الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد حدثوك عن أبي عبيدة بأنه شعوبي يبغض العرب، وينشر مثالبهم، وأروك أنه يجمع في أخبار العرب غثاً وسميناً؛ حتى لا تتلقى كل ما يرويه في هذا الشأن على أنه واقع حقاً، وقالوا لك: إنه ثقة فيما يرويه عن العرب من الغريب، حتى لا ترتاب فيما يجيئك على طريقه من كلم يعزوها إليهم، فقد بلوه وألفوه لا يقول في اللغة كذباً.
قالوا: إن أبا عبيدة أوسع علماء عصره رواية لأيام العرب وأخبارها، وأنه كان يجمع الغثّ والسمين، ولم يقولوا كما قال المؤلف: إنه الذي يرجع إليه العرب فيما يروون من لغة وأدب؛ فإن هذا التعبير ظاهر في أن سند اللغة والأدب إنما يتصل به، والواقع أن علماء اللغة والأدب الذين تقدموا أبا عبيدة، أو عاصروه في الطلب، وتلقت عنهم طبقة من بعدهم، ليسوا بقليل، ومن هؤلاء: الخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، وأبو عمرو بن العلاء، والمفضل الضبّي، وأبو زيد الأنصاري والأصمعي، وسيبويه، والكسائي، وأبو عمرو الشيباني، وابن الأعرابي، وأمثالهم.
وأخبار أيام العرب كانت تروى من قبل أبي عبيدة، فقد وصفوا قتادة ابن دعامة السدوسي بأنه كان عالماً بأنساب العرب وأيامها، وقالوا: لم يأتنا عن أحد من علم العرب أصح من شيء أتانا عن قتادة (1). وقتادة هذا من الرجال الذين أخذ عنهم شيوخ أبي عبيدة.
*
علماء الموالي والإِسلام:
قال المؤلف في (ص 114): "وأما غير أبي عبيدة من علماء الموالي
(1)"المزهر"(ج 2 ص 171).
ومتكلميهم وفلاسفتهم، فقد كانوا يمضون في ازدراء العرب إلى غير حد، ينالونهم في حروبهم، ينالونهم في شعرهم، ينالونهم في خطابتهم، وينالونهم في دينهم أيضاً. فليست الزندقة إلا مظهراً من مظاهر الشعوبية".
من يقف على الحالة العلمية للعهد الأول، ويلم بحياة الرجال القائمين بها من عرب وعجم، يعرف صحة قول ابن خلدون في مقدمته:"إن حملة العلم في الإِسلام أكثرهم العجم"، ويدري بعد هذا: أن الكثرة المطلقة من أولئك العجم كانوا برآء من هذا الذي يدسه المؤلف في صدور طلاب العلم بالجامعة.
يقول المؤلف: إن الكثرة المطلقة من العلماء الذين انصرفوا إلى الأدب واللغة والكلام والفلسفة كانوا من العجم الموالي. ويقول: كان هؤلاء العلماء والمناظرون أصحاب ازدراء للعرب، ونعي عليهم، وغضّ منهم، ثم يصف هذه الكثرة المطلقة المؤلَّفة من العجم الموالي بأنهم كانوا يمضون في ازدراء العرب إلى غير حد، وأنهم كانوا ينالون العرب في حروبهم وشعرهم، وخطابتهم ودينهم.
قد سردنا عليك أسماء طائفة من هذه الكثرة المطلقة التي يرميها المؤلف بوصمة عدم الإخلاص للعرب أو الإِسلام، ويذهب به الافتيات على التاريخ إلى أن يقول لك: ينالونهم في دينهم. ومن ذا يصدق بن أمثال سيبويه، وأبي عبيد القاسم بن سلام، والكسائي، والفرّاء، وابن الأعرابي، وأبي عمرو الشيباني تنال ألسنتهم أو أقلامهم من دين الإِسلام؟!.
ولم تكن الكثرة في علماء الكلام والفلسفة للموالي، وإنما الكثرة المطلقة للعجم، وليس كل العجم موالي، ومن العجم أو الموالي من لا يفضِّل
أعجمياً على عربي إلا بالتقوى. وهذا ابن قتيبة -وهو فارسي- قد كان من أشد أنصار العرب، وأوسعهم بياناً في الرد على الشعوبية، وذلك الجاحظ -وهو من الموالي- قد أنفق "ما يملك من قوة ليثبت أن العرب يستطيعون أن ينهضوا لكل هذه المفاخر الأعجمية، وأن يأتوا بخير منها"(1).
وليس الإِسلام دين العرب وحدهم، وإنما هو أدب الإنسانية، ونظام الحياة الراقية، وفي العجم والموالي من نصحوا له نصحَ العرب، فجاهدوا في إعلاء كلمته، وأنفقوا ما أوتوا من قوة في بيان حكمته، ولا يغضّ منه إلا من نشأ على غير روية، وأصبح الشر من طرف لسانه قريباً.
ليست المسألة نظرية محضة حتى يسهل على المؤلف أن يتحدث فيها باجتهاده المطلق، وإنما هي مسألة تاريخية، والمسائل التاريخية لا يترك فيها المنقول إلى غير منقول.
يحكي التاريخ: أن طائفة قامت تنادي بالمساواة بين الشعوب، فسمّوا:"أهل التسوية"، وسمّوا:"الشعوبية"، وربما يغلو بعض أفراد من هذه الطائفة، فيذهب إلى ازدراء العرب، والغضّ من شأنهم، ولا يبلغ ازدراء العرب إلى أن يكون زندقة، وما هو إلا كازدراء التميمي أو الأنصاري لقريش، لا يتجاوز أن يكون هوى غالباً، أو عصبية عمياء، وقد يصف التاريخ بهذه النزعة بعض أشخاص؛ كأبي عبيدة، وإسماعيل بن يسار، وسهل بن هارون.
ولا تتعدى هذه الطائفة أن تنال العرب في بعض عوائدهم وشؤونهم القومية، وأكثر ما تمشي في ذمهم إلى أيام جاهليتهم، ولا تجدها تضرب إلى
(1) كتاب "في الشعر الجاهلي"(ص 115).
ساحة الدين ولو خطوة؛ لأن العجمي والعربي أصبحا فيه على سواء.
وحدثنا التاريخ في مقام منفصل عن المقام الذي حدثنا فيه عن الشعوبية: أن هناك طائفة كانت تتظاهر بأنها "تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، وهي منطوية على زندقة، وقد حمل التاريخ أسماء أفراد كانوا يتهمون بهذه النحلة، والزنادقة في كل عصر مظهر الفسوق والمجون، وأول رذيلة يركبون غاربها رذيلة الاختلاق وسوء التأويل، هم يعرفون أن في الإِسلام حكمة وحجة، وأنه أنشأ رجالاً يمثلون الاستقامة والعبقرية في أسمى مظاهرهما، فيصرفون همهم إلى إراءة حقائقه في غير صبغتها، صالى الحديث عن تاريخ رجاله بمبالغات أو مبتدعات هم برآء منها.
يضطرب المؤلف فيما يكتب؛ لأنه يحب أن يغير حقائق التاريخ، والحقائق لا تتغير بالأقوال المنسوجة على نظام يقول فيما سلف: إن الأدب العربي لم يدرس في العصور الإِسلامية الأولى لنفسه، وإنما درس من حيث هو وسيلة إلى تصير القرآن وتأويله، واستنباط الأحكام منه ومن الحديث. ويضاهي هذا قولهُ يصف الأمة العربية في رواية "حديث الأربعاء":"كانت تنجذب إلى الوراء بحكم الدين، وبحكم اللغة التي لم تكن كغيرها من اللغات، وإنما كانت لغة دينية، فالاحتفاظ بأصولها وقواعدها، والاحتياط في صيانتها من التطور وآثاره السيئة واجب ديني، لا سبيل إلى جحوده"(1).
يقول هذا وذاك، ثم لا يجد مانعاً من أن يقول لك: إن الكثرة المطلقة
(1)(ج 1 ص 11).