الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يفتأ المؤلف يشكو إليكم أشخاصاً يسميهم: أنصار القديم، ويدعي عليهم: أنهم يجزعون جزعًا شديداً لهذه الظاهرة الأدبية، التي يحاول أن يدرسها في هذا الكتاب. وهذا ما دعاه إلى أن يقصّ عليكم شيئاً من تاريخ اليونان والرومان؛ حتى لا يخالط ظنكم أنه رمى الأمة العربية بوصمة لم ترم بها أمة من قبلها.
ولسنا على ثقة من أن في أهل الأدب من يجزع جزعاً شديداً أو هيناً لظاهرة أدبية.
فإن جزعوا، فلاتخاذه البحث في هذه الظاهرة جسراً يعبر منه إلى طعن في الدين ما له به من شبهة أو سلطان، وإن جزعوا، فإنما يجزعون إشفاقًا على تلك الفطر السليمة يحدثها على غير نظام، ويطبعها على عادة البحث الذي يهوي برأس الحقيقة إلى عقبها، ويرفع عقبها إلى مكان الرأس، وإن شاقك أن تشاهد أمثال هذه الصورة النادرة، فادرس كتاب "في الشعر الجاهلي" وأنت خالي الذهن من كل ما قيل فيه.
*
منهج ديكارت، ومنهج ابن خلدون:
عاد المؤلف إلى الحديث عن منهج (ديكارت):
وقال في (ص 45): "ولا بد أن نصطنعه في نقد آدابنا وتاريخنا كما اصطنعه أهل الغرب في نقد آدابهم وتاريخهم، ذلك أن عقليتنا نفسها قد أخذت منذ عشرات من السنين تتغير وتصبح غربية، أو قل: أقرب إلى الغربية منها إلى الشرقية، وهي كلما مضى عليها الزمن، جدت في النفس، وأسرعت في الاتصال بأهل الغرب".
ألم يكن من أدب الأستاذ أن يربي نفوس التلاميذ على عزة ونخوة،
ومن أسباب عظمة النفس ومقامرتها في الشرف: شعورها بأنها غصن من شجرة نبتت نباتًا حسنا، وآتت كلها ضعفين.
إن شعور نشئنا بما كان للشرق من حلوم راجحة، وحياة علمية زاهرة، ليجعلهم من سمو الهمة وقوة العزم بمكان لا تحظى به نفوس يقال لها: انسلخي من شرقيتك، إنها مرذولة، اخرجي في صبغة غربية، إنها أخذت الكمال من جميع أطرافه.
ولا أقصد بانكار نزعة المؤلف أن نشعر الناشئ بأن الشرق في غنى عن الغرب، أو أن نذكر الشرق بكثر مما تسعه الحقيقة، فإن الأول صد عن سبيل الرقي، والثاني جناية على التاريخ، وعلى ما يسميه الأخلاقيون أو اللغويون: صدقاً وأمانة.
يسرنا من أستاذ في الجامعة أو في غير الجامعة أن يتحدث عن (ديكارت)، ومنهج (ديكارت)، وعن الثمرات التي جناها أهل العلم من سيرهم على منهج (ديكارت)، ونكره مع هذا أن يغلو الأستاذ في جحود ما كان للشرق من عبقرية، حتى يتناهى به الغلو إلى أن يسمي الثقافة: عقلية غربية.
تدرس الأمم الراقية تاريخها؛ لأنه علم، وتُعنى بدرسه؛ لأنه يفضي إلى أبنائها بما كان لسلفهم من مآثر فاخرة، فيدخلون معترك هذه الحياة بشعور سام، وهمم يصغر لديها كل خطير، أما المؤلف، فإنه يدسّ في محاضراته فقرات شأنها الإزراء بأي قومية شرقية، وقد نفذت هذه الدسيسة في نفر حتى تيسر لها أن تجمع في نفوسهم بين المهانة والغرور.
لا نمتري في أن المؤلف درس مقدمة ابن خلدون، ولو كان فيه روح من إخلاص، لم ينصرف عن هذا الحديث حتى ينبه على منهج ذلك
الفيلسوف، ولكنه لا يرغب في أن تشعر تلك الطائفة القليلة بذلك المقال؛ لأنه لا يستطيع بعد شعورهم هذا أن يريهم منهج (ديكارت) في صورة المبتكر الذي لم ينسج على مثال، ولا يستقيم له أن يسمّي الثقافة وتحقيق البحث: عقلية غربية.
أوردنا ذلك المنهج في (صفحة 37). وقد زاده صاحبه إيضاحاً بقوله: "فإن النفس إذا كانت في حال الاعتدال في قبول الخبر، أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، صاذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة، قبلت ما يوافقه من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله". ثم فصل القول في أسباب الكذب، فقال:"ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً: الثقة بالناقلين، وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. ومنها: الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه، فيقع في الكذب. ومنها: توهم الصدق، وهو كثير، وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين. ومنها: الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع؛ لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع، فينقلها المخبر كما رآها، وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه. ومنها: تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلَّة والمراتب بالثناء والمدح، وتحسين الأحوال، وإشاعة الذكر بذلك، فيستفيض الإخبار بها على غير حقيقة"(1).
وإذا ضممت هذا إلى ما نقلناه عنه آنفا، رأيت منهجاً متى سلكه الباحث
(1)"المقدمة"(ص 29).