الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى "وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية"؟.
ولعل المؤلف لا يجد في تاريخ العرب قبل الإسلام سوى أن لمكّة حرمة، وللغة قريش فضل فصاحة، فمن اعترف للسان قريش بسيادة في الجاهلية، وأراد أن يضع مبدأ لهذه السيادة، فليبحث عن منشأ تلك الحرمة، ثم ليبحث عن العصر الذي أخذت فيه لغة قريش زخرفها، فإن هو اهتدى إلى ذينك الأمرين سبيلاً، أمكنه تقدير زمن تلك السيادة تقديراً يتلقاه جهابذة التاريخ بارتياح.
*
الاستشهاد بالشعر الجاهلي في القرآن والحديث:
قال المؤلف في (ص 38): "ولندع هذه المسألة الفنية الدقيقة التي نعترف بأنها في حاجة إلى تفصيل وتحقيق أوسع وأشمل مما يسمح لنا به المقام في هذا الفصل إلى مسألة أخرى ليست أقل منها خطرًا، وإن كان أنصار القديم سيجدون شيئاً من العسر والمشقة؛ لأنهم لم يتعودوا هذه الريبة في البحث العلمي، وهي أناّ نلاحظ أن العلماء قد اتخذوا هذا الشعر الجاهلي مادة للاستشهاد على ألفاظ القرآن والحديث، ونحوهما، ومذاهبهما الكلامية. ومن الغريب أنهم لا يكادون يجدون في ذلك مشقة ولا عسراً، حتى إنك لتحس كان هذا الشعر الجاهلي إنما قدّ على قدّ القرآن والحديث؛ كما يقد الثوب على قدر لابسه، لا يزيد ولا ينقص عما أراد طولاً وسعة، إذن، فنحن نجهر بأن هذا ليس من طبيعة الأشياء، وأن هذه الدقة في الموازنة بين القرآن والحديث والشعر الجاهلي لا ينبغي أن تحمل على الاطمئنان إلا الذين رزقوا حظاً من السذاجة لم يتح لنا مثله. إنما يجب أن تحملنا هذه الدقة في الموازنة على الشك والحيرة، وعلى أن نسأل أنفسنا: أليس يمكن
أن لا تكون هذه الدقة في الموازنة نتيجة من نتائج المصادفة، وإنما هي شيء تكلف وطلب، وأنفق فيه أصحابه بياض الأيام وسواد الليالي؟ ".
كانت سوق الأدب في البلاد العربية قائمة، وبضاعة الشعر نافقة. قرائح ترسل المعاني نظمًا، وقلوب سرعان ما تحيط به حفظًا. ويساعد القرائح على ما تصدر من الشعر، والقلوب على ما تعي من بدائعه، أن ليس هناك علوم كثيرة، وفنون شتى تتجاذب القرائح، ويذهب كل منها بنصيب من الفكر، أو يحوز ناحية من القلب. فعلى الباحث في تاريخ الأدب أن يدرس حال العرب كأنه يعيش بين ظهرانيهم، ولا يتسرع إلى إنكار أن تصدر ربيعة أو قيس أو تميم من الشعر في عصر أكثر مما تصدر الشام أو مصر أو العراق في مثله. على أن إقامة الشاهد في تفسير القرآن غير موقوف على الشعر الجاهلي، بل يتناوله العلماء من شعر من نشؤوا في الإسلام؛ كالفرزدق، وجرير، والأخطل، وعمر بن أبي رييعة. ومن التفت في تاريخ الأدب يميناً وشمالاً، ونظر إلى كثرة من نبت في البلاد العربية من الشعراء جاهلية وإسلامًا، عجب لفقدهم الشاهد لكلمة غريبة في القرآن، أو وجه من وجوه إعرابه، أشدَّ من عجبه لوقوع يدهم عليه كلما نقبوا عنه، فمن النظر الخاسئ أن نحكم على هذه الشواهد بالاصطناع، وندخل إلى الحكم عليها من باب موازنتها للمستشهد عليه بزعم أن هذه الموازنة منافية لطبيعة الأشياء.
فإذا كان القرآن وارداً بلسان عربي مبين، وكانت المواضع التي يحتاج في بيانها إلى الشاهد معدودة، وكان الشعر العربي في ثروة طائلة، أفيصدق أحد أن سوق بيت يطابق المعنى المستشهد عليه مناف لطبيعة الأشياء!.
الصواب أن نذهب في نقد هذه الشواهد من نواح غير هذه الناحية؛
كجهة النظر في حال الراوي، أوجهة الذوق الذي تقلب في فنون الشعر، وعرف طرز كل عصر ونزعة كل شاعر.
ونحن لا ننكر أن يكون فيما يساق للاستشهاد على تفسير القرآن شعر مختلف ينبه عليه أهل الدراية بفن الأدب من قبل، أو ينقده مؤرخ، أو أديب مطبوع من أهل هذا العصر، والذي لا يقبله الراسخون في العلم أن يطرح هذا الشعر الذي يدخل في تفسير آية أو حديث لمجرد الدقة في الموازنة بينه وبين الآية أو الحديث.
يعلم الذين يدرسون التفسير والحديث بحق: أنّ ما يستشهد به في هذين العلمين ليس بالكثير الذي لو ثبت اصطناعه، صحت دعوى أن هذا الشعر الذي ينسب إلى الجاهلية ليس منهم في شيء، فهذا تفسير "الكشاف" الذي يعد من أكثر التفاسير حملاً للشواهد اللغوية إنما يحتوي نحو ألف بيت، وفي هذه الشواهد كثير من أشعار المخضرمين؛ كحسان، ولبيد، والنابغة الجعدي، والإسلاميين؛ كرؤبة، والفرزدق، وجرير، والعجاج، وذي الرمة، وأبي تمام، وأبي الطيب، والمعري، وغيرهم.
ثم إن كثيراً من الشواهد المعزوّة للجاهلية تجدها في هذه المطولات التي يستحي المؤلف أن يقول: إنها اصطنعت لأجل أن ينتزع منها شاهد على القرآن أوالحديث، وما لم يكن من هذه المطولات تجده وارداً في قصائد أخرى يصعب ادعاء أن تكون اختلقت لأجل ما تحتوي عليه من البيت المحتاج إليه في الاستشهاد.
فلو بحث المؤلف هذه الشواهد بروية، لوجد الشعر الجاهلي -الذي يحتمل أن يكون مصطنعاً لأجل الاستشهاد على القرآن- مقداراً لو ثبت