الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
العاربة والمستعربة:
قال المؤلف في (ع 29): "وإن قصة العاربة والمستعربة، وتعلم إسماعيل العربية من جرهم، كل ذلك حديث أساطير، لا خطر له، ولا غناء فيه".
من الأمة العربية أقوام يدور حديثهم في الجزيزة، ويتناقل المؤرخون أثراً من أخبارهم؛ كعاد وثمود وطسم وجديس وجرهم، ولم يبق على وجه الجزيرة من ينتمي إلى هذه القبائل، وقد ذكر القرآن بعضها. كعاد وثمود، وقال في شأنهما:{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم: 50 - 51].
وهؤلاء يسمونهم: البائدة؛ لعدم بقاء جماعة معروفة تنتمي إليهم في البلاد العربية.
ويمتد بجنوب الجزيرة قبائل يقال لها: القحطانية، وبشمالها قبائل أخرى يقال لها: العدنانية، ووجدوا في كل من هاتين الأمتين رجالاً لهم عناية بأنساب القبائل، فأخذوا عنهم ما يذكرونه في أصل بني قحطان، وسمّوهم: المتعربة، وتلقوا منهم: أن هذه القبائل العدنانية تتصل بإسماعيل، فسمّوهم: المستعربة، وما تأيد من هذه الأخبار بقرآن، أو بحث حديث يستند إلى محسوس، حل منا محل العلم، وما كان حظه النقل عن أولئك الرواة فقط، نافاه حس أو عقل، أو سنة كونية، رددناه على ناقله خاسئاً، وإن لم يناف شيئاً من هذه الأصول، قصصناه عالمين بمبلغه من الظن، ودوّناه إلى أن نظفر بما نضعه في محله من أنباء هي أرجح منه وأقوى.
*
الشعر القحطاني والعدناني:
قال المؤلف في (ص 29): "والنتيجة لهذا البحث كله تردنا إلى الموضوع
الذي ابتدأنا به منذ حين، وهو أن هذا الشعر الذي يسمونه: الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية، ولا يمكن أن يكون صحيحاً؛ ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئاً كثيراً من الشعر الجاهلي قوماً ينتسبون إلى عرب اليمن، إلى هذه القحطانية العاربة التي كانت تتكلم لغة غير لغة القرآن، والتي كان يقول عنها أبو عمرو بن العلاء: إن لغتها مخالفة للغة العرب، والتي أثبت البحث الحديث أن لها لغة أخرى غير لغة العربية".
قد عرفت أن المؤلف نحا بعبارة أبي عمرو بن العلاء نحواً من التحريف؛ ليجد فيها من الشاهد لرأيه ما لا يجده حين يوردها على وجهها. وقلنا لك مرة، بل مرتين: إن أبا عمرو لا يريد إلا أن بينها وبين العدنانية اختلافاً، وذلك ما لا ينكره قديم أو جديد، ولم يقل: إن لغة اليمن مخالفة للغة العربية، بل سمى لغتهم عربية، وقال: وما عربيتهم بعربيتنا. وخضنا فيما يدل عليه البحث الحديث، وانتهينا إلى أنه لا يعترض الاعتقاد بأن فوارق اللغة القحطانية كانت حوالي القرن الأول قبل الإسلام خفيفة إلى حد أن قبلت الخروج في زيّ العدنانية بعده بسهولة.
هذا شأن الاختلاف بين اللغتين، أما تشابه الشعر القحطاني والعدناني، فله سبيل غير هذا السبيل، والرأي الذي يوافق إجماع الروايات، ويؤيده النظر، ولا يعترضه البحث الحديث: أن الشعراء في جنوب الجزيرة وشمالها أصبحوا من قبْل الإسلام ينظمون الشعر بلهجة واحدة، أو متقاربة، وإليك البيان:
من الواضح الذي تستحي أن تعزوه إلى كتاب، أو تقيم عليه شاهداً: أن لغة قريش كانت أفصح لغات العرب قاطبة، وسبب هذا التفوق: موقع
سوق عكاظ وذي المجاز ومجنّة من ديارهم؛ إذ كانت القبائل تفد عليها في موسم الحج، وتتخذ فيها معرضًا لمصنوعات القرائح، ونوادي للتفاخر بالأحساب والأنساب، أو التقاذف بالوعيد والهجاء، وهذا ما يضع لغات العرب بين يدي قريش، فتلقط منها ما يستخفه السمع، ويتسوغه الذوق، ومن المعقول أن تكون هذه المحافل الأدبية أفادت لغة قريش، وزادتها فصاحة على فصاحتها، وتقدمت بها على سائر لغات العرب شوطًا بعيداً.
وإذا قامت في قلب الجزيرة لغة قبضت على أعنة الفصاحة، وكان للناطقين بها مظهر من مظاهر السؤدد، فمن سنّة تقليد الأفضل والأجود أن تنزل القبائل إلى محاكاة لهجة قريش، ونسج الكلام على منوالها، وأول من يسبق إلى هذا الشأن ذوو الفكر المنتج، والخيال الواسع، والمعاني الغزيرة، وهم الخطباء والشعراء.
فتقارب الشعراء في اللهجة جاء من جهة محاكاتهم بالشعر أفصح لهجة وأشهرها بين القبائل، وهي لغة قريش. قال أبو إسحاق الشاطبي في "شرح الخلاصة" (1):"فإن الحجازي قد يتكلم بغير لغته، وغيره يتكلم بلغته، وإذا جاز للحجازي أن يتكلم باللغة التميمية، جاز للتميمي أن يتكلم باللغة الحجازية، بل التميمي بذلك أولى". ومما قال في توجيه هذه الأولوية: "أن الحجازي أفصح، وانقياد غير الأفصح لموافقة الأفصح أكثر وقوعًا من العكس".
فرغبة الشعراء في أن يكون لشعرهم جولة في البلاد العربية بأسرها، ووجود لهجة تشهد القبائل موطنها، وتألفها أسماعهم، وترتاح لها نفوسهم،
(1) حكاه البغدادي في "خزانة الأدب"(ج 2 ص 134).
مما يحمل هؤلاء البلغاء على أن يحتذوا في شعرهم حذو هذه اللهجة الفائقة المألوفة.
فإذا قرأنا هذه المطولات، ورأينا فيها مطولة لشاعر كندي، ومطولات لشعراء من ربيعة، ولم نشعر فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافاً في اللهجة، أو تباعدًا في اللغة، فالسبب ما لوحنا إليه من أن الاختلاف في أصله يسير، وأن هناك ما يسوق الشعراء إلى أن يتحروا بالشعر أفصح اللهجات، وأكثرها وقعًا على الأسماع.
ونحن نعلم أن قبائل اعتنقت الإسلام، وفيها بقية من حضارة، وعلم بالكتابة، فلا يصح أن يبلى شعرها الذي قيل في عهد جاهليتها، فلا بد أن ترث منه نصيباً مفروضًا، وأن يبقى في يدها ولو الشعر الذي قرب عهده، ولم يتوغل في الجاهلية أكثر من مئة سنة، ومن هؤلاء الذين تقلدوا الإسلام، ويجب أن يكونوا عارفين بلهجة شعرائهم، من شهدوا يوم أصبحت العرب أمة واحدة، وحين بدأت القبائل تراجع مآثر شعرائها، ومفاخر أحسابها.
ولا يخلو هؤلاء اليمانون العارفون بلهجة شعرائهم إما أنهم اشتركوا في هذا السباق، وقدموا للناس أشعار سلفهم بلهجتها الأولى، ولو فعلوا ذلك، لرأينا له في التاريخ أثراً، أو يحدثنا عنه التاريخ، وإن لم يرو لنا منه قافية، كما حدثنا عن أسد بن ناعصة المشبب بخنساء، وقال: إنه "كان صعب الشعر جداً، وقلما يروي شعره لصعوبته (1) "، وإما أن يكونوا قد طرحوا ما بأيديهم من الشعر القديم، ودخلوا السباق بشعر صاغوه في لهجة قريش، وعزوه إلى شعرائهم الأقدمين، ومن البعيد جداً أن يعدموا في هذا
(1)"التهذيب" للأزهري، مادة (نعص).