الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا ندري لماذا لم يعدّ المؤلف هذه الحروب العنيفة أسطورة، مع قيام رواية بجانبها تقول:"إن السريانيين واليونان طردوا اليهود من بلادهم، فقابلهم بنو إسماعيل بالترحيب، وتهوّد منهم كثير؛ لما رأوه في كتب اليهود القديمة من التعظيم للإِله الذي اهتدى إليه الخليل عليه السلام لعباته"(1)؟
*
الإسلام بريء من هذا السخف والهزل:
قال المؤلف في (ص 27): "ولكن الشيء الذي لا شك فيه، هو أن ظهور الإسلام، وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب، قد اقتضى أن تثبت الصلة الوثيقة المتينة بين الدين الجديد، وبين الديانتين القديمتين: ديانة النصارى، واليهود، فأما الصلة الدينية، فثابتة واضحة، فبين القرآن والتوراة والأناجيل اشترالثاني الموضوع والصورة والغرض، كلها ترمي إلى التوحيد، وتعتمد على أساس واحد هو الذي يشترك فيه الديانات السماوية السامية. لكن هذه الصلة الدينية معنوية عقلية يحسن أن تؤيدها صلة أخرى مادية ملموسة أو كالملموسة بين العرب وأهل الكتاب، فما الذي يمنع أن تستغل هذه القصة قصة القرابة المادية ين العرب العدنانية واليهود".
يقول المؤلف فيما سلف: إن في القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين الإسلام واليهودية، والقرآن والتوراة، ويقول هنا: إن الخصومة بين الإسلام والوثنية قد اقتضت إثبات صلة بين الدين الجديد والديانتين القديمتين، ثم جعل القصة مستغلة لعقد صلة مادية بين العرب وأهل الكتاب.
(1)"خلاصة تاريخ العرب" لسيديو (ص 38) طبعة مصر 1359 هـ.
فالقصة جاءت في القرآن على وجه الحيلة في إثبات الصلة بين الإسلام واليهودية، وجاعت في القرآن لإثبات الصلة بين الدين الجديد، وهو الإسلام، والديانتين اليهودية والنصرانية، وجاءت في القرآن لإثبات صلة مادية بين العرب وأهل الكتاب.
هكذا يقول المؤلف! ويقول صاحب "ذيل مقالة في الإسلام": "ولما ظهر محمد، رأى المصلحة في إقرارها، فأقرها، وقال للعرب: إنه إنما يدعوهم إلى ملة جدهم هذا الذي يعظمونه من غير أن يعرفوه".
تابع المؤلف صاحب "الذيل" في زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد أمامة هذه القصة المزورة دائرة على ألسن العرب، فابتغاها وسيلة في بث الدعوة إلى هذا الدين الجديد، غير أنهما اختلفا في تصوير الغاية من تقريره لهذه القصة، فصاحب "الذيل" يزعم أنه أقرها لاستمالة العرب بإراءتهم أنه يدعوهم إلى ملة جدّهم الذي يعظمونه بقلوب لم تعرفه، والمؤلف أراد التظاهر بأنه لا يمشي خلف صاحب "الذيل" في كل رأي، فأخذ يتحسس لعله يلمس وجهاً غير وجه صاحب الذيل، حتى وقع خاطره على تخيل: أن النبي عليه الصلاة والسلام أتى بالقصة في القرآن لاستمالة أهل الكتاب من اليهود والنصارى حيث اشتدت الخصومة بينه وبين الوثنيين.
لا يهمنا كثيراً التنقيب عن مصادر الآراء، والخوض في أن المؤلف اعتصرها بفكره، أو تناولها على حين غفلة أو موت من أهلها، والذي يعنينا كثيراً إنما هو نقد الآراء نفسها حتى ينجلي أمرها، ويمتاز حقها من باطلها.
تعرضت التوراة لذكر إسماعيل عليه السلام ولم تأت على أبوته للعرب بصراحة، وإنما جاء فيها خطاباً لإبراهيم عليه السلام: "وأما
إسماعيل، فإني أجعله أمة؛ لأنه نسلك"، وجاء في حديثها عنه: "وسكن في برية فاران"، وفاران جبال بالحجاز، قال المرتضى في "شرح القاموس": وإليها ينسب أبو الفضل بكر بن قاسم الفاراني المتوفى سنة 277 هـ، وفرج ابن سهل الفاراني المتوفى سنة 238 هـ. وغير العرب يقولون: إنها برية، أو جبل عند العقبة في جزيرة سيناء. وقد سلك جرجي زيدان مسلك التوفيق بين القولين، فقال في "تاريخ العرب قبل الإسلام": "ويسهل تطبيق الروايتين متى علمنا أن جبال مكة أو جبال الحجاز تسمى أيضاً: "فاران"، فيكون المراد: أن البرية التي أقام فيها إسماعيل برية الحجاز، أو أنه أقام حيناً في سينا، ثم خرج إلى الحجاز، وسكن هناك، وتزوج" (1).
وذكرت التوراة أن إسماعيل حضر لدفن أبيه إبراهيم عليه السلام، فقالت:"ودفنه إسحاق وإسماعيل ابناه في مغارة المكفيلة"، وليس في هذا ما يعترض قصة هجرته ونزوله بمكة؛ لأن التوراة كما قال جرجي زيدان:"لم تذكر إسماعيل بعد خروجه من بيت أبيه إلا عند حضوره دفنه على عادتها من الاختصار فيما يخرج عن تاريخ أمة اليهود أو ديانتها".
وإذا لم يوجد في المنقول ما ينفي هجرة إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز، تبينا أن المؤلف إنما دخل لإنكار القصة من طريق العاطفة المضادة للإسلام وحدها، ولم يزد على أن غمرها بالإنكار، وادعاء أن اليهود اصطنعتها للعرب، ولم يزد على أن اتهم صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم باستغلالها واتخاذها حيلة لتأليف أهل الكتاب.
فحديث المؤلف عن هذه القصة يرجع إلى معنى أن اليهود اصطنعوها
(1)"تاريخ العرب قبل الإسلام"(ص 164).
احتيالاً على العرب، وأن الرسول الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أتى بها في القرآن احتيالاً على اليهود، وإذا بُلي المؤلف بإخراج القصة في ألوان من الحيل، أفلا يعذر آخر إن قال: إن صبغ المؤلف للقصة بألوان الاحتيال نوع من الاحتيال على عقائد السذج من قراء كتابه أو طلاب دروسه في الجامعة؟!.
أيحتال أطيب البريّة سريرة، وأبهرهم حجة على اليهود بقصة خرجت من مصنع تزويرهم! كلّا! إن القرآن ليدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، وليست القصة المزورة من الحكمة في شيء، وليس في القصة المزورة موعظة حسنة، ومن يتلو القرآن بتدبر، وينظر السيرة النبوية في مرآتها الصادقة، يعلم أن الإسلام بريء من هذا السخف والهزل، وما كان لمثل المؤلف أن يجعل سيرته أو سريرته قياساً لرسل الله الأكرمين.
نحن نعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد وجد من قومه الذين يشاركونه في آبائه الأقربين صدورًا مطوية على عداء، وألسنة مبسوطة بالكيد والأذى، ووجد من قوم لا يتصل نسبهم بإسماعيل ولا بإبراهيم إيماناً وطاعة وتأييداً، فلا نستطيع أن نفهم كيف يخطر على باله أن يأتي في القرآن بقصة القرابة بين العرب واليهود احتيالاً على أهل الكتاب، وهي قرابة قديمة العهد، بعيدة الأثر، تكاد تشبه القرابة بين العرب وأكثر من في الأرض حيث يتفقان في جد أعلى هو نوح عليه السلام، وليس ببعيد من صاحب هذه الفلسفة الغريبة أن يقول: إن قصة آدم الواردة في القرآن مستغلة لعقد الصلة الوثيقة المتينة بين الدين الجديد، والديانات وغير الديانات الكائنة على وجه البسيطة؛ لأن في القصة صلة ملموسة أو كالملموسة، وهي