الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الغراب بالغراب.
لا نطيل القول في الاستشهاد على أن المؤلف لا يقيم للكلام وزناً أو حسابًا، ويكفي القارئ دليلاً على أنه لا يستطيع أن يضع كتاباً ضخمًا في العصبية بين قريش والأنصار، أنه طاف على أبواب "الأغاني"، ولم يستطع أن يحدثك في هذا الفصل حديثاً يدنيك من نظرية أن العرب عادوا بعد عمر ابن الخطاب إلى شر مما كانوا فيه في جاهليتهم. وهو لا يستطيع أن يضع سفراً مستقلاً فيما كان لهذه العصبية من التاثير في الشعر الذي انتحله الفريقان على شعرائهم في الجاهلية، إلا أن تغمض فيما يحدثك به من روايات موضوعة، وآراء يخذل بعضها بعضاً.
*
العصبية في بني أمية:
قال المؤلف في (ص 65): "وأنت تعلم حق العلم أن هذه العصبية هي التي أزالت سلطان بني أمية؛ لأنهم عدلوا عن سياسة النبي التي كانت تريد محو العصبيات، وأرادوا أن يعتزوا بفريق من العرب على فريق، قووا العصبية، ثم عجزوا عن ضبطها، فأدالت منهم، بل أدالت من العرب للفرس".
جاء الإسلام بمحو العصبيات، وهي إنما تمحى بالسيرة التي تمثل هدايته ومبادئه، وقوام هذه السيرة أمران: التعليم، والعدالة.
كان النبي عليه الصلاة والسلام يقوم على أدب الأمة وتعليمها؛ كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].
وكانت أحكامه وسياسته عليه الصلاة والسلام تمثل العدل والمساواة في أحكم صورة. وبعاملي التعليم والعدل ذهبت عصبية الجاهلية بين المهاجرين
والأنصار، وارتبطت قلوبهم بأشد ما ترتبط به القلوب من الإلفة والإخاء، قال تعالى:{فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
وقال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63].
وقال في وصف الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
فالعصبية تضعف بقوة ذينك العاملين، وتقوى بضعفهما.
وفي كل أمة نفوس لا تقبل الأدب، أو لا تأخذها السياسة العادلة إلى حسن الطاعة، فلا غنى لأولي الأمر من أن يضبطوا سياستهم بالحزم، وكذلك كان الخلفاء الراشدون يشربون سياستهم من العزم والاحتراس بمقدار ما يقتضيه حال الأمة، حتى أواخر عهد الخليفة الثالث، وقد أصبح لينه أكثر من لين الخليفتين قبله، فانتهز عبد الله بن سبأ اليهودي ذلك اللين فرصة، وسعى في طائفة وقعت في مكيدته إلى فتنة يوقدونها باسم الدين تارة، وباسم السياسة تارة أخرى، حتى نزلوا وأراقوا دم الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
كان قتل هذا الشيخ البريء من عصبية بني أمية سبباً لإذكاء هذه العصبية، ولكن حرصهم على الخلافة، وأخذهم بمقاليدها، جعلهم يكتمون أنفاس هذه العصبية في كثير من صروف سياستهم، ولعلك لا تستطيع أن ترى لها مظهراً إلا حيث يلمحون يداً تعمل على تقويض سلطانهم.
فعصبية بني أمية كانت فاسقة عن أمر الإسلام من ناحية، ومغلوبة لسلطانه من ناحية أخرى، وهذا ما ساعدها على أن تبلغ من العمر ما لا تبلغه