الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووقع اختياره على العلة الاستعمارية، فتشبث بها، وزاد عليها ملاحظة الحروب العنيفة التي شبت بين اليهود والعرب، وجعل أيام تلك الحروب أقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه فكرة وضع القصة. هذا مبلغ علمه من التاريخ، وهذا ما اكتفى به في دعوى اضطراره إلى الاعتقاد بأن في القصة نوعاً من الحيلة. وقد نظر جرجي زيدان في المسألة من وجهتها التاريخية البحتة، وتعرض في كتاب "العرب قبل الإسلام"(1) لما جاء في التوراة والقرآن، ثم قال:"وليس لدينا مصادر أخرى تنافي هذه الرواية، أو تؤيدها". وهذه الكلمة أقصى ما يقوله الباحث غير المسلم متى وقف على جانب من الإنصاف، ولكن المؤلف يقصد التشفي من غيظه على دين لا يرضى عن الإباحية المتهتكة.
زعم المؤلف أن اليهود اخترعوا هذه القصة لتأكيد الصلة بينهم وبين العرب، ثم قال: إن فيها نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين الإسلام واليهودية، والقرآن والتوراة، ويعني بهذا: أن محمداً عليه الصلاة والسلام اتخذها أيضاً وسيلة إلى عقد الصلة بين الإسلام واليهودية، وبين القرآن والتوراة؛ ليأخذ الأمة اليهودية بزمام الاحتيال إلى اعتناق الدين الذي قام يدعو إليه، وهو الإسلام. وسنعرج على هذا الرأي في مناقشة الفقرات الآتية؛ لأن المؤلف أعجب به، وطفق يعيده على قراء كتابه مرة بعد أخرى.
*
الحروب بين العرب واليهود:
قال المؤلف في (ص 26): "فنحن نعلم أن حروباً عنيفة شبت بين
(1)(ص 164).
هؤلاء اليهود المستعمرين، وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد، وانتهت إلى شيء من المسالمة والملاينة، ونوع من المحالفة والمهادنة. فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهود أبناء أعمام".
قد عرفت أن هذا الرأي غنمه المؤلف حين غزا "ذيل مقالة في الإسلام"، غير أن صاحب "الذيل" يقول: إن اليهود قالوا للعرب: نحن وأنتم إخوة، وذرية أبي واحد، وكأن المؤلف لم ترقه هذه العبارة، فحولها إلى زعم أنهم قالوا لهم: نحن وأنتم أبناء أعمام.
دخل اليهود البلاد العربية محاربين مستعمرين، وبعد أن ألقت الحرب أوزارها، وانعقدت بينهم وبين العرب مسالمة ومحالفة ومهادنة، اصطنعوا هذه القصة التي تجعل العرب واليهود إخوة كما يقول صاحب "الذيل"، أو أبناء أعمام على ما يقول المؤلف!.
يخطر هذا التعليل على قلب من لم يدرس طبائع الأمم عامة، وطبيعة الأمة العربية خاصة، أو درسها، ولكنه يتغابى عنها في كل حين يدعوه ذوقه وهواه إلى أن يصطنع له حديثاً، ولا يجد مندوحة من التغابي عنها أو الانسلاخ منها.
لم يكن العرب في زعم المؤلف أو صاحب "الذيل" يعرفون الأصل الذي ينتمون إليه، حتى حاربهم اليهود، أو طمعوا في نجدتهم، فاصطنعوا لهم أصلاً ربطوا به قبائلهم، وهو إسماعيل أخو إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
لنقل: إن العرب كانوا يجهلون الأصل الذي ينتمون إليه، وإنهم بلغوا الغباوة أن تصنع لهم الجالية اليهودية نسباً، فيقبلوه على اختلاف قبائلهم،
ولنا أن نتساءل: هل كان هؤلاء العرب يؤمنون بنبوة إبراهيم وإسماعيل قبل اتصالهم بهذه الجالية؟ أم كانوا يسمعون بها ولا يؤمنون؟ أم كانوا لا يسمعون بها ولا يؤمنون؟.
فمان كانوا يؤمنون بها، فالإيمان إنما يكون عن علم شيء من تاريخ حياتهما، وأقل واجب في هذا السبيل معرفتهم أين بعثا، وأين كان مقامهما؟ وإذا كانوا يتلقون عن آبائهم حديث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وفرضنا أن إسماعيل لم يكن نزل بمكة، ولا عاش بها طول حياته أو أكثرها، فمن الصعب على تلك الجالية أن تعبث بعقول أمة كاملة، وتحولها إلى الاعتقاد بغير ما عرفته خلفاً عن سلف دون أن تأتيهم بسلطان مبين.
وإن كانوا يسمعون بنبوتهما ولا يؤمنون، أولا يسمعون بها ولا يؤمنون، فمن الجليّ الواضح أن شرف إبراهيم وإسماعيل وسمعتهما الفاخرة إنما اكتسباها من النبوة، وإذا كان العرب لا يؤمنون بنبوتهما، فهم لا يسلّمون لهما هذا الشرف حتى يسرعوا إلى قبول ما تزوّره لهم الطائفة المستعمرة، فلا بد من أن يضاف إلى حديث الاحتيال: أن الجالية اليهودية أقنعتهم بصحة نبوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حتى وثقا بما لهما من شرف المنزلة وسمو القدر، ورأوا أن ربط نسبهم بإسماعيل يزيد في فخرهم ورفعة شأنهم.
وإذا كان في إمكان الجالية اليهودية أن تقنعهم بنبوة إبراهيم وإسماعيل، فلماذا لم تقنعهم بما هي أحرص على إقناعهم به، وهو نبوة موسى عليه السلام فتكون بينها وبينهم قرابة دينية، وهي أشد صلة وأدعى إلى التآلف والسكينة؟.