الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس التكلف في هذه الأبيات سوى المبالغة في الخيال، وهي لا تنفي أن يكون صاحب الشعر جاهلياً، فإن للمبالغة في الخيال مثُلاً واردة في الأشعار المعزوّة إلى الجاهليين.
وليس في هذه الأبيات بعد هذا سوى ما يسمونه: "التضمين"، وهو عدم استقلال البيت بإفادة المعنى، وله أمثلة في الشعر الجاهلي، ومن علماء الأدب من يفصل فيه القول، ولا يعد النحو الواقع في مثل:"أقول له لما تمطى" من عيوب الشعر.
ولا نعني بهذا البحث أن يكف المحدثون عن نقد الشعر الذي وقع تحت أنظار القدماء من خلص العرب، أو نبغاء الأدب، ووصل إلينا سالماً من أثر نقدهم، فإن من الجائز ألا يتناولوا البيت بالنقد حتى يلوح لهم ما فيه من مغمز خفي، ومن الجائز أن يلوح لهم، وشمتهينوا به، فلا يلقنوه غيرهم، ومن المحتمل أن يتحدثوا به، ولا تحمله إلينا هذه الكتب الباقية مما تركوا، وإنما أقصد أن الوجه الذي تعرض به المؤلف لهذه الأبيات، لا ينهض بدعوى أنها ملصقة باصل القصيدة حتى يرجو من أنصار القديم ألا يخالفوه.
*
تقسيم القصيدة إلى ثلاثة أقسام:
ذكر المؤلف أنه فرغ من الشعر الذي لا اختلاف في أنه دخيل، وزعم أنه يستطيع أن يرد القصيدة إلى أجزائها الأولى، وقسّمها ثلاثة أقسام:
أحدها: وصف اللهو مع العذارى، وما فيه من فحش، وقال فيه: هذا أشبه أن يكون من انتحال الفرزدق منه بأن يكون جاهلياً.
ثانيها: وصف امرئ القيس لخليلته، وزيارته إياها، وتجشمه ما تجشم للوصول إليها، وتخوفها الفضيحة حين رأته، وخروجها معه، وتعفيتهما
آثارهما بذيل مرطها، وما كان بينهما من لهو، وقال: هذا أشبه بشعر عمر بن أبي ربيعة منه بشيء آخر، وزعم أن الذي أضافه إلى امرئ القيس راوٍ متأثر بهذا الشاعر.
ثالثها: ما هو من قبيل الوصف، ولا سيما وصف الفرَس والصيد، وقال في هذا: وأكبر الظن أن هذا الوصف فيه شيء من ريح امرئ القيس، ولكن من ريحه ليس غير.
لا أحسب القراء في حاجة إلى أن يسمعوا منا كلمة في مناقشة هذا الحديث؛ فان عوجه ملموس باليمين واليسار، ومن شاء أن نفتح له باب النقد، فإليه كلمة تريه ما في ذلك التقسيم من خطأ مبين:
يقول المؤلف في (ص 146): "ولنسرع إلى القول بأن وصف اللهو مع العذارى وما فيه من فحش أشبه بأن يكون من انتحال الفرزدق منه بأن يكون جاهلياً".
ثم ذكر قصة الفرزدق حين انتهى إلى غدير فيه نساء يستحممن، وقصّ عليهن قصة امرئ القيس، وأنشدهن:
ألا ربّ يومٍ لك منهن صالح
…
ولا سيما يوم بدارة جلجل
ثم قال: "والذين يقرؤون شعر الفرزدق، ويلاحظون فحشه وغلظته، وأنه قدير على هذا الفحش، وعلى هذه الغلظة، لا يجدون مشقة في أن يضيفوا إليه هذه الأبيات".
يزعم المؤلف أن هذا القسم الأول من انتحال الفرزدق، ثم لا يستند في هذا الزعم إلا إلى أن فيه فحشاً وغلظة يشبهان فحش الفرزدق وغلظته. وتشابهُ الشعرين في الفحش والغلظة يحتمل هذا الذي يقوله المؤلف من أن
الشعر المعزوّ إلى الأول نحله إياه الشاعر الثاني، ويحتمل وجهاً آخر، وهو أن يكون الشاعر الثاني جرى على سنّة الشعراء من متابعة المتأخر للمتقدم في بعض المعاني أو الأساليب، وحملُ التشابه بين شعر الفرزدق وامرئ القيس على هذا الوجه أقرب إلى القبول؛ لأنه الملائم للرواية، ولأن المؤلف لم يقم دليلاً تاريخياً على أن سيرة امرئ القيس تبرأ من هذا الفحش، ومن هذه الغلظة، ولن يستطيع لهذا الدليل طلباً.
ومما يجعلنا نستبعد أن ينحل الفرزدق امرأ القيس شيئاً من شعره: أن الفرزدق لم يكن من قبيلة كندة، ولا أن امرأ القيس من تميم. ثم إنا نجد في تاريخ الأدب قصصاً تنطق بأن الفرزدق كان حريصاً حرص المؤلف على أن ينهب ما تلده أفكار غيره من الرجال، ويجره إليه.
روى المرزباني في كتاب "الموشح": أن أبا عمرو بن العلاء لقي الفرزدق في المِرْبد، فقال له: يا أبا فراس! أحدثت شيئاً؟ فقال: خذ، وأنشده:
كم دون ميّه من مستعمل قذف
…
ومن قلاة بها تستودع العيس
فقال له أبو عمرو: هذا للمتلمِّس، فقال: اكتمها، فلضوالُّ الشعر أحبُّ إليّ من ضوالّ الابل. وفي "خزانة الأدب" للبغدادي: أن الفرزدق نحل نفسه بيتين من شعر ابن ميّادة (1). وذكر صاحب "الأغاني": أنه انتحل أربعة أبيات من قصيدة لذي الرمة (2)، وأنشد بيتاً على أنه من شعره، فقال حمّاد: هذا لرجل من اليمن (3). فالذي يرغب في أن يكاثر بما ليس من نتائج قريحته،
(1)(ج 1 ص 78).
(2)
(ج 16 ص 116).
(3)
(ج 5 ص 165).