الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك التاريخ بروية وأناة؟
يصف المؤلف العامة بأنهم الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالمال، والمعروف في تاريخ ذلك العهد أنه عليه الصلاة والسلام يتألف الفريق الذين يسميهم المؤلف: مستنيرين وممتازين، ومن هؤلاء أبو سفيان الذي يلقبه المؤلف بزعيم قريش وحازمها، وابنه معاوية الذي أصبح مثلاً لنباهة الرأي والدهاء في السياسة، وفي "صحيح البخاري":"بعث علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة، فقسمها بين أربعة: الأقرع بن حابس، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الطائي، وعلقمة بن علاثة العامري، فغضبت قريش والأنصار، قالوا: يعطي صناديد أهل نجد، ويدعنا؟! قال صلى الله عليه وسلم: إنما أتألفهم". ولم يقل أحد من أهل العلم: إن التأليف بالمال كان لطبقة العامة الذين لم يكن النبي- عليه الصلاة والسلام يجادلهم ويجاهدهم، بل ترى بعضهم يجعل المؤلفة قلوبهم أشراف العرب كما قال صاحب "الكشاف":"هم أشراف من العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم على أن يسلموا". ومنهم من يجعلهم طائفتين كما قال الشهاب القسطلاني في "شرح الجامع الصحيح": "هم قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة، فيستألف قلوبهم، أو أشراف يرقب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم".
*
العرب قبل الإسلام:
قال المؤلف في (ص 21): "والقرآن لا يمثل الأمة العربية متدينة مستنيرة فحسب، بل هو يعطينا منها صورة أخرى يدهش لها الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في درس الحياة العربية قبل الإسلام، فهم يعتقدون أن العرب كانوا قبل الإسلام أمة معتزلة تعيش في صحرائها، لا تعرف العالم
الخارجي، ولا يعرفها العالم الخارجي".
ادّعى المؤلف -فيما سلف- أنه استنبط من القرآن شيئاً خفي على القدماء، وهو أن للأمة العربية ديناً، وفيها طبقة مستنيرة، وادّعى في هذا الموضع: أنه انتزع من القرآن صورة أخرى، ووصفها بأنها ستدهش الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في درس الحياة الجاهلية، وسيعرض هذه الصورة المدهشة في قوله: إن العرب قبل الإسلام أصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة، متأثرة بها، مؤثرة فيها.
ابتدأ في تقرير هذه النظرية بدعوى أن الذين تعودوا أن يعتمدوا على الشعر الجاهلي، يعتقدون أن العرب في جاهليتهم كانوا في عزلة وانقطاع عن العالم الخارجي، لا يسمعون عنه خبراً، ولا يعرف لهم شأناً.
وهل يصدّق أحد أن من يدرسون الشعر الجاهلي يتصورون العرب أمة معتزلة في صحراء من الأرض، لا تعرف عما وراء حدودها من أحوال الأمم شيئاً؟ ومن أين يأتيهم هذا التصور، وهم يجدون في هذا الشعر الجاهلي والأخبار المتصلة به ما يحدثهم بأن من الشعراء -وهم زعماء القبائل- من كانوا يسافرون إلى الشام، وإلى اليمن، بل إلى فارس، وإلى القسطنطينية، تجد هذا في شعر عمرو بن كلثوم، وامرئ القيس، وأمية بن أبي الصلت، والأعشى ميمون بن قيس.
هم يعرفون أشياء تبرئهم من أن يتصوروا العرب أمة ملقاة في فلاة من الأرض، ألم يدرسوا قول عمرو بن كلثوم:
وكأس قد شربت ببعلبكّ
…
وأخرى في دمشق "اللّذ تلينا"(1)
(1) كذا في الأصل. وفي الديوان: "وقاصرينا".
أو لم يدرسوا قول امرئ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
…
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عيناك إنما
…
نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
أو لم يقرؤوا أن أبا الصلت، أو أمية بن أبي الصلت رحل إلى سيف ابن ذي يزن ليهنئه بالانتصار على الحبشة، وأنشد بين يديه قصيدته التي يقول فيها:
فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً
…
في رأس غمدان داراً منك محلالاً
وقال فيها:
من مثل كسرى وسابور الجنود له
…
أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا
بلى! وقرؤوا أن الأعشى كان "يفد على ملوك فارس، ولذلك كثرت الفارسية في شعره"(1). وقرؤوا أن النعمان بن المنذر وفد على كسرى بطائفة من فصحاء العرب: أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، والحارث بن عباد البكري، وعمرو بن الشريد، وخالد بن جعفر، وعلقمة بن علاثة، وقيس ابن مسعود، وعامر بن الطفيل، وعمرو بن معدي كرب، والحارث بن ظالم. وقرؤوا أن قابوس بن المنذر الأكبر بعث إلى كسرى بن هرمز بعديّ ابن زيد وإخوته، فكانوا في كتّابه يترجمون.
وإذا كان هذا الشعر والأخبار المتصلة به من قبيل المصطنع في نظر المؤلف، فذلك بحث آخر لا يعنيه المؤلف في هذا المقام، فهم على أي حال لا يتصورون العرب في ذلك الانقطاع البعيد كما يدّعي عليهم، ولا يستطيعون
(1)"الشعر والشعراء" لابن قتيبة (ص 137).