجلة الأدبيات الشرقية"(1) للبحث في هذه الشبهة، فقال: "إن لغة الشعر كانت
(1) عدد أكتوبر سنة 1926.
معينة ومحصورة، ولهذا قال (كاسكل) في كتابه المسمّى:"البحث في الشعر العربي الجاهلي"(1): إن الشعر لم يذكر اسم معبود لقبيلة، بل اكتفى بذكر الحظ والطالع والتمائم؛ لأنها كانت معتقدهم جميعاً".
واسم الله، وإن لم يكن بمعنى التوحيد الوارد في الإِسلام، كان فوق أرباب جميع القبائل، ولا يختلفون في الاعتقاد به، راجع كتاب (ولهوزن) المسمّى:"بقايا الوثنية العربية"(2)، وعليه: فليس من المستغرب أن نرى اسم الله كثيراً ما يذكر في لغة الشعر الجاهلي، وليس لنا أن نعد البيت مزوراً لمجرد اشتماله على ذكر الله، أو الإله. أما الأبيات التي ذكرت فيها عبارات قرآنية، والتي ذكر لنا منها (مرغليوث) بعض الأمثال، فيصح لنا أن نأخذ فيها بملاحظة (الورد) في كتابه "حقيقة الشعر الجاهلي"(3)، و (ليال) في ملاحظته على شعر عمرو بن قميئة، وهي:"يجب علينا أن نفحص موضع البيت من القصيدة؛ لنعلم صلتها بأقوال الشاعر المنسوبة إليه". ثم قال: "ليس من الممكن أن أذكر كل المواضع التي ذكرها (مرغليوث)، وقال: إنها إسلامية، فللإنسان أن يدققها ويفندها".
ولعلك تزداد خبرة بن المؤلف يملأ حوصلته من كتب المستشرقين، ويرفع بها رأسه متطاولاً على الشرقيين تطاول من لا يبالي عاقبه الافتضاح. وسنتعرض لهذا البحث تارة أخرى؛ فإن المؤلف أعاده فيما تحدث به عن شعر عبيد.
(1)(ص 54) طبع سنة 1926.
(2)
(ص 184) سنة 1887.
(3)
(ص 27).